عرفته عبر كلماته التى دأبت عمرى أقرأها وأعيها وأستحضرها فى يقظتى وغفوتى، لم تكن مجرد كلمات صماء بالمعنى الذى يفهمه الناس، وإنما كانت معزوفة لغوية وفكرية وثقافية وروحية تشغف من يقرأها أو يسمعها، يحكمها نسق من الألفة الذاتية مع الكلمة والمعنى والمقصد والتوجه.
دلتنى كلماته التى خطها على كلماته التى غيبها، فصارت كلاهما نسيج متصل لا تستطيع الوقوف دون أن يكون للعقل تصارع حميم على استدعاء الأخرى.
كان يعشق جلال الكلمة ووقارها وهيبتها منطلقا من يقين كونها تحمل مفاتيح الأزل والأبد وأنها تمثل فاصلا حادا بين متناقضات. بل إنها تشق طريقا جديدا فى التفكير وطرائف المعايشة فضلا عن كونها ذات أثر مهيب على النفس والشعور.. أثر يشطر الزمن بين ماض وحاضر وربما يمثل بصمة بارزة فى وجه المستقبل.
لم تكن جمله مقاطع متراصة بل سياقات سحرية لها دلالات كاشفة لما يرمي إليه، لم تنحرف منها واحدة عما أراد لها، لم تخضع واحدة منها لهوى، كلها وعلى إطلاقها كانت تمثل رحلة عاصفة مع الحقائق على اختلاف طابعها، وقد مرت سنون طوال لكنها لم تغير من توصيفاته لتلك الحقائق لأنه ظل معلقا فكرا ونفسا بها مستقصيا طرائف التاريخ وتحوراته وامتزاج الحضارات وتآلفها و تصارعها أيضا. ذلك تأسيسا على قناعة قد اجتاحت عقله وهى أن الحقائق لا يتغير جوهرها مهما طالتها الزوابع التى تحولها نحو متجهات تطمس طبيعتها وأصلها.
ظل طويلا تؤرقه منظومات اللغة وفضاءاتها، بل ظل يجوب بين منعطفاتها ليشكل منها نموذجا خاصا يمثل ذاته وفكره قبل ذاته مستقصيا الإجابة عن كيفية أن تصبح اللغة مرآة للفكر؟ وكيف يصبح الفكر شارحا صادقا لدقائق اللغة؟ وكيف يجتمعان لتأكيد إشكاليات القضايا فى عمق أبعادها؟، لذا فقد رأيته يكره الإفاضة والتطويل ويعشق الاختزال والتكثيف لا يراهن على الكم لأن ثقته مطلقة فى الكيف والعمق وغواية التحليل لينتهى إلى المكونات المحورية المحركة لكل مرئى فيها.
لذا فالأفكار عنده قداسة وللمعانى فيض وروح وللفظ طاقة نافذة وتلك هي مفردات المغامرة الكتابية.
ظل عقله مستعمرة مستقلة تتمخض فيها الأسئلة والتساؤلات ويتصارع فيها طوفان الدهشة والاستنكار وعواصف السكينة والاطمئنان وأطياف اليقين وموجات الشكوك، وقد أدى به طموحه دخول دوائر الخطر المعرفى، فكان كل موقف أو فكرة تستدعى لديه كل ما قيل عنها من جانب العلماء والمفكرين والشعراء والأدباء. وهو إبحار مزعج لأنه يقوم على البحث عن الوحدة العضوية بين التفصيلات وما أشقها.
ذلك أنه عقل يأمل فى الإطاحة بالخوافى والغوامض والطلسمات ويعبث بمعادلة المعلوم والمجهول والثابت والمتحول والدائم والعابر، لم تحبطه مسيرة محاولات أولئك الذين غاصوا بعقولهم فى دروب لا نهائية بحثا عن الحقيقة، بل شغفه ذلك بحثا عن مسارات أخرى حققها تراكم التجربة الإنسانية الحافلة ببصمات الزمن، تلك التى تجدد آفاق الرؤية دائما، لذا فقد ظلت حياته اشتباكًا دائمًا مع اللحظات لا واحدة منها تشابه الأخرى وبالطبع كانت لحظاته أيامًا وأيامه سنوات، إذ تختزن ذاته محيطًا أسطوريًا من الأفكار والأحداث والتصورات والظنون والهواجس تظلل كل منها تفسيرات ممتدة متشعبة يلتقي أقلها ويتصادم أغلبها.
لم يكن يعرف أى معنى للفراغ، إذ لم يكن يفكر فيما أنجزه لأنه كان أسير اعتقاد أبدى بأن ما لم ينجزه هو أكثر وأكثر ليحقق جراء ذلك دافعية هائلة، وبالتالى ظل يدأب ويدأب وراء الجديد من الأفكار والآراء والأحلام ليرتاد آفاقا ترضى جموحه مؤكدا لذاته قيمة ثمينة لكنها مهدرة عند الكثيرين ألا وهى الوقت.
يعشق الكتب يعتذر لكل كتاب لم يقرأه، يجري حوارية صامتة بين موضوعاتها ويندم على كل معلومة انفلتت من عقله، يقدر عذابات السطور المتراصة يلتهم دلالتها يبحر في عقول كتابها لديه غرام بعناوينها تفتنه مسيرة جبابرة القلم.
صادق وعاشر رموز زمانه مصريا وإقليميا وعالميا أقام جسور عتيدة مع أفكارهم ورؤاهم تصدى لبعضها واجتاحته قناعات بأخرى، كان الميثاق الأسمى بينه وبين شيوخ الكلمة هو نمط الأفكار على تنويعاتها كيف تتحرك؟ ومن أين تبدأ؟ وإلى ما تنتهى؟ وأى أفق جديد يمكن أن تشقه تلك الأفكار في دروب الحقيقة في علاقتها بالمدى المستقبلى؟
لم يخط قلمه حرفا تملقا وزلفى لأن كرامته تتقدم دائما الأشخاص والأشياء، خسر الكثير والكثير ليحافظ على كنز الذات المترفعة رغم كونه قد عاش زمان بيع فيه الكبرياء والكرامة والشرف والنزاهة، زمان لم يستعصِ فيه شيء على الشراء والمساومة.
تعددت معارفه وصداقاته واتسم بعضها بالفارق العمري السحيق واختلاف الأهواء والنوازع وتناقض المفاهيم والمشاعر وتأرجحت فيها درجات الوفاء لكن التقت أغلبها حول المبادئ المطلقة والقيم التي لا تطمسها تحولات الأيام.
تلك كانت ملامح صورة قلمية رسمها كاتب عن كاتب لكن ترى من يكون هو؟ غير كونه النسخة الأصلية لكاتب هذه السطور!!