كثيراً ما تتعانق الأساطير والحقائق لتنسج القصص والروايات حول شخصية من الشخصيات، ومن هذه الشخصيات العديدة شاعر الصعيد الفذ "ابن عروس" اللص قاطع الطريق الذى تحول بين ليلة وضحاها إلى متصوف زاهد وشاعر حكيم، يجوب نهاره لنصح الناس ويسهر ليله فى عبادة رب الناس.
موضوعات مقترحة
أصل ابن عروس
البعض اختلف حول أصله بين رجل وُلد فى قرية مزاتة قوص أو في قفط بالصعيد، أورجل بربرى ولد فى تونس ورحل إلى مصر، وبين من قال أنه محض خيال لا وجود له، ومن قال بل رجل واقعى خلده شعره، ومن هذا الاختلاف ندخل إلى العالم الأسطورى لشاعر الصعيد ابن عروس.
تزعم الروايات أن ابن عروس كان حياً فى أواخر القرن السابع عشر، حين كان حكم مصر مٌقسمًا بين العثمانيين والمماليك، وكان الصعيد لا يدين إلا لحكم العربان وقاطعى الطرق، وفى هذا الأثناء بزغ نجم ابن عروس كواحد من شيوخ تلك العصابات التى يزخر بها الصعيد، وكان يأتمر بأمره عصابة من الفاتكين واللصوص لها سطوة عظيمة تخشاها الحكومة ذاتها.
اللص الشريف وفتوة الحرافيش
تزعم الروايات أن ابن عروس قد هزم سناجق الوالى (وهم العسكر الموكلون بقبض الإتاوات والجباية من فلاحى وتجار الصعيد)، فمنعهم من جباية الأموال خاصة من ضعفاء الفلاحين والتجار، فظهر ابن عروس بصورة "اللص الشريف" الذي يستقى حكايته من ققص الشعراء الصعاليك في الجاهلية مثل الشاعر عروة بن الورد العبسي، أو الفتوة الذى يحمى الحرافيش والمهمشين والغلابة، وهي الفكرة التي بني عيها أديب نوبل ملحمة الحرافيش، وعن هذا المعني يقول ابن عروس:
اللى يداديك داديه
واجـــعل عــيالك عـبيده
واللى يعاديك عـاديه
روحك ماهياش فى إيده
ومع هذه الصورة التى لا تجعلك تترك حكماً صحيحاً على الرجل، هل هو لص فاتك يحكم فئة من الصعاليك، أم فتوة يدافع عن حقوق المقهورين، أم مجرد قاطع طريق يستحل أموال السلطة والحكومة ويعف عن أموال الناس فيظهر فى ثوب اللص الشريف ربما يكون هذا الرأي الأخير هو أصح الآراء التى تدفع نحو طريق التحول والتغيير فى مسيرة ابن عروس نحو التصوف والزهد.
لحظة التغيير
تدعى الرواية أن ابن عروس ظل على هذه الحال من اللصوصية التى يصاحبها التخفيف من وطأة السلطة على صغار القرويين فى الصعيد حتى بلغ الستين، وهنا شعر انه فرّط فى حق نفسه من الدنيا وقرر أن لاينسى نصيبه منها ففكر فى الزواج، ولكنه أساء الاختيار، حيث فكر فى الزواج من عنيزة ابنة أكبر مساعديه والتى كان يكبرها بأربعين عامًا، ويبدو أنها كانت على قدر كبير من الجمال جعلته يهيم بحبها، حيث قال مقطوعته الشعرية الشهيرة:
ويا بت جمالك هبشنى
والهبشة جات فى العباية
رمان خدك دوشنى
خلى فطوري عشايا
تم الاتفاق على الزواج، ولكن عنيزة لم يعجبها أن تتزوج رجل فى سن أبيها فقررت الهرب مع أحد أتباع ابن عروس، وحين جاء ابن عروس بموكب الزفاف ليأخذ عروسته من بيت أبيها، وجدوا عنيزة قد هربت، وانتشر خبر هروبها فى العُرس الذى اجتمعت له الصعيد، وتسبب هذا فى فضيحة كبيرة لأبيها وابن عروس وسائر عصابته، فركب ابن عروس فرسه ومضى فى البحث وراء عنيزة وفتاه الخائن ولو لأخر عمره، وانقلب شعره فى حب عنيزة إلى كراهية المرآة بوجه عام حيث قال:
كيد النسا يشبه الكي
من كيدهم عُدت هارب
يتحزموا بالحنش حي
ويتعصبوا بالعقارب
وقال أيضاً :
يا قلب لاكويك عاشق بالنار
وإن كنت عاشق لازيدك
يا قلب حملتني العار
وتريد من لا يريدك
ويبدو أن ابن عروس فى رحلة البحث عن الثأر لكرامته قد خصص شعره للتحذير من تلون الناس وخيانتهم فيقول:
يا قلبي إوعى تعاشر الدُون
ولا تكلِّمُه بانشراحة
تكلمه الكلامِ موزون
تلقاه يرد بقباحة
أوعى تقول للنـدل يا عـم
وإن كان على السرج راكب
ولا حد خالى من الهم
حتى قلوع المـراكب
الندل له طعم مالح
وله خصايل ذميمة
القرب منه فضـــايح
والبعد عنه غـــنيمة
ابن عروس من شهوة الانتقام إلى نور الحب الإلهي
وطالت رحلة بحث ابن عروس عن عنيزة التى أعطته درساً قاسيًا، فقد ترك عصابته وأعماله، وأصبحت قصته حديث الناس فى الصباح والمساء، وامتد غياب ابن عروس لأيام وشهور، يدور بين البلدان والدور حتى يأس أفراد عصابته من عودته.
وفى أحد أيام البحث عن عنيزة، أحس ابن عروس بالتعب فقرر اللجوء لمغارة بأحد الجبال، وغلبه النوم فنام فرأى والده فى المنام يلومه على منكر أعماله، ويأمره بالبقاء فى المغارة ستين يوم ويترك عنيزة وعشيقها لانتقام الله، ويبادر بالصلاة والاستغفار من ذنوبه، عمل ابن عروس بنصيحة والده وظل فى المغارة شهرين يصلى ويناجى مولاه، ويتغذى على تمر النخيل القريب من المغارة، ثم خرج ابن عروس من المغارة بغير الحالة التى دخل عليها، لقد أصبح شيخاً زاهداً غير راغب فى الدنيا ولا باكيًا عليها، فتفجرت الحكمة من بين شفتيه فيقول واعظاً:
حرامى وعاصى وكداب
عاجز هزيل المطايا
وتبــت ورجــعت للــبـاب
هيا جــــزيل العطايا
كما أننا قد نلمح أحيانًا علامات الزهد على وجه الشيخ الذى أدركته الحكمة بعد زمن طويل من السرقة وفرض الإتاوات فينشد:
كسرة من الزاد تكفيك
وتبقى نفســــك عــفيفة
والقــــبر بكره يطــويك
وتنام فى جار الخليفة
ومن هنا كانت تجربة ابن عروس الفاشلة فى حب المرأة سبيلاً له فى الوصول إلى حب أسمى وأعظم هو حب الله الواحد الذى أجرى على لسانه جواهر الشعر والبيان الذى لا زلنا نتغنى به حتى الآن، وهذا الحب ذاته هو الذى أخمد شعلة الثأر والانتقام عند ابن عروس، فأصبح أكثر إيمانا بقوله:
ولابد من يـوم معلـوم
تترد فيـه المظـالم
أبيض على كل مظلـوم
وأسـود على كل ظـالم
وسواء أكانت تفاصيل حياة وعشق ابن عروس التي وصلت إلينا حقيقية أم محض أسطورة؛ فإنها ألهمته فناً صعيدياً خالصاً، هو «فن الواو» الذي يُعرفه النقاد على أنه «المُربعات الشعرية» من بحر المُجتث، الذي يتكون من التفعيلة (مستفعلن فاعلن) في كل شطر، ويتكون كل مُربّع من أربع شطرات متبادلة القافية، أي أن للبيت الأول والثالث قافية موحدة، والثاني والرابع قافية موحدة». وسُمي بـ«فن الواو» لأن من يُلقيه قد اعتاد أن يبدأه بـ «وقال الشاعر»، وفي رواية أخرى أنه كان شكل من المباراة الشعرية التي يشترك فيها شاعران، الثاني يبدأ مُربعه بـ «وأزيدك»، وكثيرًا ما كانت تلك الأشعار تُلحن وتعزف على الربابة والطبول.
وستظل دوماً سيرة ابن عروس أحد أهم مناهل الفولكلور الريفى فى قرى صعيد مصر.