أصدرت مكتبة الإسكندرية من خلال مركز دراسات الحضارة الإسلامية، وبالتعاون مع مشروع ذاكرة العرب، العدد الثامن من مجلة «ذاكرة العرب»، والذي نشرت فيه دراسة بعنوان "أثر الفقيه الزاهد أبي بكر الرازي الحنفي (ت493هـ/1100م) في الحياة العلمية والاجتماعية بالإسكندرية"، وهي أحدث الدراسات للأستاذ الدكتور إبراهيم عبد المنعم سلامة أبو العلا، أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ورئيس سم التاريخ والآثار المصرية والإسلامية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية.
موضوعات مقترحة
صفحة منسية عن سيرة زُهاد الإسكندرية
وتلقي الدراسة أضواء جديدة على مناقب الفقيه المفسر الزاهد الصوفي أبي بكر محمد بن إبراهيم بن الحسن الرازي الحنفي وأحواله، ومحاسن آثاره، ومعرفة مرتبته، وعصره، ودوره في الحياة العلمية والاجتماعية بالإسكندرية في مستهل العصر الفاطمي الثاني (466-567هـ /1073- 1171م)، وهو ينتسب إلى الري، وهى بلدة كبيرة مشهورة من أمهات البلاد وأعلام المدن من بلاد الديلم بين قومس والجبال، وهى تنسب إلى الجبال وليست منها، وأحيانًا تفرد عنها وتُضم إلى الديلم، وألحق النسّابون الزاي في النسبة تخفيفًا؛ لأن النسبة على الياء مما يشكل ويثقل على اللسان، ولذلك قيل: النسبة إليها الرازي على غير قياس.
وتكشف الدراسة عن صفحة منسية من تاريخ الزهاد والمتصوفة في الإسكندرية، فلم يشر مصنفو طبقات الأولياء، والصوفية، والنُسّاك إلى أبي بكر الرازي، وستكشف الدراسة أيضًا عن صفحة منسية من تاريخ التواصل الحضاري بين مصر ومراكز الثقافة بالمشرق الإيراني؛ فقد أغفل الباحثون المتخصصون في دراسة العلاقات الفكرية بين تلك البلاد أثر أبي بكر الرازي في تشكيل ثقافة طلاب العلم السكندريين، والمغاربة، وغيرهم، ممن تتلمذوا على يديه بالإسكندرية، وجهوده في نشر المذهب الحنفي بها؛ فلم يُشر إليه خالد بن عبد الرحمن القاضي في كتابه: الحياة العلمية في مصر الفاطمية (466-567هـ/1074-1171م)، ولم يشر إليه أيضًا خضر أحمد عطا الله في كتابه: الحياة الفكرية في مصر في العصر الفاطمي، ولم يذكره أسامة حسن عبد المنعم في دراسته المعنونة: أهل السنة في العصر الفاطمي (دراسة في تطور الفكر المذهبي السني في مصر)، إذ تميزت الإسكندرية مذهبيًا عن سائر مدن مصر بأنها مدينة أحادية المذهب، حيث انتشر بها المذهب المالكي، ولم يكن بها سواه، لقصور الدعوة إلي المذاهب السنية الأخرى، خاصة الشافعي والحنفي، وأن هذا الوضع المذهبي المميز قد ساهم في بلورته ظروف ذات أبعاد داخلية وخارجية.
وأثبت الدراسة تواجد المذهب الحنفي بالإسكندرية، ودور أحد أبرز الفقهاء الأحناف في الحياة العلمية والاجتماعية بها خلال النصف الثاني من القرن الخامس الهجري.
منهج الدراسة
وقد ارتكزت الدراسة على المنهج التاريخي القائم على الوصف، والتحليل، والاستقراء، وحرص الأستاذ الدكتور إبراهيم سلامة على الاستشهاد بأكبر قدر ممكن من النصوص وتوظيفها بإحكام ودقة، والاستشهاد بها فى استنباط كثير من التخريجات.
وهنا تجدر الإشارة إلى صعوبة التعريف ببعض شيوخ أبي بكر الرازي الحنفي؛ لعدم وجود تراجم خاصة وافيه عنهم، وقد بذل الباحث جهدًا كبيرًا في لملمة الإشارات عنهم ليلقي الضوء عليهم.
واحتاجت الدراسة إلى استقراء تام للمصادر الأولية التي ترجمت لأبي بكر الرازي الحنفي، وتناولت الحياة العلمية والاجتماعية في الإسكندرية منذ منتصف القرن الخامس الهجري حتى نهايته.
ويكتسي كتاب معجم السّفَرْ لأبي طاهر السِلَفْي الأصبهاني نَزِيْل الإسكندرية (ت576هـ/1180م)، منزلة خاصة لمعظم مباحث الدراسة؛ فرغم أنه لم يفرد ترجمة مستقلة لأبي بكر الرازي، غير أنه بث أخباره في مواضع كثيرة من كتابه. فكان أوفي المصادر التي أمدتنا بروايات مهمة تتعلق بمهنة أبي بكر الرازي ومكانته الاجتماعية، والعلمية، وبعض رواياته العلمية التي خلفها، واهتمامه بالأدب، وكراماته، وتلاميذه، واحتفظ أيضًا بروايات مهمة عن وصيته، واحتشاد طوائف المجتمع السكندري للمشاركة في جنازته، وتشييع جثمانه إلى مثواه الأخير، ويوخذ على السلفي أنه لم يحدد تاريخ وفاته.
وتكمن أهمية روايات السلفي أنه استقاها من شيوخه تلاميذ أبي بكر الرازي، وقد علق منهم فوائد جمة، فأثر ذلك في تكوينه العلمي، وتكمن أهميتها أيضًا أنها روايات سماعية انفرد بها السلفي عن هؤلاء الشيوخ لم تتوفر لغيره. وأورد الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، نقلًا عن الحافظ رشيد الدين أبي بكر محمد ابن العلّامة زكي الدين عبد العظيم المُنذري (ت643ه/1246م)، ترجمة مختصرة لأبي بكر الرازي الحنفي، فأشار إلى مذهبه، وزهده وصلاحه، ودعواته المستجابة، وسكنه الإسكندرية، ووفاته بها. وتكمن أهمية هذه الترجمة أن الحافظ أبا بكر رشيد الدين سمعها من أصحاب أبي الطاهر السلفي، عن شيخهم السلفي.
واعتمدت الدراسة على كتب طبقات الحنفية التي ترجمت لأبي بكر محمد بن إبراهيم بن الحسن الرازي، ومنها: الجواهر المُضية في طبقات الحنفية لابن أبي الوفاء القرشي الحنفي، والطبقات السنية في تراجم الحنفية لابن عبد القادر الحنفي، واعتمدت الدراسة أيضًا على المقفى الكبير للمقريزي، وطبقات المفسرين للداوودي، وقد جاءت ترجمة أبي بكر الرازي في الكتب الأربعة السابقة متطابقة، ومعظم رواياتها مستمدة من معجم السفر للسلفي. وأفادت تلك الكتب أيضًا في التعريف بمكانة أبي بكر الرازي، وكراماته، وتلاميذه الحنفية، وانفرد المقريزي بالإشارة إلى بعض تلاميذه السكندريين، وبذكر مصنفه تأويل آيتي القتل في سورة النساء.
المادة العلمية وتقسيمها
بدوره يقول الاستاذ الدكتور إبراهيم سلامة:"وقفت أيضًا على مادة علمية ثرية تخدم موضوع الدراسة فى كتاب معجم البلدان لياقوت الحموي، فقد أفاد في التعريف بالري مسقط رأس أبي بكر الرازي، وأشار إلى اعتناق أهلها للمذهب الحنفي، واحتفظ بأسماء بعض تلاميذ أبي بكر الرازي من أهل الإسكندرية والنازلين بها، ورواياتهم عنه، وقد اعتمد ياقوت الحموي أيضًا على ما ورد في معجم السفر للسلفي، وكان كتاب حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للسيوطي أيضًا من المصادر المهمة للدراسة، فقد أشار إلى أبي بكر الرازي ونزوله الإسكندرية ضمن تراجمه لبعض تلاميذه بها".
واقتضت طبيعة الدراسة تقسيمها إلى مقدمة وتمهيد وثلاثة مباحث، وقد أشرت في المقدمة إلى موضوعها وأهميته، ومنهج المعالجة، ووجوه الإستفادة من أهم مصادرها. وأشرت في التمهيد إلى انتشار المذهب الحنفي في مصر ومدينة الري، وأفردت المبحث الأول لإلقاء الضوء على نشأة أبي بكر الرازي ومذهبه وتكوينه العلمي واستقراره بالإسكندرية وأقوال العلماء فيه، وخصصت المبحث الثاني للحديث عن أثره في الحياة العلمية بالإسكندرية، وتناولت في المبحث الثالث أثره في الحياة الاجتماعية بالإسكندرية، وختمت الدراسة بخاتمة تُجْمِل أغراضها واستنتاجاتها، وذيلتها بخريطتين الأولى عن موقع مدينة الإسكندرية، والثانية عن موقع مدينة الري.
سيرة ومسيرة الرازي الحنفي
رجحت الدراسة أن أبا بكر الرزاي الحنفي ولد بالري في الربع الأول من القرن الخامس، وأنه لم يكن عربيًا أصيلًا، ولا بالولاء، وأنه كان من الأعاجم الذين قدموا مصر واستفادوا من شيوخها، وتأثروا بالحياة العلمية والاجتماعية بالإسكندرية وأثروا فيها، فكان بذلك حلقة مهمة من حلقات التواصل الحضاري بين بلدان المشرق الإيراني ومصر.
وبيّنت الدراسة أنه أخذ العلم من شيوخ بلده الري، وأنه رحل في طلب العلم، فرجحت أنه دخل العراق وتتلمذ على بعض شيوخها الحنفية، وغيرهم. وبينت الدراسة أيضًا أنه قدم مصر قبل سنة 476هـ/1083م، وأخذ عن أعلام شيوخها كالحبّال والفاقوسي، وغيرهم، ثم نزل الإسكندرية طلبًا للعلم، وناشرًا له دون تضييق من السلطات الفاطمية الشيعية، وأنه استقر بها حتى وفاته، كما أظهرت الدراسة أنه اشتغل إمامًا للصلاة بأحد مساجدها، وأن كثيرًا من طلاب العلم من أهل الإسكندرية، والوافدين إليها من بلاد المغرب قد تحلقوا حوله، ونهلوا من فيض علمه، وأنه كان يقوم بالتدريس بمنزله وبالمسجد الذي كان يؤم بالصلاة فيه.
وكشفت الدراسة أن الإمام أبا بكر الرزاي الحنفي نزيل الإسكندرية لم يتفرغ للتأليف، وأن مؤلفاته لم تتناسب مع مكانته العلمية، فلم تحتفظ المصادر سوى باسم واحد منها هو تفسيره لآيتي القتل في سورة النساء. ورجحت الدراسة أنه أكثر من الإملاء على تلاميذه والمتحلقين حوله، وكشفت الدراسة أن تلاميذ أبي بكر الرازي كانوا من مختلف فئات المجتمع السكندري، فكان منهم الحرفيون والمهنيون، وكان منهم أيضًا: المهندسون.
وكشفت الدراسة عن حرص الإمام أبي بكر الرازي على نشر المذهب الحنفي وتبليغه إلى الناس في الإسكندرية، وكشفت الدراسة عن عمق تأثيره في تلاميذه، فصار بعضهم من أعلام المذهب الحنفي، والفقهاء المعروفين، وكشفت أيضًا عن التفاف الفقهاء المالكية، والشافعية حوله واستفادتهم منه فوائد عظيمة.
وأظهرت الدراسة تأثير الأدب العربي بالمشرق الإيراني في الحياة العلمية بالإسكندرية، فكان أبو بكر الرازي يستشهد أمام تلاميذه ببعض قصائد الشاعر أبي الفتح البُستي، وبينت الدراسة أثر أبي بكر الرازي في الحياة الاجتماعية بالإسكندرية، فقد مال إلى الزُهد والتصوف واشتهر بهما، فكان من الأولياء العارفين بالله، أصحاب الكرامات الظاهرة والدعوات المستجابة.
وكشفت الدراسة عن تقدير كافة أهل المِلل السكندريين له في حياته وعند مماته، فقد شارك اليهود والمسيحييون في جنازته وحمل جثمانه إلى مثواه الأخير، وكانت جنازته عظيمة جدًا .
وأخيرًا كشفت الدراسة عن استمرار أثر الفقيه الزاهد أبي بكر الرازي بعد وفاته في الحياة العلمية بالإسكندرية من خلال تلاميذه الذين نقلوا آثاره العلمية للأجيال التالية، فتداولوها هم وتلاميذهم من بعدهم، وسجلها بعضهم في مصنفاته، وأن هذا الأثر امتد في الأجيال اللاحقة من أهل العلم بالإسكندرية حتى القرن السابع الهجري.
الأستاذ الدكتور إبراهيم سلامة العدد الجديد من مجلة ذاكرة العرب بمكتبة الإسكندرية العدد الجديد من مجلة ذاكرة العرب بمكتبة الإسكندرية