رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

اغتيال نيمتسوف ومحاولات تفجير روسيا من الداخل

موسكو ـ د. سامى عمارة
جريمة اغتيال القطب اليمينى المعارض بوريس نيمتسوف على مقربة من الكرملين ليلة السبت الماضى، يظل الغموض يكتنف الكثير من جوانبها، وإن كان هناك من يقول بمسئولية "دوائر بعينها"، تبدو بوصفها أصحاب المصلحة الحقيقية فى تصفية المعارض "الروسى".

ورغم تعجل الكثيرين من ممثلى الأوساط الغربية توجيه الاتهام إلى رأس النظام فى روسيا، فأن الواقع والمنطق يقولان إن هذا النظام يظل الأكثر تضررا من وقوع مثل هذه الجرائم.

 جريمة تحت أسوار الكرملين .. تحت جنح الظلام، ولم تكن عقارب الساعة تعانقت معلنة منتصف ليلة السبت، حتى اهتزت العاصمة موسكو تحت وقع الإعلان عن جريمة اغتيال بوريس نيمتسوف، القطب السياسى اليمينى المعارض، وأحد أبرز نجوم السياسة الروسية إبان حكم الرئيس الأسبق بوريس يلتسين فى تسعينيات القرن الماضى. أطلق مجهول من سبع إلى ثمانى طلقات أصابت أربع منها نيمتسوف فى مقتل لدى سيره على الجسر المواجه للكرملين، إثر خروجه من أحد المقاهى المجاورة مع رفيقته الأوكرانية.

على أن ارتكاب مثل هذه الجريمة على مبعدة أمتار من الكرملين وداخل دائرة أمنه وكاميراته وحُراسه يقول بتعمد محاولة اتهام الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، بالوقوف وراء مثل هذه الجرائم قبيل مظاهرات المعارضة التى كان مقررا لها أمس الأول "الأحد” ، وهو ما يفتح الباب أمام مختلف التكهنات، ويعيد إلى الأذهان اغتيال الصحفية المعارضة للحرب الشيشانية آنا بوليتكوفسكايا فى أكتوبر 2006.

وبهذا الصدد نذكر أن بوتين كان علق على مصرع بوليتكوفسكايا بقوله "إن معارضتها لم تكن بالقدر الذى يثير مثل هذه الضجة التى أثارتها جريمة اغتيالها"، الأمر الذى قد ينطبق بنفس الدرجة على جريمة اغتيال نيمتسوف. فقد انفجرت الدوائر الغربية فى حملة "كاملة العدد" توجه اتهاماتها للنظام فى موسكو، وتكيل له أقذع الأوصاف والشتائم، فى الوقت نفسه الذى سارع فيه ممثلو الأوساط السياسية الرسمية والشعبية إلى إدانة هذه العملية التى وصفها بوتين بأنها "جريمة تتسم بطابع الاستفزاز والعمل المأجور"، مطالبا بسرعة التحقيق ومحاكمة المسئول عن ارتكابها.

غير أن تعدد اهتمامات بوريس نيمتسوف يدفع بالتبعية إلى السقوط فى شرك تعدد التفسيرات التى يسوقونها فى محاولة لإماطة اللثام عن أسباب وقوع جريمة الاغتيال. وفيما كانت أوكرانيا فى صدارة اهتمامات القطب اليمينى المعارض منذ اندلاع "الثورة البرتقالية" فى 2004 ، التى بادر بالانتقال إلى صفوفها للمشاركة فى أحداثها من موقعه كمستشار للرئيس الأوكرانى فيكتور يوشينكو مع الرئيس الجورجى السابق ميخائيل ساكاشفيلى، يظل نشاط نيمتسوف المتعدد الأوجه مادة خصبة للتحليل والتنقيب عن مبررات الاغتيال. ورغم أن الوقت لا يزال مبكرا للحديث عن ملابسات وتبعات هذه الجريمة، فأن ما يتعالى من أصوات واتهامات يقول إن المبررات قد تتراوح بين تصفية الحسابات السياسية بحكم نشاط نيمتسوف ضمن دوائر المعارضة على المستويين الفيدرالى والمحلى فى "مقاطعة ياروسلافل"، والصراع حول المصالح والأعمال، بحكم نشاط نيمتسوف التجارى وعمله فى مجال سوق الأوراق المالية، دون استبعاد "الغيرة النسائية" بسبب ارتباطه بشابة أوكرانية تدعى آنا دوريتسكايا تعمل "عارضة أزياء" والتى كانت برفقته لحظة وقوع الجريمة، وأن تظل محاولة الإساءة، وإلقاء ظلال الشك على النظام الحاكم فى الكرملين وتشويه صورة ومكانة الرئيس بوتين، فى صدارة الأسباب المحتملة لارتكاب هذه الجريمة التى يصفونها بـ"الاستفزازية مدفوعة الأجر"، والمدعوة إلى استثارة الأوساط المحلية والعالمية ضد بوتين ونظامه فى الكرملين. ومن هذا المنظور تحديدا بادر الرئيس الشيشانى رمضان قادروف بالتعليق على مثل هذه الأخبار على صفحته  فى “الانستجرام" بقوله :" إن مدبرى الجريمة كانوا يستهدفون أن يسارع العالم إلى إدانة القيادة الروسية، وإثارة الاضطرابات والقلاقل والاحتجاجات فى أرجاء الدولة الروسية". ومضى قادروف ليقول إن الشك لا يراود أحدا تجاه وقوف دوائر الاستخبارات الغربية وراء هذه الجريمة فى محاولة لإثارة النزاعات الداخلية، فيما أضاف قوله إن الغرب كان وراء تصعيد نيمتسوف وتدليله وتصويره واحدا من أهم أقطاب المعارضة الموالين لأوروبا وأمريكا، قبل أن يضحى به على مذبح تصفية حساباته مع روسيا . وفيما أشار إلى احتمالات تورط المخابرات الأوكرانية فى تنفيذ عملية تصفية نيمتسوف، قال قادروف إن نيمتسوف لم يكن فى حقيقة الأمر معارضا ذا شأن يذكر، بل وكانت السلطة فى حقيقة الأمر فى حاجة إليه كمعارض غير ذى وزن يصلح لتصويره فى دور "المعارض" من خلال ما يطرحه من شعارات شعبوية ومواقف غير مؤثرة فى الشارع الروسى.

على أن إدانة الرئيس بوتين لهذه الجريمة وما قاله حول أنها تحمل سمات "العمل الاستفزازى المأجور"، وتعليماته إلى قيادات الأمن والشرطة بسرعة العمل من أجل القبض على الجناة، يقول بإدراكه أبعاد ما تستهدفه هذه الجريمة من معان تجتمع كلها فى الحملة كاملة العدد، التى بدأ خصومه فى شنها ضده فى الداخل والخارج على حد سواء. وكان ميخائيل كاسيانوف رئيس الحكومة الروسية الأسبق والرئيس المناوب مع نيمتسوف للحزب "الجمهورى الروسى - الحرية الشعبية" - "بارناس" المعارض، قد سارع بتوجيه الاتهام إلى السلطات الروسية، فى الوقت الذى حرص فيه مختلف ممثلى الأوساط الرسمية والسياسية "يسارا ويمينا ووسطا"، على إدانة هذه الجريمة، مطالبين بسرعة التحقيق واستيضاح الأسباب الحقيقية لعملية الاغتيال، بما فى ذلك رئيس الحكومة دميترى ميدفيديف، ورئيسة مجلس الاتحاد فالنتينا ماتفيينكو وزعماء الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية.

ورغما عن تباين المواقف والمشاعر تجاه القطب السياسى المعارض، فقد بدا ما يشبه الإجماع حول أن هذه الجريمة تبدو أقرب إلى "الجريمة المدفوعة الأجر"، بغض النظر عن دوافعها التى تراوحت بداية من "الغيرة الإنسانية" و"العلاقات النسائية"، من منظور علاقته مع الحسناء الأوكرانية، ونهاية بالمبررات ذات الطابع السياسى، والتى تتعلق إما بنشاطه كشخصية معارضة للسلطات الفيدرالية فى موسكو، أو المحلية فى مقاطعة ياروسلافل، وإما لارتباطه بزعماء "الثورة البرتقالية" فى أوكرانيا والقائمين على السلطة الحالية هناك، فضلا عما أشار إليه فلاديمير ماركين المتحدث باسم لجنة التحقيقات المركزية حول احتمال ارتباط الجريمة بتصريحات سبق وأعلنها نيمتسوف تأييدا لرسومات المطبوعة الباريسية " شارلى إبدو" المسيئة للرسول، إلى جانب نشاطه المالى. إلا أن ما قاله ماركين حول احتمالات أن تكون الجريمة محاولة لإثارة القلاقل وتفجير الأوضاع الروسية من الداخل يظل فى صدارة المبررات التى يتوقف السياسيون عندها كثيرا.

