لسيدة كانت فى رحلة عمرة، قالت فيها إنها كانت تؤدى صلاة العشاء فى المسجد النبوى الشريف، وسمعت امرأة تتحدث بلهجة ريفية وتدعو ربها قائلة «يارب شوية حنية... مش عايزة كتير.. شوية صغيرين.. ندعة حنية يا رب».. وأضافت أنها تمنت لو احتضنتها لتعرف ماذا بها؟.. ولكنها فضلت ألا تقاطع تواصلها مع الله، ومضت إلى حالها، وهى مذهولة من بساطة الدعاء والطلب والرجاء، وتمنت لو امتد الحنان ليشمل الجميع، وأقول لك: أنا السيدة التى قصدتها كاتبة الرسالة، وأروى لك حكايتى منذ البداية، حيث إننى أم فى السابعة والستين من عمري، توفى زوجي، وأنا فى سن الخامسة والثلاثين، وكان هو فى نفس عمري، وقد أصيب بأزمة قلبية مفاجئة مات على أثرها فى الحال، وترك لى ولدين وبنتين، أنجبتهم تباعا، وكان أكبرهم لم يتعد عمره إثنى عشر عاما، والصغرى ست سنوات، ونصحنى أهلى بالزواج وقتها لكنى رفضت بإصرار مجرد مناقشة الموضوع حرصا على مستقبل أولادي، وعلى مشاعرهم من أن آتى لهم بزوج أم مع ما هو معروف من تداعيات زوج الأم على الأولاد والبنات من أب آخر.
واحتضنت أولادي، وعشنا بمعاش استثنائى حصلت عليه لوفاة زوجى المفاجئة، وبعت ذهبي، واستعنت أيضا بمساعدات أهلى فى تعليم أبنائى وتخرجوا فى الجامعة واحدا تلو الآخر، وعملوا فى وظائف مرموقة، وتزوجت البنتان من شابين ممتازين، وتزوج الولدان من فتاتين، اكتشفت بمرور الوقت أنهما ابعدتا ابنيّ عني، فلم يعد أحد يزورني، وكم كنت أشعر بغصة فى حلقي، ويعتصر الألم قلبي، وأنا أسمع من صديقاتى أن ابناءهن يتجمعون لديهن مرة كل أسبوع، وتنهمر من عينىّ الدموع حسرة على القسوة التى يعاملنى بها أبنائى بلا سبب، فوالله الذى لا إله غيره لم أقم بدور الحماة الموجودة فى الأفلام السينمائية، ولم أسئ إلى أحد.. لا إلى أبنائى... ولا إلى زوجاتهم وأزواجهم، ولكنها الأنانية وحب الذات، وهكذا دفعنى جحودهم ونكرانهم إلى أن أطلب من الله «ندعة حنية».. وربما تكون السيدة التى سمعتني، وأنا أبتهل إلى الله بهذا الدعاء قد تصورت أننى أطلب الحنان من الله، لا... ورب الكعبة فلولا حنانه سبحانه وتعالي، ما عشت بهذا السلام النفسى الذى أشعر به داخلي، وإنما أطلب قطرة حنان من أولاد وبنات أعطيتهم كل ما أملك، ولم أكن أتصور أن يأتى اليوم الذى أرى فيه الفرق الشاسع بين مشاعر الأم، ومشاعر الإبن.. لقد كنت أتعجب، وأنا أسمع جارتي، وهى تقول «قلبى على ابنى انفطر وقلب إبنى عليّ حجر» وكثيرا ما اختلفت معها، وكنت أرجوها ألا تقول ذلك إلى أن جاء اليوم الذى أعانى فيه ما عانته، فلقد انشغل أبنائى كل منهم بحياته، ومنهم من سافر إلى الخارج، ومن انتقل إلى الإقامة فى مكان بعيد، ومن يشغل نفسه بهمومه.. وأنا لا أطلب منهم مالا ولا ذهبا ولا فضة، وإنما أطلب قطرة حنان بالسؤال عنى والاطمئنان على أحوالي!.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
يا الله.. ما هذا الذى يحدث فى هذه الدنيا؟... أيعقل أن يصل الجحود إلى هذا الحد؟... فأقل ما يمكن أن يقدمه الابن لأمه هو السؤال عنها، وزيارتها والحرص على التواصل معها ليس كل أسبوع، وإنما كل يوم، إذا استحال عليه أن تعيش معه لضيق المكان وخلافه.. ومادامت لدى الأبناء القدرة المادية، كما هى الحال مع أولادك، فلماذا لا يتخذون لك مسكنا بجوارهم لتكونى قريبة منهم، فهل يعقل أن تلهى الدنيا الأبناء عن أمهم التى ضحت بسعادتها من أجلهم؟..
اننى أستعيد كلمة الدكتور حسام أحمد موافى أستاذ طب الحالات الحرجة بقصر العينى فى بريد الأهرام أمس «الخميس» عن الاحتفال بالأم المثالية، إذ يرى أن الأمر الطبيعى هو أن جميع الأمهات مثاليات، بما قدمنه لأبنائهن على مدار حياتهن، وأن الأفضل هو الاحتفال بالابن البار الذى هو عملة نادرة الآن.. ويقول: إن إظهار الابن الذى ضحى لأمه أو أبيه بجزء من حياته، وخصص لهما بعض الوقت للوقوف بجانبهما، يجعل منه قدوة لغيره فى أعمال نحن فى أمس الحاجة إلى الاقتداء بها...
نعم فالأم هى الكنز الحقيقى لأى إنسان، ولا يطمئن كائن من كان إلا فى حجر أمه، التى لا يشيخ حبها أبدا.. فقلبها وصدرها هما المدرستان التى يتعلم فيهما الأبناء الصدق والحنان، وكل الصفات الإنسانية التى لا يشعر بها ذوو القلوب المتحجرة، ونحن جميعا مدينون لأمهاتنا بما وصلنا إليه، وبما أعطينه لنا.
ومهما تحدثت عن فضل الأم، كما جاء فى الأديان، فلن أستطيع ذكر كل ما يتعلق بها، فهى أحق الناس بحسن المصاحبة، ووصى الله سبحانه وتعالى الإنسان بوالديه، وأفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شرح فضلها على الأبناء، وجاء فى الإنجيل، والتوراة ما يؤكد رضا ربنا عمن يبر أمه وأباه... وأبدع الشعراء على مر العصور أبياتا تقطر حبا وحنانا فى أمهاتهم وآبائهم.. وأذكر هنا قول أمير
الشعراء أحمد شوقي:
فناحت الأم وصاحت واها
إن المعالى قتلت فتاها
وقال الشاعرالرائع حافظ إبراهيم:
الأم أستاذ الأساتذة الألي
شغلت مآثرهم مدى الآفاق
فيا كل الأبناء.. خذوا بأيدى أمهاتكم وآبائكم: واعلموا أنه لا سبيل إلى السعادة فى الدنيا والآخرة إلا برضاهم.. أسأل الله أن يلين قلوب الجاحدين، وأن يبارك فى أمهاتنا وآبائنا، فيرضون عنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.