رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

الفيلسوف فى مواجهة المجتمع

د. عبدالرشيد محمودى
قصة «حي بن يقظان» كما رواها ابن طفيل تقوم على خرافة ألبسها الراوى زيا رمزيا فلسفيا. وللقصة فى فكر ابن طفيل وفى تاريخ الفكر الإسلامى أبعاد ونتائج بالغة الأهمية، ولكنها غير واضحة ومن السهل إغفالها أو التقليل من شأنها. فالقصة تتألف من جزءين رئيسيين: جزء يحيا فيه البطل فى عزلة مطلقة فى جزيرة غير مأهولة؛ وجزء ثان يخرج فيه البطل من عزلته ويواجه لأول مرة مجتمعا بشريا من المؤمنين، وينبغى أن نقرأ الجزءين معا لكى نفهم أغراض المؤلف ومراميه القريبة والبعيدة فهما كاملا.

فى الجزء الأول يتوصل حي بن يقظان وحده، أى بفضل فطرته الفائقة، إلى الحقائق الأساسية للوجود والإيمان وعمل الخير. ويفترض ابن طفيل بناء على ذلك أن الحقائق التى أملاها العقل على حي مطابقة لما جاء به الشرع، وأنه استطاع إلى هذا الحد أن يبطل تهمة الكفر التى وجهها الغزالى إلى الفلاسفة. ولكن ابن طفيل يتوصل إلى هذه النتائج بحكم كونه فيلسوفا وفيلسوفا مسلما مطلعا على القرآن، وبحكم قدرته من ثم على المقارنة بين تلك الحقائق وبين ما جاء به الشرع. أما حي بن يقظان نفسه، فمن الواضح أنه لا يستطيع فى عزلته المطلقة عقد تلك المقارنة. ومن الواضح أيضا أن المعتقدات التى توصل إليها فى عزلته لم تعرض على مجتمع مؤمن لكى يدلى فيها برأى وفقا لما جاء به الشرع. ومن ثم كانت ضرورة الجزء الثانى من القصة حيث ينتقل المؤلف ببطل القصة إلى جزيرة أخرى يسكنها بشر تلقوا رسالة نبوية وآمنوا بها.

وابن طفيل يمهد لهذه المواجهة بخطوة انتقالية حيث يلتقى البطل وهو ما زال فى موطنه الأصلي برجل يدعى «أبسال» يفد إلى الجزيرة ويعلم حي اللغة وينقل إليه الأنباء عن الجزيرة التى أتى منها. ويتضح من هذه الأنباء بسرعة أن المجتمع الذى ينتمى إليه أبسال مجتمع مؤمن بدين منزل. فابن طفيل يصف تلك الجزيرة الأخرى، فيقول إنها»انتقلت إليها ملة من الملل الصحيحة المأخوذة عن بعض الأنبياء المتقدمين صلوات الله عليهم». ويضيف إلى ذلك أن الملة المعنية «كانت ملة محاكية لجميع الموجودات الحقيقية بالأمثال المضروبة التى تعطى خيالات تلك الأشياء وتثبت رسومها فى النفوس حسبما جرت به العادة فى مخاطبة الجمهور». وعندئذ تنعقد المقارنة بين ما اهتدى إليه حي بمحض عقله وبين ما ورد فى تلك الشريعة التى أشار إليها أبسال ويتبين للطرفين أن هناك تطابقا بين ما أملاه العقل وما جاء فى تلك الشريعة.

ويروى ابن طفيل أن أبسال استمع إلى وصف حي لما توصل إليه «من حقائق وذوات مفارقة لعالم الحس عارفة بذات الحق وأوصافه الحسنى، وما شاهده عند الوصول من لذات الواصلين وآلام المحجوبين ... فلم يشك ... فى [أن] جميع الأشياء التى وردت فى شريعته من أمر الله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر وجنته وناره التى توصل إليها هى أمثلة هذه التى شاهدها حي بن يقظان... وتطابق عنده المعقول والمنقول». وسمع حي من ناحيته أقوال أبسال عن أهل جزيرته «وكيف كانت سيرهم قبل وصول الملة إليهم وكيف هى الآن بعد وصولها، وعما ورد فى الشريعة من وصف العالم الإلهى والجنة والنار والبعث والنشور والحشر والحساب والميزان والصراط، فلم ير فيما سمع ما يخالف ما شاهده، وعلم أن من جاء بذلك الوصف محق فى وصفه، صادق فى قوله، رسول من عند ربه فآمن به وصدقه وشهد برسالته». ويبدو من كل ذلك أن الملة الصحيحة التي يعنيها ابن طفيل ضمنا ولا يسميها هى الإسلام وأن حي بن يقظان عندما آمن بتلك الملة أصبح فى الواقع مسلما.

وبجب أن نتوقف قليلا عند ما يقوله ابن طفيل بشأن التطابق بين العقل والنقل، فهو فيما يرى تطابقا بين المعانى العقلية المجردة التى أدركها حي فى عزلته وبين الصور والتشبيهات والأمثلة التى وردت فى الوحي. وهو إذن تطابق بين الأصل والصورة أو بين الحقيقة والمثال. ويرى ابن طفيل أن أبسال كان مستعدا لفهم ما توصل إليه حي بعقله وقادرا على رؤية تطابقه مع الدين، لأنه – أي أبسال - كان شخصا متميزا يستطيع التأويل وتجاوز «الظاهر» و»الغوص على «الباطن». أى أن أبسال استطاع بسهولة أن يرى أن الحقائق العقلية التى توصل إليها حى هى بمثابة «الباطن» بالنسبة لما جاء فى «ظاهر» الشرع.

أما حي، فقد رأى بدوره ذلك التطابق بين الباطن والظاهر وآمن فورا بالملة التى شرحها أبسال، ولكنه مع ذلك يتوقف متعجبا متحيرا أمام ثلاث مسائل سنكتفى بالمسألة الأولى منها. فهو يتساءل: لماذا ضرب رسول الله الأمثال للناس فى أكثر ما وصفه من أمر العالم الإلهى وأضرب عن المكاشفة حتى وقع الناس فى شر التجسيم؟ وابن طفيل يتدخل هنا ليجيب فيرى أن الغرض من ضرب الأمثال فى الشرع وتقديم الخيالات الممثلة للحقائق العقلية بدلا من الكشف عنها فى حد ذاتها أمر لازم فى مخاطبة الجمهور، وتقريب تلك المعانى منهم وترسيخ رسومها فى نفوسهم. ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن عامة الناس لا يستطيعون إدراك الحقائق العقلية المجردة، ولا بد من نقلها إليهم عن طريق الأمثال والتشيهات «الظاهرة».

غير أن حي ما كان ليفهم بوضوح الحديث عن ضرورة مخاطبة الجمهور على قدر أفهامهم بالأمثال والصور. هذا افترضنا أن أبسال أجاب عن تساؤله على ذلك النحو. فحي الذى عاش فى عزلة مطلقة ما كان ليدرك بوضوح مفهوم «الجمهور» أو عامة الناس. وما كان ليدرك ان المؤمنين ينقسمون إلى فئات بحسب قدرتهم على الفهم. وما كان ليدرك أن أبسال فهمه واتفق معه لأنه من فئة خاصة تمتاز على غيرها بالقدرة على تجاوز ظاهر الدين والغوص إلى باطنه. وحي لم يدرك بوضوح هذه الحقائق الاجتماعية إلا عندما انتقل مع صاحبه إلى جزيرته تلك التى بلغتها الرسالة المنزلة، وواجه المجتمع الكبير على اختلاف فئاته، وواجه الجمهور. وعندئذ وعندئذ فقط أدرك أن ما ارتآه هو وأبسال من تطابق بين ما يمليه العقل وما نقل إلى الناس فى الشرع لا يلقى القبول من أغلبية الناس (الجمهور). ورأى رأى العين فئات المجتمع المختلفة عندما حاول أن يعلمهم ويطلعهم على الحقائق الروحية كما أدركها فى عزلته، فلم يجد منهم إلا إعراضا ونفورا.

واكتشف حي إذن أن المؤمنين يختلفون فيما بينهم. فهناك أبسال وامثاله وهم أقلية خاصة تدرك ما بين العقل والشرع من تطابق وتؤمن به لأنهم قادرون على التأويل. وهناك فئة ثانية تشمل «سلامان» حاكم الجزيرة وأتباعه وهم يشكلون الأغلبية ولا يرون إلا ظاهر الشرع ويرفضون ما عداه، رغم أنهم مؤمنون ومؤدون لفرائض العقيدة. وهناك فئة ثالثة لا هم لها إلا الانعماس فى الملذات وإشباع الشهوات. ويشبههم ابن طفيل بالبهائم. ومعنى ذلك أن حي يدرك أن الأغلبية لا تؤمن بالتطابق بين الحكمة والدين. ويترتب على ذلك أنه هو وأبسال يرحلان عن هذه الجزيرة ويعودان إلى جزيرة حي الأصلية ليعبدا الله على طريقتهما.

فإذا قرأنا القصة كاملة بدا لنا أن ابن طفيل لا يكشف عن بعض أقنعته إلا فى الجزء الثانى من قصته، فهو نفسه يؤمن بذلك التطابق بين الفلسفة والإسلام، وهو يرفض تهم الغزالى بناء على ذلك التطابق. ويتبين لنا أيضا أن ابن طفيل متشائم فيما يتعلق بقدرة الفيلسوف على الاندماج حقا فى المجتمع الكبير. فهو فى نهاية المطاف لا ينتمى إلا لقلة قليلة من أمثال أبسال، فى حين أن الغالبية العظمى من الناس تنقسم إلى فئتين: فئة مؤمنة تتوقف عند ظاهر الشرع وترفض ما عداه؛ وفئة أخرى لا يعنيها إلا إشباع غرائزها. ويرى ابن طفيل بناء على ذلك أن غربة الفلسفة أمر محتوم، وأن على الفيلسوف أن يكون «متوحدا» حتى فى نطاق المجتمع الذى ينتمى إليه. وقدم هو نفسه مثالا على هذا الاغتراب؛ فقد كان منخرطا فى الحياة الاجتماعية ومقربا من دوائر الحكم، ولكنه آثر التخفى وراء لغة الخرافة والرمز فى دفاعه عن الفلسفة ضد خصومها وعلى رأسهم الغزالى، وامتنع عن التصريح بأنه معني بالمواقف السائدة فى المجتمع الإسلامى.

وبعبارة أخرى نقول إن الخرافة التى رواها ابن طفيل تتضمن نقدا مبطنا لهذا المجتمع كما عرفه. وبإمكاننا نحن أبناء المجتمع الإسلامى المعاصر أن نرى أن تصنيفه للمواقف الفكرية السائدة فى هذا المجتمع صالح للتطبيق مع بعض التعديلات على ما نشهده اليوم. فهناك إلى جانب الأقلية أو النخبة من أتباع العقل، أهل الظاهر أو المتمسكون بحرفية النصوص؛ وهناك أصحاب الشهوات والمطالب الدنيوية. وقد يمكننا نحن المعاصرين أن نقيم جسرا بين الفئتين الأخيرتين، فنميز فئة مشتركة بينهما، هى فئة الذين يتمسكون بالظاهر تحقيقا لأطماعهم فى التمتع بالسلطة، ويتحالفون مع أصحاب الشهوات والمطامع لكى تتحقق لهم السيطرة الكاملة. ومن هؤلاء القادة الذين يتمسكون بجانب العبادات من الشرع دون جانب المعاملات، ويرون أن تحقيق العدالة بين الناس يتم عن طريق الإحسان بدلا من الإصلاح الحقيقى، والذين يبنون دور العبادة ولا يبنون المدارس والمستشفيات، ومن ينصحون الفقراء بالصبر وانتظار الآخرة بدلا من تحسين أحوالهم فى الدنيا. ويخيل إلى أن ابن طفيل ما كان ليرفض هذه التعديلات.

إلا أن قراءة قصة حي بن يقظان بجزءيها لا ينبغى أن ينسينا أن للقضية التى طرحها ابن طفيل – قضية التطابق بين الفلسفة والشرع – فصلا أخيرا وحاسما فى تاريخ الفكر الإسلامى. لا ينبغى بعبارة أخرى أن ابن طفيل يمهد الطريق لابن رشد لكى يجلس – هو الفقيه والقاضى والفيلسوف الراسخ العلم - على منصة الحكم ليبت ويصدر الحكم النهائى فى القضية. وليس من قبيل المصادفة أنه يضع كتابا يضمنه فتواه ويرسم فيه معالم برنامجه ويجعل عنوانه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال». وابن رشد لا يستخدم فى ذلك إلا أسلحة الفقه والمنطق والعقل. وهو لا يلجأ إلى الإيماء والتلميح، بل يحدد خصوم الفلسفة بصراحة ووضوح ويخرج لقتالهم وتفنيد آرائهم بالتفصيل وبالشروح المسهبة لنصوص الفلسفة التى يرى أنها تتفق مع الشرع، ويضع فى هذا السياق الشروط اللازمة لممارسة التأويل والقيود التى ينبغى أن يتقيد بها. ومن الواضح أن ابن رشد لم يكن متشائما فيما يتعلق بوضع الفلسفة فى المجتمع، ولم يكن يؤمن كما آمن ابن طفيل بحتمية اغترابها. بل كان يرى أن على الفلسفة أن تخرج لقتال خصومها وترسيخ مكانتها فى الحياة الاجتماعية. وابن رشد يختلف إذن مع ابن طفيل ويعارضه، ولكن لا شك لدى فى أن ابن رشد الفيلسوف العقلانى كان يضع نصب عينيه الخرافة التى رواها ابن طفيل. وأرجو أن تتاح لى فرصة لشرح ما أعنيه.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق