تشريح العقل الإخواني

15-10-2025 | 14:42

تحت مظلة الزمن تجلَّت أحداث، وبرزت توجهات، وسادت وقائع ونظريات وحروب ومؤامرات، أعلت مبادئ وهدمت قيماً، ولم يكن وراء كل ذلك غير تلك الطاقة العقلية التي غيَّرت وبدَّلت وحوَّلت وسكنت واشتعلت عبر مسافات مترامية.

وبالطبع كانت هناك عقول أسيرة وأخرى متحررة، عقول متهاوية وصاعدة، واعية وطائشة، طموحة وخاملة، تسمو وأخرى تسقط، عقول تترفّع عن الصغائر وأخرى تجنح إلى الشر.

ولعل كلمة الشر التي غزت الساحة المصرية منذ قرابة قرن كانت دوماً لصيقة الصلة بالجماعة الإخوانية، التي مثَّل تاريخها على امتداده طوفاناً من الكراهية للأوطان والأديان والهوية والتراث والشخصية القومية والتاريخ والثقافة والبشر.

لأجل ذلك مارست الجماعة شتى أنماط العنف اللفظي والاجتماعي والسياسي والديني، وهو ما يدفع بالطبع نحو الاستغراق في طبيعة وأغوار هذا العقل، استكشافاً لبعض خطاياه التي تبدأ بكونه عقلاً دائرياً يبدأ حيث ينتهي وينتهي حيث يبدأ، لا يغيّر مقدماته ومسلماته وبداهاته، يفكّر بطريقة اعتيادية وبالتالي ينتهي إلى نفس نتائجه القديمة، وهو ما يجعله لا ينتج غير نمط واحد من السلوك.

كما أنه عقل صراعي لا يهدأ ولا يستقر إلا في ظل خصوم وأعداء، لأنه يرفض الأمن والسلام الاجتماعي، لا يصارع الواقع لينتج منه نمطاً إيجابياً فاعلاً، إنما يريد واقعاً مستنسخاً من ذاته التي تحظى بدرجة عليا من السخط المجتمعي.

لكن هذا العقل لم يَحُدَّه جموحه عن أن يدخل دوائر الجنون حين أخذ يعمل على تطويع المقدس من أجل الدنيوي، أي التعامل مع النص الديني بأعلى درجة من المرونة المخلّة التي تسمح له بالاستحواذ والسيطرة على كل أمر دنيوي غير مستباح دينياً أو أخلاقياً، وبذلك يخوض هذا العقل معركة جعل المقدس أداة ووسيلة، وجعل مفردات الدنيا هي الغاية التي يجب التهالك عليها وعدم التفريط للآخر في أن يكون له منها شيء. ذلك بحكم العنصرية الدينية التي يمارسها هذا العقل بصفته صاحب نزعة استعلائية تتشدق بأوهام العصمة والقداسة، ومن منطلق رسوخ هذه العصمة في بؤرة هذا العقل تتجلّى أطياف الوصاية الدينية على البشر، واضعة بعضهم في أرقى مراقي الإيمان وبعضهم في مراتب الكفر.

ومن هنا فإن التلويح بالعنف وإهدار الدم يتبوأ مركز الصدارة في العقل الإخواني رغم كونه يعد من أكبر الموبقات في العقيدة الإسلامية، وليست مرجعية كل ذلك إلا لكونه عقلاً انغلاقياً أحادياً يرفض الآخر، في محاولة ساقطة لفرض طابعه الفكري على الجماعة المصرية باعتباره ممثلاً لجوهر العقيدة الإسلامية، بحيث يمثل ذلك ذريعة قوية في اتجاه بلوغ السلطة من أجل إقرار وجود مجتمع إسلامي تمتد أواصره نحو دولة الخلافة.

وبصفة عامة، فالإطلالة الفاحصة للعقل الإخواني تؤكد أنه عقل تجتاحه التناقضات، وهو ما لا يؤدي بالطبع إلى صحة النتائج، إضافة إلى النقطة الأخطر، وهي أنه لا يدرك وجود هذه التناقضات، ويتعامل مع أطراف المعادلة باعتبارها مفردات متقابلة، بينما هي تتمحور بين العمق والسذاجة، والضخامة والخفة. يحدث هذا لأنه عقل لا يمارس فضيلة النقد الذاتي التي تمثل المعيار الأصوب عند قياس مستوى الأداء الفكري، وفي ذات الآن يمارسها بإجادة مطلقة حين ينفصل عن ذاته مصوباً سهامه نحو الآخر، وهو ما يطرح فكرة الازدواجية الصارخة المثيرة للشكوك والمطيحة بالمصداقية.

واستكمالاً، فهو العقل الذي خالف المبدأ الاستراتيجي الثابت طيلة التاريخ الإنساني، القائل بضرورة تقوية الذات وإضعاف الآخر، لأنه كان الفاعل المحوري في إضعاف ذاته وتقوية الآخر. لذا فقد ظل مهزوماً إلى الأبد، ويكفي أن نسوق من الاستدلالات أنه لم يستطع أن يغيّر طبيعة الوعي المجتمعي المصري، بل حوّله إلى وعي مضاد، لأنه عقل تابع مستعبد خاضع لخدمة الأهداف الاستعمارية، لا يملك رؤية وطنية أو حساً قومياً، لأنه متشيّع للكيان الصهيوني متحالف معه، بمعنى أنه عقل يناصر العدو ويخذل أبناء وطنه وعروبته وإسلامه.

وبالطبع، كيف لهذا العقل أن يحمل سمات أي مشروع حضاري نهضوي؟! وهو عقل مريض سحقته الظواهر والأوهام، لأنه رفض قوانين العقل الفطري واتبع هواه، خذلاناً للمنطق، واحتقاراً للواقع، واستعلاءً على البشر.

إن كل الذين يتحدثون عن المصالحة مع الفصيل الإخواني عليهم ألا ينسوا أن الجماعة كانت أهم ركائز المشروع الأمريكي في المنطقة العربية ومصر على وجه الخصوص، وأنها قد ساومت على التراب الوطني، وأن تاريخ الخيانة الوطنية محفور في الذاكرة المصرية، وبالطبع كيف للعظام المحترقة أن تنسى؟ إلا بتجديد ثورة الوعي ضد الوباء الإخواني، وإحياء الطموحات القومية، والالتفاف حول قيم التعايش والتواصل والتسامح والحوار والانتماء.

لذا فإن مخاضات التجربة المريرة في التعامل مع هذا العقل لن يسمح الضمير الأخلاقي بتكرارها ثانية، لأن الشعوب تأبى دائماً استعادة الخطيئة القومية.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: