السعادة بين التعاسة الأمريكية والإحباط الصهيوني

28-3-2024 | 16:04

السعادة.. حلم أحلام البشر أفرادًا وجماعات وشعوبًا وأنظمة... هي الأفق المجهول الذي لا يمل الإنسان من استكشاف جوهره ويظل يدأب ويتهالك لينعم بلحظة حانية تحقق له الاستقرار والتوازن النفسي والعقلي والبدني... وكذلك هي اللحظة الإعجازية التي تسعى الأجيال على تعاقبها لتبلغ غايتها حتى لو تعددت معانيها، لكنها في ذات الآن هي اللحظة التي تقابلها شوط طويل من الأحزان والهموم والكآبة والتعاسة والبلاء والشقاء.

ولعل السعادة كمعنى ومفهوم محوري قد أنهك الفلاسفة بحثًا ودراسة واستقصاء باعتباره معنى أمثل للإنقاذ من عواصف الزمن التي حركت العقل الإنساني المعاصر نحو حتمية تخصيص يوم عالمي للسعادة وقوفًا على استشعار هذا المعنى وسريانه في أرواح الشعوب ومدى انعكاسه على واقع الحياة، من ثم كان صدور التقرير العالمي للسعادة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة سعيًا نحو عالم أفضل وأكثر رقيًا وتحضرًا لاستنهاض الحكومات نحو تعزيز السعادة في مجتمعاتها.
 
ولم تكن مفاجأة بحال أن يتراجع مؤشر السعادة في المجتمع الأمريكي نظرًا للعديد من المعطيات والظرفيات السلبية التي يعيشها العالم جراء السياسات الأمريكية الرعناء التي باتت هدفًا لكل اتهام.

وأغرب من ذلك أن تتقدم الدولة العبرية في التصنيف على الراعي الأمريكي الأمين لطيش وجنون سياسات تلك الدولة، ذلك الطيش الذي خولها أن تشق عصا الطاعة الأمريكية وأن تنفلت من كل ميثاق إنساني أخلاقي عقائدي سياسي إستراتيجي؛ لأنها لا تقدس غير ذاتها بل وترى أن هذه الذات لها الأولوية المطلقة على كافة الشعوب والأجناس والكيانات؛ لأنها دائمًا ما تستلهم السماء في كل فكر وفعل وأنها الفاعل الأوحد في سيادة الأسطورة العنصرية والأقدر والأحق بكل شيء وأي شيء.

وعلى ذلك كيف للمجتمع الأمريكي الأكثر رفاهية بين المجتمعات، بل والأكثر تحضرًا أن يتقلص داخله حجم السعادة وتجتاحه سحب التعاسة؟ وكيف للمجتمع العبري الذي يتبوأ مكانة متقدمة طبقًا لصعود مؤشر السعادة داخله أن تستولي على فئاته ونخبه وعامته هالات الإحباط الداخلي والتخوف من إرهاصات زوال الدولة؛ طبقًا لبروز أشباح الثمانين عامًا التي تسكن الكيان العبري شعبًا ونظامًا؟ ولعل كل ذلك إنما يؤكد وجود علاقة إيجابية بين شطحات السياسة وأطياف السعادة فكلما اشتدت الأولى وعتت، توارت الأخرى وتلاشت، ذلك استدلالا بصدارة دول الشمال الأوروبي على غيرها رغم كونها ليست الأكثر ثراء!!

يحدث هذا لأن السياسة هي البؤرة المركزية في صناعة التحديات وتشكيل الأزمات التي يحصد العالم المعاصر جرائرها على غرار مشكلات الجوع والطاقة والكوارث البيئية والزيادة السكانية وتصاعد معدلات التضخم والمعضلة الاقتصادية وتصدع ركائز العدالة الاجتماعية وشبكات الفساد الدولي وإشكاليات التقنية المعاصرة وبانوراما الحروب، إلى غير ذلك من التأزمات الحالكة والمهددة للمستقبل الإنساني.

لكن السؤال الذي يتجلى من ثنايا هذا التقرير ومحتواه الزاخر بتناقضات عدة هو إذا كانت الدولة العبرية تمثل المركز الخامس في التقرير العالمي للسعادة على مستوى مائة وأربعين دولة، فهل يظل مؤشر السعادة بعد عملية طوفان الأقصى عند درجة ثباته أم انخفض بالضرورة؛ نظرًا لانتشار حركات التمرد والاستياء والهجرة التي اجتاحت نواة المجتمع؟ وهل تأرجح مؤشر السعادة لدى شعوب الشرق الأوسط التي عايشت أكثر من ربع الصراعات الدولية، بينما هي لا تمثل أكثر من ثمانية بالمائة من سكان العالم؟ وكذلك كيف يمكن قياس مؤشر السعادة بمنطقة الشرق الأوسط وقد بلغ عدد ضحايا الربيع العربي قرابة نصف مليون أو ضحايا الحرب العراقية الإيرانية البالغ نحو المليون؟ وهل فاجعة غزة ما كانت لتحدث لولا القذائف الأمريكية وهو مستوى جديد من الانحطاط تهبط إليه السياسة الأمريكية، كما قال الكاتب الأمريكي "جاك ميركينسوني"؟ وكيف تنعم هذه المنطقة بمظلة السعادة وهي تشكل بؤرة المطامع الاستعمارية ومخططات الابتزاز منذ قرون طوال؟ بل وكيف تنعم بهذه المظلة وهي تعاني ممارسات العنصرية المقيتة؟

إنه لن تتبدى ظلال السعادة للشعوب والأنظمة إلا حين يصبح الأمان والسلام والرضا والاستقرار السياسي والاجتماعي هي مفردات الدستور الإنساني التقدمي. 

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة