تزامنا مع ذكراه الـ١٧، تستعيد "بوابة الأهرام" وقائع أصعب يوم في حياة نجيب محفوظ، عندما حاولت يد الغدر أن تمتد إلى صاحب السيرة العطرة.
موضوعات مقترحة
منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كانت محاولات الجماعات التكفيرية في مصر في ذلك الوقت تشهد انهيارًا لكل خططها لمحاولة وضع المجتمع المصري تحت حصار الإرهاب، تواصل سقوط تلك الجماعات تحت طائلة القانون، بالإضافة لرفض المجتمع لها أصابها بالجنون، وفي ظل محاولات يائسة أخيرة، جاء يوم من أكثر الأيام سوادًا في تاريخ الأدب العربي.
14 أكتوبر 1994م، عصر تلك الجمعة "نجيب محفوظ" أول أديب عربي يتوج بنوبل عبر التاريخ، أسفل منزله بالعجوزة، يستعد لركوب سيارة صديقه " فتحي هاشم" في طريقه إلى مقره اليومي المعهود في وسط القاهرة، يد غادرة تمتد إلى الرقبة التي تحمل الرأس الاستثنائية، التي رسخت الهوية المصرية بمشروعها الأدبي الكبير.
كان "محفوظ" قد خرج لركوب السيارة، واستدار فتحي هاشم لكي يتولى القيادة، قبل أن يسمع صرخة عالية من محفوظ، امتدت يد آثمة من شاب جاهل، بالسكين في رقبة صاحب نوبل، وتمثلت عناية الله في أن تكون هذه الواقعة بالقرب من مستشفى الشرطة بالعجوزة؛ حيث تم إسعاف محفوظ، وإنقاذ حياته، إلا أن الحادث ترك أثره على حياة ابن الجمالية لسنوات بعدها.
تاريخ الواقعة جاء مقصودًا، فذلك اليوم كان الذكرى السادسة لحصول محفوظ على نوبل، وهو ما ظن التكفيريون أنه كان مكافأة للكاتب الكبير على رواية "أولاد حارتنا" التي كفروه بسببها مرارًا وتكرارًا، ورغم أن الأكاديمية السويدية قالت في حيثيات فوز محفوظ بنوبل "إنه في روايته غير العادية "أولاد حارتنا" التي كتبها عام 1959م تناول بحث الإنسان الدءوب عن القيم الروحية، وإنها تتضمن أنماطاً مختلفة من الأنظمة تواجه توتراً في وصف صراع الخير والشر"، إلا أن "أولاد حارتنا" لم تكن السبب المركزي في حصد محفوظ لنوبل، كما أن أولاد حارتنا، ليست السبب المركزي في محاولة الإرهاب اغتياله، فقد كان منهج محفوظ ضربة قاصمة تنزل على رأس التطرف والجهل، ورغم أن محفوظ سأل متعجبا قاضي التحقيقات في الواقعة، عن سبب الاعتداء عليه، إلا أن أديب نوبل كان يدرك داخليا سبب الطعنة، وكان يعلم بخطورة مشروعه الأدبي، على المتطرفين وصانعي الإرهاب.
أطراف المحاولة البائسة وسطحيتهم وجهلهم، والتفاف المثقفين حول "عمود البيت" من الجانب الآخر، كانت عنوانا للمسافات الكبيرة ما بين رقي محفوظ، وانحطاط من حاولوا قتله، اقترب الشابان من السيارة، فابتسم لهما محفوظ ومد يده بالمصافحة، كما تعود أن يفعل مع محبيه في المقهى أو على كورنيش النيل في جولات المشي المعتادة، ولكن اليد الممتدة بالسلام واجهت طعنة غادرة في ذكرى تتويج المشروع الكبير لصاحبها بأكبر جائزة أدبية في الكرة الأرضية.
في حوار أجراه الكاتب الكبير "محمد سلماوي" مع صاحب المحاولة القذرة، "محمد ناجي محمد مصطفى، ونشر في مجلة الثقافة الجديدة، قال "ناجي" إن الجماعة الإسلامية كلفته بقتل صاحب نوبل.
- محمد سلماوي في مواجهة اليد الأثمة
وحكى الشاب لسلماوي عن رحلته مع التطرف، بعد أن كان يعمل فنيا لإصلاح الأجهزة الإلكترونية، وحصوله على الشهادة المتوسطة، ثم انجرافه في قراءة الكتب الخاصة بالجماعة الإسلامية، في طريق ما وصفه بالاتجاه إلى الله، فكانت تلك الكتب المتطرفة، التي تروج للجهالات، هي الطريق الذي لفت انتباه التكفيريين له ليضموه إلى صفوفهم.
"لم يقرأ "فتحي" أيًا من أعمال نجيب محفوظ، وقام بمحاولة الاغتيال، لأنه ينفذ أوامر أمير الجماعة، والتي أصدرها، بناء على فتاوى "عمر عبد الرحمن".
ويأتي كتاب "سلماوي" الصادر تحت عنوان "في حضرة نجيب محفوظ"، من أفضل ما صدر ووثق لتلك المحاولة التي تصلح للاحتفال بها عيدا للجهل.
لم يكن غريبًا أن يكون رد الشاب الجاهل على محمد سلماوي بأن محفوظ سامحه على جريمته، بأن الأمر لا يعنيه ولا يغير من الأمر شيئًا، وقال نصًا: لقد هاجم نجيب محفوظ الإسلام في كتبه، لذا أهدر دمه، وقد شرفتني الجماعة بأن عهدت إلي بتنفيذ الحكم فيه، فأطعت الأمر!!!.
وإذا كان الجهل على هذا الإصرار عام 95، فإن التنوير كان يملك رجالا يدافعون عنه بنفس الإصرار عام 59، حين بدأت "الأهرام" نشر رواية "أولاد حارتنا" على حلقات، فقامت الدنيا قبل الانتهاء من نشر الرواية، تطالب بمحاكمة محفوظ ووقف النشر، ولم يرضخ الأستاذ الكبير "محمد حسنين هيكل" رئيس تحرير الأهرام في ذلك الوقت، وقام بنشر الرواية كاملة، قبل أن تنشرها دار الآداب اللبنانية في بيروت.
- اللقاء مع المستشار أشرف العشماوي
حجم تأثيرات محاولة الاغتيال لم يتوقف على محفوظ، أو حتى على الوسط الثقافي أو المجتمع المصري فقط، بل امتد إلى النيابة وجهات التحقيق نفسها، فإذا كان المستشار أشرف العشماوي قاضيا للتحقيقات في القضية وقتها، أشرف العمشاوي تذكر وقائع التحقيقات قبل ما يقرب من ربع قرن قائلا، وقت الجريمة لم أكن أعرف بعد أبعاد وملابسات الحادث، وبالتالي لم يدر بخلدي على الإطلاق أنني سأكون أحد محققيه الذي سيسمع أقوال نجيب محفوظ باعتباره المجني عليه.
لم تكن رواية أولاد حارتنا حديثة الصدور حتى نضعها على قائمة الدوافع لارتكاب الجريمة، فغرقت في حيرة مع زملائي بالنيابة حتى ظن بعضنا أن مرتكب الحادث شخص مخبول ممن يهوون الشهرة على الطريقة الأمريكية، ويوم لقائي مع محفوظ كان قد مر على محاولة الاغتيال بضعة أسابيع ، ظللت أتحدث معه في أمور عادية، وبدا لي أنه مسرور لعدم استجوابه، كان يكفي أن ألقي سؤالاً بسيطاً أو أفتح موضوعاً عاماً ليفضفض بتلقائية، تركت له المساحة ليتكلم وحده، فنحن في حضرة الأستاذ، وكان مجمل حديثه يدور حول قلقه على حال مجتمع ينزلق نحو هاوية التخلف والرجعية، طال الحديث وتشعب، فى النهاية كان لابد من إجراء التحقيق وسماع أقواله لكن وقتها أخبرني الطبيب أن بقائي أكثر من ساعة معه يرهقه ، فغادرت كما أتيت بأوراق بيضاء لم أدوّن فيها حرفاً.
يضيف العشماوي :عدت لمكتبي وأجّلت التحقيق لبعد غد ، وفي اليوم المحدد ذهبت بصحبة محقق وزميل آخر، كنت قررت ألا أسأله بنفسي وطلبت ذلك من رؤسائي ، تولي زميلي رئيس النيابة مهمة سؤال محفوظ عن متهمين لم يرهم الأستاذ ولا يعرفهم ولا حتى يريد تذكر ملابسات الحادث برمته، وتفرغت أنا لمراقبته وتأمل تعبيرات وجهه، ما بين التأثر والانفعال والحزن والمرارة وعمق النظرة والقراءة لحادث رأى أنه بداية لإرهاب قادم لا نهاية قريبة له إذا ما خفتت شمس التنوير.
الحادث المؤسف تسبب في توحد الصف الثقافي المصري خلف أديب نوبل، وفي الوقت الذي كان محفوظ يقاتل من أجل حياته داخل غرفة العمليات بمستشفى الشرطة بالعجوزة، والفترة التي قضاها بعد ذلك في المستشفي، كان الوسط الثقافي بإنتاجاته يعبر عن حالة الغضب من محاولة الاعتداء على أديب نوبل، فقدمت مجلة "الهلال" أعرق المجلات العربية، ملفا خاصا، تضمن قصصا تخيلية للجريمة، وقدم عرضا كاملا لمشروع محفوظ، والأسباب التي تقود إلى اصطدامه بالتكفيريين.
5 ساعات كاملة قضاها محفوظ في غرفة العمليات بين الحياة والموت، بعدما تسببت الطعنة في قطع شريان رئيسي للنجيب، وخرجت السيدة عطية الله إبراهيم، زوجة ابن الجمالية، لتطلب من مُحبيه الدعاء، كشفت الصحافة وقتها الخطة الرئيسية للاغتيال، كما جاءت في الاعترافات، كان مقررا أن تذهب مجموعة إلى بيت نجيب محفوظ، على أنهم من المعجبين بكتاباته، ويُحضرون معهم ورد وشيكولاتة، ثم يحاولون أن يفعلوا فعلتهم، ولكن عندما طرقوا الباب، قالت لهم الزوجة إنه غير موجود، وإنه لا يُقابل أحدًا في بيته، وأخبرتهم أنهم بإمكانهم مقابلته غدًا في ندوته بالتحرير.
"متحف نجيب محفوظ" الذي خرج إلى النور العام الماضي، رصد وقائع ذلك اليوم العصيب في حياة أديب نوبل، من خلال قاعة «أحلام الرحيل» التي سجلت تفاصيل محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرّض لها «محفوظ»، وينقل المتحف معايشة كاملة للحالة المحفوظية بعد ذلك اليوم، من خلال استعراض جوانب حياة محفوظ بعد تعرضه لمحاولة الاغتيال وتمريناته على الكتابة والأدوات التي كان يستعملها في ذلك الوقت مثل عدسة القراءة وسماعة الأذن.
قضت المحكمة العسكرية في تلك القضية بإعدام محمد ناجي محمد مصطفى، ومحمد خضر أبو الفرج المحلاوي، والحكم على عمرو محمد إبراهيم، حسين علي بكر، بالسجن المشدد، وبالأشغال الشاقة لمدة 7 سنوات على ياسر أبو عطية، والثاني عشر عبد الحميد محمد أبو زيد، وبالسجن 5 سنوات على المتهم السادس علي جمعة علي، وبالسجن 3 سنوات على كل من المتهم الثامن مصطفى عبد الباقي، والتاسع أحمد حسن أحمد، والثالث عشر محمد معوض عبد الرحمن، والخامس عشر فيصل شحاتة محمد، كما قضت ببراءة كل من المتهم السابع عبد الناصر جمعة علي، والرابع عشر علي حسن سباق، والسادس عشر صلاح محمد محروس.
بعد تلك المحاولة البائسة لاغتيال ابن الجمالية، توقف نجيب محفوظ عن عادة المشي على النيل يوميا بسبب الظروف الصحية، ولكن المصريين لم يتوقفوا عن السير في نهر نجيب محفوظ، وواصل الوسط الثقافي المصري طريقه في مقاومة جماعات التكفير وإبعاد فكرهم عن قلب المجتمع المصري، نجح نجيب محفوظ في هزيمة اليد الجاهلة التي حاولت إيقاف النهر عن السريان في مجراه.
نجيب محفوظ نجيب محفوظ نجيب محفوظ نجيب محفوظ نجيب محفوظ نجيب محفوظ نجيب محفوظ نجيب محفوظ نجيب محفوظ نجيب محفوظ نجيب محفوظ مدافعاً عن رواية أولاد حارتنا