رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

لحظة فاصلة

د. عزة بدر
تعلقت أبصارنا بالمشهد كله , الشباب وقد وقفوا على السلالم المتحركة التى لاتتحرك!, الصفير الذى تتعالى نبرته ليصبح كالزئير .. الأيدى المحتشدة لفعل غامض, المصاعد الشفافة : اسطوانات زجاجية ملأى بالبشر كأنهم يرسلون بأنفسهم رسائل غرق موغلين فى الزجاج أو فى أقفاص شفافة ومن فيها أشبه بالعصافير الحبيسة ولكنها هذه المرة بلا مساق, وبلا خبز مبلول بالعطش .

الصفير.. الهمهمة.. الزئير, أبحث عن إشارات للمخارج.. أنقب عن فتحات للهروب.. عن سلالم تفضى إلى مشهد آخر

تصفق شابة بجانبى وتتسع عيناها دهشة , يتحفز إنسان عينيها للوثوب من مداخل الحدقات, شلالات من الصمت تغرق ملامح الوجه الشاب, تتكور قبضتها على نفسها كالحلزون, تترك فى صحنها ماطلبته من حلوى «سينابون» الحلزونية , تقرقش جبالا من قواقع بحرية, وأنجم بأصابع خمس, تتهيأ مثلما يتهيأون لفعل غامض لايعرفون , ولاأحد يعرف ماهو؟

أسأل النادل : ماذا يحدث هنا؟, ماذا يحدث؟

قال بلامبالاة: « لاأعرف ماذا يحدث هنا.. لاأعرف, لو كنت أعرف... لو عرفت..

رب أسرة يتحسس حافظته ويحدق فى فاتورة حسابه , يتمدد فى كرسيه الوثير, يتأمل المشهد كله ثم يفتح فمه عن آخره ويتثاءب, أقوم من مكانى لأتعجل فاتورة حسابى, وأبحث عن مخرج أو عن سرداب للاختباء, المكان كله من زجاج ومكشوف, كل حركة فيه واضحة وضوح الشمس,... لو غلقت الأبواب أو أحاطت بنا السلاسل.. لو أعملوا فينا المدى , لو انصرف الحراس..

أتأمل المحال المكشوفة .. لاسواتر .. لاعاصم اليوم .

النادل يبدأ فى كتابة فواتير الزبائن ثم يكورها بيديه , ويلقيها فى ساحة المكان كرات من ورق , يدفعها بقدميه فتستثير الجموع المحتشدة , يضرب الكرات بقدمه فتطير , وتضيع معها مديونية الزبائن .

أطالب نادلا آخر بالإسراع بكتابة فاتورة الحساب الخاصة بى, ينظر إلى الفواتير التى تحولت إلى كرات من ورق, يهم بتكوير فاتورتى ثم يرقصها على قدمه, يتلقاها على جبهته , يصفر هذا الصفير الذى يشبه الزئير .

عود ثقاب برأس دبوس كفيل بأن يشعل الموقف, أهجس ثمة صوت قد يدوى فيصم الآذان.. تتهدج أنفاسى وأعدو من مخرج إلى مخرج بلا خروج .

حراس المكان يمسكون بأجهزتهم اللاسلكية يستمعون لرسائل لاأسمعها, يشيرون للجميع بأن يهدأوا, وألا ينتظروا شيئا.

الكل يترقب المصاعد والسلالم المتحركة التى لاتتحرك!.

يصفقون.. يزأرون.. ينظرون فى ساعاتهم.. يريدون أن يبدأ العام الجديد بمالم يألفوا, بمفاجأة ما, حلوة أو مرة .

ينظر الحراس فى ساعاتهم, يحسبون بالدقائق والثوانى كل شىء

تتعلق الأبصار جميعا بشجرة الميلاد الخضراء المزينة .. بأنجم ذهبية, وشرائط خضراء أما هى فقد كانت تضرب بجذورها وأعراقها فى أرض لاتسقى, ولاتطرح سوى زينة ملونة, يدخل أمل دنقل إلى المشهد مرتديا عباءته الصوفية الصفراء بلون جلد الجمل, يستند إلى عكازه الخشبى, لايذكر أبدا ماتوزع من أعضائه هنا وهناك, لايذكر أبدا مافقده بل يذكر فقط ماتبقى, بفمه ناب وحيد يتكىء على جمرة تشتعل, فى عينيه المشهد كله ويهتف فى المكان :

(فاذكرينى, كما تذكرين المهرج.. والمطرب العاطفى

وكاب العقيد.. وزينة رأس السنة )

أرتعش .. ينمو البرد على جسدى نديف قطن وارتجافات خفيفة لاتلبث أن تتحول إلى انتفاضات مخيفة .

اذكرينا نحن النائمون تحت الكبارى, الممددون فى تراب النسيان, اذكرينا .... يهتف الجوالون ببضاعة لا أحد يشتريها , بائعات الفل بجلابيبهن الخفيفة تعلو أصواتهن بأناشيد حزينة « يافل مين علمك بالورد تجرحنا ؟ «

- نبيع الكلى , نبيع القلوب نظير لقمة يابسة

- مغموسة فى الماء أو فى الزيت

- فقط لقمة يابسة

يفترشون الأرصفة , آلاتهم فى أيديهم , الفئوس , الأزاميل , الشواكيش ثم يعولون :

- لاشىء يمكن هدمه الآن

يشيرون إلى قصعات ( المونة ) الخالية

-لاشىء يمكن بناؤه الآن .

رقعة المشهد تتسع ثم تنحسر فى دلتا ضيقة .

يصيح النادل فى الحضور : ماذا تنتظرون هنا ؟ , ماذا تريدون ؟ .. انصرفوا

بهدوء , لاالشجرة راقصة عارية , ولازجاجة شمبانيا ستفور بعد انتزاع السدادة ,

ولن نحمل المزيد من المخمورين فى مفارش النضد إلى الساحة .. امضوا .. ماذا تنتظرون ؟

تعالى الصفير , والزئير , والهمهمة .. الاحتشاد الذى ينذر بفعل غامض مثير.

ينظر الحراس فى ساعاتهم : لن نسمح باختراق الأنظمة

أوقفوا السلالم المتحركة أم أوقفها الماثلون فوقها ؟, أوقفوا المصاعد فجمدوها فى آنية الثلج أم أولئك الذين وضعوا أنفسهم فيها كرسائل الغرقى؟

يضطروننا للخروج , يدفعوننا أمامهم , الشابة الصغيرة المتحفزة تضرب المنضدة بقبضتها .

- لاشىء يحدث !

مخارج مغلقة , ومداخل مبهمة , وأناس ينتظرون فى شغف .

تهدأ الحركة فى المكان , ويتم إطفاء الأنوار فنتحرك فى طوابير تحتشد بالأمنيات والغضب .

- لاشىء يحدث ولكن الشجرة الخضراء حبلى بالأنجم الذهبية , وأقواس قزح , ونديف الثلج الأبيض , والشرائط الحمراء .

علب جذابة ملفوفة بالسوليفان اللامع تتدلى من سماوات بعيدة , يهمسون غاضبين :

- لاشىء فيها .. فارغة .. فارغة

يزيد الصفير والزئير والهمهمة, تتحرك شجرة الميلاد تجاهنا , تفرد ذراعيها , وتحتضننا فنلتف حولها, يتصاعد صوته العريض من بين النخلات البعيدة , بعباءته الصوفية الصفراء التى تشبه جلد الجمل .

(فاذكرينى , كما تذكرين المهرج والمطرب العاطفى

وكاب العقيد .. وزينة رأس السنة).

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق