رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

كل الذى حدث

محمود عبدالوهاب
كان قد مضى على وجودى فى القاهرة خمس سنوات، وذهبت يوم إجازتى أتفرج على أطقم الحمامات لكى أجدد حمام الشقة، واحترت فى اختيار الألوان، وعندئذ قررت العودة إلى البيت وانتظار رأى خالتى فاطمة عندما أحادثها فى زيزينيا أو عندما أذهب فى إجازة إلى الاسكندرية.

كانت طنط بطة مريضة منذ ما يقرب من عامين أو ثلاثة، بدأ المرض بعدما سافرت إلى القاهرة للعمل بثلاث سنوات. أصيبت بالشلل الرعاش. كانت يدها اليمنى على وجه الخصوص تهتز قليلا وهى تمسك بكوب الشاى. أراها تجلس على الكنبة الخضراء فى الصالة وتمسك بالكوب، وأنا جالس على الكنبة الكورنر فى المواجهة. تقول لى:

عجزت يا حبيبى.

فأقول لها:

مفيش حاجة اسمها عجزتى، خدى الدوا بس بانتظام وانتى ح تخفى، ولو معجبكيش الدكتور غيريه.

فى الإجازة التى تليها أجد يدها تهتز أكثر، بالرغم من الذهاب للدكتور والإنتظام فى الدواء.

فى العام الأخير زادت الحالة، وأصبحت طنط بطة غير قادرة على الامساك بالكوب بيد واحدة فكانت تمسكه بيديها الإثنتين. وعندما تنتهى من تناول الشاى وتضع يدها على حجرها كانت يدها تظل ترتجف على الدوام. كنت كثيرا ما أتحاشى النظر إلى يدها. وكانت تذكرنى بجدتى، أمها، عندما كانت ترتجف يدها كذلك، بالرغم من أنها لم تصل أبدا للحالة التى تعجز معها عن الإمساك بالأشياء. كان ذلك فى الماضى البعيد، أما الآن، وبينما أنا موغل فى تذكر تفاصيل المشهد القديم، فإنه لا يحيلنى إلى جدتى على الإطلاق، بل إلى خالتى فايزة، خالتى التى ماتت منذ ثلاثة أعوام فقط، وأصابها –من ضمن ما أصابها- نفس حالة الرعشة فى اليد اليمنى. سأعود الآن إلى فاطمة.

فى الشهور الأخيرة لها بدأت تعانى من ضعف آخر فى ساقيها، وأصبحت لا تستطيع المشى إلا بمساعدة، وفى آخر إجازة رأيت فيها خالتى على قيد الحياة كان الوقت صباحا، وكنت واقفا فى غرفتى وجاءت الشغالة كما تحضر كل يوم، وساعدت خالتى على دخول الحمام، وكانت خالتى قد بلغت من الضعف حدا احتاجت معه إلى زوجها أيضا ليسندها من الناحية الأخرى. ورأيتهم وأنا واقف فى غرفتى يدخلونها الحمام ويبقون معها. ولم أستطع أن أتخيل أن الموت قريب من خالتى. لا أدرى لماذا. حقيقة كان هذا الشعور سندا لى فى أحداث كثيرة مرت بى. لأنى لم أكن أستطيع أن أفعل أى شىء فى الواقع لإيقاف الموت، سوى الشعور بمزيد من البؤس والشقاء.

كانت الشطافة أحيانا، ولسبب لا أفهمه، تخرج مياها ساخنة بدلا من المياه العادية، ودائما ما تتم السيطرة على الأمر، أما فى هذا اليوم فقد كانت المياه تسخن تدريجيا، ويبدو أن خالتى لم تستطع أن تحذرهم مبكرا إلى أن سخنت المياه إلى نحو غير محتمل وعندئذ فقط كان صراخها مدويا.

وفى مساءات ذلك الأسبوع الذى قضيته فى زيزينيا كنت دائم الجلوس مع أنكل على فى الصالة، بينما طنط بطة نائمة فى السرير فى غرفة نومها التى تطل على الصالة، كنت أدخل إليها بين الحين والآخر وأسألها:

عاملة ايه دلوقتى؟

الحمد لله يا حبيبى

طب عايزة شاى؟

كنت أفرح عندما تجيب بنعم، وأحزن إذا أجابت بلا. أصبحت الرغبة فى شرب الشاى مرادفة عندى لحب الحياة. أذهب فأصنع الشاى. لكنى لا أصبه لها فى كوب. لأنها لن تستطيع تعديل وضع جسمها على السرير لكى تشرب، وهى أيضا لن تستطيع أن تمسك بالكوب.

حل أنكل على لى المشكلة عندما قال لى:

شربها من البراد.

ذهبت إليها وأضأت النور، كان البراد فى يدى، جلست بجانبها على السرير ومددت يدى بالبراد وأملت بوزه نحو فمها وبدأت تشرب الشاى باللبن.

عندما انتهت قالت لى بحنان:

خلاص يا حماده، أنا كده خلاص

فى ردى عليها تصنعت المرح وأخفيت –جاهدا- تأثرى بالموقف. وفى نفس الوقت كان جزء بداخلى لا يعتقد إن الأمر فعلا «خلاص». وإنها ستقوم وتمشى وسينصلح كل ذلك، وسنعود إلى سابق عهدنا فى المرح والضحكات.

قلت لها مبتسما:

لأ لسه شوية

لا أدرى حتى الآن إن كنت أخطأت أم أصبت بهذه الجملة، هل كان فى تعبير وجهها بعض العتاب؟ هل قلت لها شيئا غير ما تتوقعه؟ هل كانت تتوقع أن تسمع منى شيئا مغايرا؟ شيئا جادا؟ وهل كنت أقدر على ذلك؟

هل هربت منها بتلك الإجابة؟ وماذا كنت أستطيع أن أفعل إلا الهروب؟

وماذا أفعل الآن بتذكرى؟ هل أستطيع أن أرد الآن بإجابة مختلفة؟

قالت لى وقد أظهر وجهها بعض العتاب الحانى:

انت شايف كده؟

طبعا

أكملت ابتسامتى ثم غادرتها وأنا أسألها:

أطفى النور؟

اختفى من وجهها ذلك العتاب الغامض وعاد طبيعيا. وخرجت من عندها والبراد فى يدى. وضعته فى الصينية ثم رغبت فى النوم بعدها بقليل فقمت. ولم أرها بعد ذلك إلا بعد أسبوعين بالضبط. عندما رفعت عن وجهها الغطاء وقبلتها على جبينها ثم أعدت عليها الغطاء.

**********

عندما رجعت إلى البيت ناويا استشارة فاطمة فى لون الحمام أدركت كل شىء. وجدت خالتى فوقية تجفف دموعها ومعها جارتها، ما إن رأتنى حتى أجهشت بالبكاء وقالت لى بصوت متقطع إن فاطمة ماتت.

كان قرارى سريعا بالسفر إلى الاسكندرية. دخلت إلى غرفتى. أحضرت بعض النقود ثم خرجت معلنا سفرى. حاورتنى فوقية قليلا فى مدى فائدة سفرى إلى هناك، بينما خالتى فايزة وزوجها هناك يبيتان معها منذ أسبوع، بالإضافة إلى أنكل على، وقالت لى إنهم سيحضرون بالطبع فى الصباح لدفنها فى القاهرة بمقابر العائلة، وبالتالى ما الداعى للسفر؟

خرجت قاصدا محطة رمسيس وهناك ألقيت نفسى فى أول قطار مغادر. عندما وصلت محطة سيدى جابر نزلت وأخذت أسير إلى الخارج لأستقل تاكسيا وأنا أقول لنفسى: إحفظ هذا اللون الجديد للشوارع والجدران، لأنه اللون الجديد الذى سيكون عليك أن تعتاد عليه. لون الاسكندرية بدون خالتى فاطمة.

فى زيزينيا كان وجود فايزة مطمئنا لى إلى أقصى حد، ففايزة هى أكثر بنات الشيخ مسعد زهدا فى الحياة وقربا من الله، وقد خاضت معركة طويلة ولكنها كانت يسيرة بالنسبة إليها، مع حب الحياة والحرص عليها، وكانت دائما مثالا لى ليس لتقليده، ولكن لمحاولة التعزى به، كلما ألمت بى صنوف التعاسة وخيبة الأمل.

وكانت جالسة على كرسى فى الصالة بينما أنا واقف بجانبها. سلمت على الرجلين وكانا رابطى الجأش، وكنت أنا صامتا أيضا، ثم وقفت بجانبها قليلا، فقالت لى وهى تشير برأسها إلى حيث ترقد فاطمة:

طنط بطة.

بالطبع لم تكن تعلمنى، بل كانت تتحسر بطريقتها الهادئة وتتدبر تفاهة الحياة من وجهة نظرها، بينما كان الأمر مختلفا من وجهة نظرى. زممت شفتى علامة الحسرة ثم دخلت سريعا غرفة الصالون وأغلقت الباب ولم أضىء النور.

جاء زوجها أحمد وفتح الباب، تيقنت من أنها قالت له شيئا. أغلق الباب وراءه ثم نصحنى بشىء كالعنف، أو كالصرامة فى مثل هذه المواقف، فنحن الرجال هنا فى المكان، ونحن الذين سنتصرف فى الصباح ونوزع الأدوار.

فى الصباح جاءت المغسلة، وجاءت معها «كريمة» الشغالة التى اعتادوا عليها فى السنوات الأخيرة، كانت تبكى طول الوقت تقريبا. وكانت الحركة دائمة فى البيت. من غرفة النوم إلى الحمام والعكس. حملوها إلى الحمام للغسل. وعندما اقترحوا لفها فى الملاءة أو الغطاء وحملها بواسطة عدد من الأشخاص قلت لهم أنى سأحملها وحدى. قالوا لى أنى لن أستطيع وأنه يجب الاستماع إلى ما ينصحون به. دخلت الغرفة قبلهم وجلست بجانبها على السرير. رفعت الغطاء عن رأسها وقبلتها على وجنتها القبلة الأخيرة، أرجعت الغطاء مكانه، ثم وضعت يدى الاثنتين تحت جسدها محاولا رفعها ولم يفلح الأمر بهذه الطريقة. حضروا بعدها وقاموا بالمطلوب. ثم خرجنا بها من الحمام إلى غرفة النوم ثانية فى انتظار عربة الاسعاف التى ستقلها إلى القاهرة. أغلقنا نوافذ البيت وجلسنا جميعا فى الصالة وماهى إلا دقائق إلا وحضرت الاسعاف. نزلنا بها السلم الخشبى الجميل ومشينا فى ممر الحديقة الخاص بنا. ينتهى هذا الممر بأربع درجات ثم مربع صغير من نفس بلاط الممر. بلاط الحدائق بلونيه النبيتى والأصفر ذى المسحة البرتقالى. كنا فى ذلك المربع نعبر إلى الشارع عندما رأيت الشغالة للمرة الأخيرة. كانت تبكى وعيونها غارقة فى التساؤل فى نفس الوقت، هل سترانا بعد الآن أم لا؟. أنا كنت أدرك أننى لن أراها مرة أخرى، فحتى لو جاءت بعد ذلك للتنظيف فسيكون ترددها على البيت أقل، وأنا أيضا سيكون ترددى أقل. كنت مندهشا فى الواقع من أن خسارة فاطمة أدت إلى خسارة عدد آخر من الوجوه، ربما لأنها كانت أول خبرة لى فى تذوق الخسارات التابعة، كنت فى السادسة والعشرين عندما حدث هذا الذى لم أستطع تصديقه.

سأجىء بعد ذلك أزور أنكل على، وأقيم معه كما فى السابق، لكن لن يكون ترددى عليه كما اعتدت ولا كما اعتاد هو. وسيبدأ بيت زيزينيا فى الابتعاد عن بؤرة المشهد، على الأقل من داخل البيت وليس من خارجه، حيث الحوائط الأسمنتية ستبقى من الخارج شاهدة على ما دار فى البيت من صخب وأصوات، وحيث سأظل أدور حول البيت دورة واحدة على الأقل فى كل مرة أذهب إلى الإسكندرية وأحيانا أخرى كل مساء، إلى أن أبلغ الخمسين.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق