روح هادئة تجتاحها سكينة علوية، ونفس آمنة لأسرار الوجود، وعقل مستأنس بالحقائق يسكنه اليقين لا تقبع فيه الأوهام أو تلفه الهواجس.. انسجام وتآلف فطري يسمح بتألق الملكات.
تجربة إنسانية خالصة تماثل تجارب المتصوفة في الشفافية والمكاشفة والتبسط والامتلاء والترفع والعزوف وتشبه تجارب الفلاسفة في عمق المحاولة بلوغًا للحقيقة والوقوف على كنه الأشياء وتطابق تجارب الأدباء في ترجمة الذات الإنسانية وتفتيت ما يمكن من ألغاز الكون، لكن بفعل ما تحمل دواخله من كنوز الحكمة المستترة التي لا يبلغها إلا جبار.
سعيت إليه كثيرًا وكان يتعذر باعتلال الصحة وتطاول العمر الذي أقعده لا يبرح مكانه، لكن كل هذا لم يمثل لدي شفيعًا إذ كنت ألتمس التواجه مع تلك الطاقة الذهنية الخلاقة، التي تبدد لدي شيء من غياهب القضايا ومتاهاتها، وظللت آملا في سراب إلى أن حان الحين وطلب إلى مساعده ضرورة حضوري إليه لأسباب لم يبدها، وقد غمرتني فرحة لقائه..
فتح لي الباب متكأ على عصاه المتهالكة، بدا لي وجهه كقرص الشمس الغاربة المودعة في بشاشة، أصابني ذهول المشهد وصرفني نحو خواطر مؤلمة، أجلسني حياني..
سألني عن الحملة الضارية التي كنت أشنها في الصحف حول عميد المستشرقين جاك بيرك؟ أجبته بكلمات مقتضبة لأشق لنفسي مجالًا حواريًا آخر أنهل فيه من ذلك النبع الفياض، وقد ظللت وقتًا سهوت فيه عن الوقت، إذ انهمرت على رأسي أفكار ورؤى وإحساسات مبثوثة عبر كلمات لاذعة منه تشخص مواقف، وتقيم أشخاصًا وأعمالًا، وتنظر لتيارات غائبة، وتنتقد تيارات حاضرة، لكنها في جملتها كانت تمثل إعلاءً لقيمة أو مبدأ تساميًا بالواقع وتسجيلًا لصفحات مشرقة لتاريخ الأدب والنقد والثقافة والفكر.
كنت أرقبه وقد تهلل وجهه الأحمر القاني إثر تحول الكبت إلى بوح لشاب طلب إلى شيخه عونًا بكلمات فأهدى إليه أسرارًا غالية زادت حيرته وقلقه، بل وطلب يسأله أي شيء أو أي رغبة تلبى له، بعد أن أثقل كاهله بأمانة للأجيال المقبلة، ولم يخطر لي إلا ضرورة لقاء العلامة محمود شاكر، وقد التقطت أذناي نبرات التبرم تلوح على لسانه، لكنه نهض لوعد قطعه حتى لو خالف هواه، وقد كانت مكرمة كبيرة من شيخ شقت سفينة الزمن على وجهه أخاديد وأنهكت قواه، لكنها لم تتسامح مع ذاتها إلا حين تركت على عقله بصمات خالدة يستلهمها كل من يقرأ معاني الزمان والمكان والبشر!