 ومن اللافت أن نيمتسوف كان من أبرز المعارضين للرئيس بوتين منذ جاء إلى السلطة فى الكرملين، فيما سبق ونشر الكثير من التقارير و"الدراسات" حول الفساد والجريمة فى عهده، فى الوقت الذى حرص فيه على المشاركة فى الفعاليات المناهضة لسياساته داخل وخارج روسيا، بما فى ذلك فى أوكرانيا، وإن شهدت الفترة الأخيرة تراجعا ملموسا فى هذا النشاط المعارض الذى كان انتهى به نائبا فى المجلس المحلى لمقاطعة ياروسلافل، دون وجود يذكر فى أى من المجالس التنفيذية أو التشريعية الفيدرالية .

وفيما أوصى الرئيس السوفيتى السابق ميخائيل جورباتشوف بعدم تعجل إصدار الأحكام ، قال بضرورة تقصى أسباب الجريمة والبحث عن مرتكبها داخل روسيا، وليس فى الولايات المتحدة أو أوكرانيا التى ظل نيمتسوف مرتبطا بها حتى آخر أيامه. ورغم أن جورباتشوف لم يستبعد محاولة الاستفادة من وقوع مثل هذه الجريمة من جانب القوى المعادية لروسيا فى الخارج والتى لا تخفى رغبتها ومصلحتها فى الإطاحة بالرئيس بوتين، إلا أنه أعرب عن شكوكه تجاه سقوط الدوائر الغربية فى مثل هذا الشرك، وهو ما يعيد إلى الأذهان عدم تداركه لما كان الغرب ينسجه من مؤامرات ويدبره من مخططات أسفرت فى نهاية المطاف عن انهيار الاتحاد السوفيتى السابق.

وكان محامى نيمتسوف أعلن عن تلقى موكله العديد من التهديدات بقتله، وانه أبلغ الأجهزة الأمنية بما يفيد ذلك، لكنها وحسب قوله لم تحرك ساكنا. وكان بعض القريبين من نيمتسوف نصحوه باللجوء إلى إسرائيل انطلاقا من كونه يهوديا، إلا أنه رفض، مؤكدا ارتباطه بروسيا، وإن ظل كثير الترحال والتنقل إلى أوكرانيا وغيرها من البلدان الغربية، فى الوقت الذى ترددت فيه أنباء حول اعتزامه طلب الإقامة فى ليتوانيا المجاورة، إلا أنه كان تراجع عن هذه الرغبة. وقد سارع بعض رفاقه ومنهم إيليا ياشين الناشط السياسى المعارض إلى تأكيد أن نيمتسوف كان ينتوى تأليف "كتاب" عن "بوتين والحرب"، يؤكد فيه تورط القوات الروسية المسلحة فى الحرب الدائرة فى جنوب شرق أوكرانيا. كما نقلوا عنه "قلق والدته عليه ومطالبته بالكف عن معارضة بوتين خشية أن يقتله".

ومن المضحكات المبكيات فى هذا الصدد ما قاله فلاديمير جيرينوفسكى زعيم الحزب الليبرالى الديمقرطى ونائب رئيس مجلس الدوما، حول أن جريمة الاغتيال وقعت بإيعاز من أطراف ذات صلة بعارضة الأزياء الأوكرانية التى كانت برفقة نيمتسوف وقت وقوع الجريمة ، مؤكدا أن هذه الأطراف اشترطت على مرتكبيها "عدم إصابتها بأى أذى"!!. وبهذه المناسبة كان جيرينوفسكى أول من استهل مشاهد الإثارة فى الساحة السياسية الروسية فى مطلع تسعينيات القرن الماضى بشجار مع نيمتسوف حول مائدة حوار تبادلا خلاله إلقاء أكواب الماء والعصير. وشر البلية ما يضحك!  

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق