تفاءلت خيرًا بأن حال هذه الوزارة سوف يتغير أخيرًا إلى الأحسن. وقد صدر العدد الأول من هذا الإصدار الثاني للمجلة بعنوان» الدولة المدنية»، الذي نال استحسانا من قرأوه، ومنهم وزير الثقافة الحالي قبل أن يتولى الوزارة. كان هذا العدد مواكبًا لسعي مصر آنذاك إلى بناء دستور يخص دولة مدنية. وشرعت بعد ذلك- مع رفاقي الأجلاء في هيئة التحرير- في إصدار العدد الثاني بعنوان «الخطاب الديني في مصر: الراهن والمأمول». انتهينا من هذا العدد منذ عشرة شهور، وقمنا بإعداد الكثير من العدد الثالث عن «الفن والأخلاق». كنا كمن يستشرف المستقبل، ويستجيب لنداءات الحاضر في واقعنا؛ ولذلك كنا نتلقى مساهمات من كبار الأساتذة والمفكرين في عالمنا العربي. ولكننا بدأنا نلاحظ عملية ممنهجة لإماتة هذا العدد، بل إماتة المجلة نفسها! ولقد سمعنا مؤخرًا أن هذا العدد المقرر صدوره منذ عشرة شهور سيتم الإفراج عنه في النهاية؛ ربما لأن خطاب رئيس الدولة الأخير أكد على ضرورة إصلاح شأن الخطاب الديني، وهو خطاب لا يخص مؤسسة الأزهر وحدها، وإنما يخص أيضًا وزارتي الثقافة والتعليم أيضًا بنفس القدر. ولهذا رأيت أن أنشر النص الأساسي لمقدمتي لهذا العدد:
لقد أردنا منذ البداية أن يكون لهذه المجلة الرائدة في ثوبها الجديد توجهًا خاصًا بها، وهو ربط الفكر بالواقع المعيش في عالمنا المصري والعربي. غير أن هذا الواقع الخاص لا ينفصل عن الواقع الإنساني العام؛ ومن ثم عن الفكر الإنساني الذي يحاول دائمًا فهم الواقع وتغييره بما يحقق أهداف الإنسان وتطلعه الدائم نحو عالم أفضل. وينطلق هذا التوجه من مبدأين: أولهما أن التجربة الإنسانية كما تحدث في واقع خاص، أي في إطار زماني ومكاني معين، هي تجربة تتكرر على أنحاء متنوعة في أزمنة وأمكنة مختلفة. وثانيهما أن الواقع الخاص (الذي لا ينفصل عن تجليات الواقع الإنساني العام) ينبغي أن نستعين على فهمه وتغييره من خلال الفكر، سواء كان هو فكر أمتنا أو فكر أمم غيرنا (كما تعلمنا من ابن رشد). ونحن في هذا كله نؤمن إيمانًا راسخًا بأن الفكر هو الذي يغير الواقع (كما تعلمنا من هيجل): فالعالم لا يتغير بذاته، وإنما الوعي هو الذي يغير العالم. وليس هذا القول بغريب على الوعي الديني الحق في الإسلام، فهو يتجسد في الآية الكريمة التي يحفظها كل مسلم: «لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». يردد المسلمون هذا القول دون أن يعرفوا معناه العميق، وحتى إذا فهموا شيئًا من معناه، فإنهم يفهمونه فقط من حيث دلالته الأخلاقية؛ فهم لا يفهمون أن «النفس» هنا تعني الوعي ولا شيء غير ذلك؛ وبالتالي فإن المعنى المُرَاد هنا هو أن واقع الناس لن يتغير ما لم يتغير وعيهم. ولكن وعي الناس في مصرنا وفي عالمنا العربي أصبح وعيًا مغيبًا، سواء كنا نتحدث على مستوى الوعي الديني أو العلمي أو السياسي أو التاريخي أو الفني والجمالي..إلخ. تلك هي أزمتنا الحقيقية.. أزمة الوعي في علاقته بالعالم! غير أن الوعي الديني الذي حسمت الأمم المتقدمة دوره ومكانته في الواقع الإنساني، ظل هو المهيمن على كل أشكال الوعي في واقعنا من خلال فهم سطحي ساذج يعمل على تغييب هذا الوعي ذاته. ولهذا كان موضوع «الخطاب الديني» هو الموضوع الذي نكرس اهتمامنا له في هذا العدد الثاني من المجلة.
لا فرق بين أن نتحدث عن «الوعي الديني» أو «الخطاب الديني»؛ لأن الخطاب الديني (باعتباره أسلوبًا في طرح الفكر والكلام عن الدين) هو الخطاب الذي يعبر عن الوعي الديني في مرحلة تاريخية ما من تطور الوعي أو نكوصه. ولا ريب أن هناك شواهدَ كثيرة على هذا النكوص تتجلى في الخطاب الديني السائد في واقعنا، سوف نرصد أهمها وأعظمها تأثيرًا في تفاقم الداء الذي أصاب الوعي الديني في واقعنا العربي بدرجات متفاوتة؛ ففي اكتشاف وتشخيص علة الداء يكمن الدواء:
أول مظاهر هذه العلل قد تمثَّل في مقولة «الإسلام السياسي» التي بدأت إرهاصاتها تظهر مع ظهور جماعة «الأخوان المسلمين» في مصر، وهي الجماعة التي قامت على استخدام الدين كوسيلة لاعتلاء السلطة: فالإسلام دين ودولة، ولا حاكمية إلا لله؛ ومن ثم فإن «الإسلام هو الحل»، وهو الشعار الذي رفعته تلك الجماعة في سائر معاركها مع الأنظمة الحاكمة في مصر، مخاطبةً بذلك عموم الفقراء والبُسطاء ممن يفتقرون إلى الوعي، الذين يزداد عددهم يومًا بعد يوم، ويزداد أيضًا شعورهم بالظلم بفعل فساد الأنظمة الحاكمة؛ فلا يجدون ملاذًا سوى في هذا الشعار، متوهمين أن الدين يمكن أن يحل لهم سائر مشكلاتهم في الحياة: في الاقتصاد والتعليم والسياسة وغير ذلك. ومن أسف أن هناك بعضًا من الكتاب والمفكرين في واقعنا الراهن يروجون لمقولة «الإسلام السياسي»، غافلين أو متغافلين عن أن الإسلام- مثل أي دين- هو في جوهره دعوة إلى الإيمان بمجموعة ما من العقائد أو المعاملات التي تتبدى في السلوك؛ فتراهم يقتطعون الآيات القرآنية من سياقها، ضاربين صفحًا عن أسباب نزولها، ليخوضوا في معارك فكرية وهمية حول موضوعات تستثير العوام دون أن يكون لها أساس، بل إنهم يوهمون العوام بأنهم يستندون إلى أحاديث نبوية، يعرف فقهاء الحديث الثقات أنها ليست سوى أحاديث ضعيفة.
لا يريد هؤلاء جميعًا أن يعلموا الناس شيئًا عن حقيقة الدين، وهي أن الدين علاقة بين الفرد وربه الذي به يؤمن، منها يستمد إيمانه بالمعتقدات الدينية وبما ينبغي أن يتعامل مع الناس ومع عالمه. لا يقول لنا الدين الإسلامي- مثلما لا يقول لنا أي دين- كيف نتعامل مع العلوم أو الفنون في مجموعها: إنه يحثنا فحسب على طلب العلم والمعرفة، وعلى تقدير الحس الفني والجمالي؛ لأن الخطاب الديني يعرف حدوده باعتباره في النهاية خطابًا وعظيًا يوجه الناس إلى مقاصد أخلاقية عامة، ليتوخونها في سعيهم الدنيوي نحو الكمال والتمكين في الأرض بمقتضى الحرية التي منحها الله لهم. فالله لا يقول للناس شيئًا عن العلوم الطبية أو النووية على سبيل المثال، ولكننا يمكن أن نستدل من خطابه لنا شيئًا يتعلق بعدم جواز استخدام مكتشفات هذه العلوم بطريقة غير أخلاقية. والواقع أن الخطاب الديني الإسلامي المشوَّه في واقعنا المعاصر- وهو خطاب مستمد من الأفكار الوهابية- هو خطاب معاد للعلم على وجه الإجمال؛ ومع ذلك فإن دعاة هذا الخطاب الذين نراهم دائمًا ناقمين على منتج العلم الذي يبدعه أقوام غيرهم، لا يتورعون عن استخدام كل الأدوات التي هي نتاج هؤلاء الأقوام المتحضرين الذين هم في نظرهم كافرون، بدءًا من ركوب الطائرات واستخدام السيارات، وحتى استخدام مكبرات الصوت التي يزعقون من خلالها بأصوات نكراء متشنجة في أثناء مواعظهم الأخلاقية وخطبهم الدينية!
ومن هنا أيضًا يمكن أن نفهم السر في معاداة الخطاب الإسلامي الراهن للعَلمانية: فالعَلمانية عند هذا التيار المتأسلم- أعني التيار الذي لا علاقة له بحقيقة الإسلام، وإنما يريد أن يستخدمه لبلوغ السلطة- هي محض كفر وإلحاد؛ لأنها عندهم تعني الإيمان بما يقوله العلم لا الدين؛ ولذلك تراهم ينطقون هذه الكلمة بكسر العين، فيقولون «العِلمانية»، وفي هذا أكبر دليل على جهلهم. «فالعَلمانية» secularism مصطلح مشتق من كلمة العَالم لا العِلم، وربما كان من الأنسب صياغتها لغويًا بكلمة «العالمَانية»، وربما أيضًا قد شاع نطقها بكلمة «عَلمانية» على سبيل التخفيف. فالعَلمانية أو «العالمانية» هي إذن كلمة مشتقة من العَالم وليس من العِلم. وليس معنى ذلك أن العلمانية هي توجه مغاير للعلم، وإنما هي توجه نحو شؤون العالم أو الدنيا التي تهتم بها سائر المعارف الإنسانية، وعلى رأسها العلم سواء كان في صورة العلوم الطبيعية أو الإنسانية، فضلاً عن دروب المعرفة الأخرى. فالعَلمانية إذن تعنى كل ما يتعلق بشؤون العالم أو الدنيا في مقابل ما يتعلق بشئون الدين. والشخص العلماني إذن هو في الأصل الشخص الذي يهتم بشئون الدنيا أو الحياة، في مقابل الشخص المنتمي إلى «الإكليروس»، وهو الشخص المكرس لشئون الدين. وليس معنى هذا أن الشخص العَلماني هو شخص غير متدين، وإنما هو شخص من رعايا الكنيسة- أي ينتمي إلى عموم الشعب- من غير «الإكليروس». وعلى الرغم من تعدد معاني العلمانية ودلالاتها، فإننا لا نجد أبلغ من التعريف الذي يقدمه الأستاذ الدكتور مراد وهبة، باعتبارها: «التفكير في النسبي بما هو نسبي، وليس بما هو مطلق»، وفي هذا التعريف إيجاز بليغ لما تقدم. وهذا المعنى هو نفسه ما نلتمسه في قول رسول الإسلام الكريم حينما سُئل عن تأبير النخيل فقال: «أنتم أعلم بشئون دنياكم»؛ لأن تأبير النخل هو أمر ينتمي إلى شئون الدنيا أو خبرات الحياة التي تدخل الآن في إطار علوم الزراعة في أبسط صورها.
ولا شك أن التطرف الديني موجود في كل الأديان، ولكنه يظل مرهونًا بنضج الوعي الديني في مسار تطور الحضارات. ولقد مرت الحضارة الغربية نفسها في مرحلة تدهورها خلال العصور الوسطى بحالة من نكوص الوعي الديني في علاقته بالعالم، حقًا كانت هناك تجليات عظمى للدرس الديني على المستوى الفلسفي واللاهوتي الخالص؛ ومع ذلك فقد ظل الدين في صراع مع العلم والفن (وهو ما تمخض بعد ذلك في تحطيم أيقونات الدين التي لا تختلف كثيرًا عن حركة طالبان المتأسلمة في تحطيمها لتماثيل بوذا، على بعد المسافة التي تفصل بين الحركتين). حقًا كانت هناك في العصور الوسطى الأوروبية إبداعات فنية لا تضاهى، ومع ذلك فقد ظل الفن(مثلما ظل العلم) أسيرًا للتعبير عن العالم الإلهي المسيحي، وليس عن عالم البشر الفسيح، إلى أن استطاع في النهاية التحرر من هذا القيد. ولذلك كله، فلا غرابة في القول بأن الحضارة الإسلامية في ذروة تألقها كانت عَلمانية؛ ومن ثم ساهمت في التأثير على نشأة العَلمانية في أوروبا (وأنا أنصح القارئ بالاطلاع في هذا الصدد على الكتاب الرصين للباحث إسماعيل حسنى بعنوان: علمانية الإسلام والتطرف الديني، دار مصر المحروسة، سنة 2008)، ما أشبه الليلة بالبارحة في تاريخ الحضارات، ولكننا لا نتعلم من التاريخ ونكرر نفس المسار الخاطئ، وبذلك فإننا نبقى في حالة من الغفلة عن التطور الذي يجري في الواقع المحيط بنا؛ لأننا نبقى في حالة نوم عميق لا نفيق منه أبدًا.
تلك استبصارات عامة ربما نسينا فيها شيئًا أو أغفلناه، ولكن إن نسينا فلن ننسى أبدًا استبصارات الفكر التي أشعت من عقل الأستاذين الجليلين اللذين ترأسا تحرير هذه المجلة الرائدة قبل أن تتوقف عن الصدور: زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا، ولم نجد ما هو أنسب من الاحتفاء بهما في هذا الصدد سوى أن نعيد نشر مقال لكل منهما يدخل في صلب موضوع هذا العدد من المجلة التي سعينا لإحيائها.