لأسلّم الشخصية منها الى ذويهم بعد أن تسكت المدافع. .أنا الذي دفنت أيضا كثيرا من أصدقائي وأمي وأقربائي .. نعم أنا الذي فعلت كل هذا،لم أقو على الدخول مع دينا المشرحة.كانت قد عادت بعد فترة اختفاء قصيرة،ولم تتح لي الفرصة لأسألها عن أي شىء، وكان صدرها يعلو ويهبط بسرعة واضطراب،وبدت وكأنها على وشك الاختناق.فهمتُ على الفور،فهذا هو حالها عندما تعاودها آلام انتزاع الجناحين من جسمها.أخبرتني في الطريق فقط ان علاء وأبانوب وكريم السيد في المشرحة.واستغرقت وقتا لأفهم ماتقصده. لم ترد علّي عندما سألتها عن الاسماء التي ذكرتها وهل هم أصدقاؤها.وفجأة أدركت أن وجود هؤلاء الثلاثة في المشرحة يعني أنهم شهداء،فقد مضى على مجازر محمد محمودعدة أيام منذ بدأت الاشتباكات في أوائل فبراير.
واصلنا طريقنا.كانت عيناها لامعتان مبللتان.هي إذن لاتعاني فقط من آلام انتزاع جناحيها،بل أيضا تعاني من فقدها لأصدقائها الشهداء.وضعتُ يدي على كتفها وضممتها لي ونحن نسير، فاستسلمت وتركت كتفها يستريح قليلا في صدري.أشرتُ لتاكسي وذهبنا الى مشرحة زينهم.
أعرف رائحة الموت جيدا،ولطالما خبرتها على مدى العقود الماضية،تلقفتها على الفوروتعرّفت عليها ونحن نهبط من التاكسي.كان الأهالي في كل مكان،النسوة والبنات أغلبهن فقيرات بالملابس السوداء،انخرطن في البكاء والصراخ على الشباب الذي قتل في الميادين والشوارع بالرصاص الحي،أما الرجال والشباب فكانوا يضجّون بالزعيق وهم يدخنون ويلوّحون ويتدافعون هنا وهناك.كانت الرائحة منعقدة في الجو مثل غيمة،رائحة الموت ممتزجة برائحة الأهالي.
تلقّت دينا من تعرفهم بالاحضان وهي تبكي صامتة إلا أن جسمها كان يرتجف .لم أكن أعرف أحدا من أصحابها،وفي الوقت نفسه كنت أعرفهم على نحو ما،ملامحهم مألوفةبالنسبة لي،بنات وأولادمرهقون ولهم رائحة عضوية قوية،توقفوا عن البكاءبعد أن احتقنت عيونهم وتحجرت. نعم تحجرت.كانت عيون قاسية تحدق فيك دون أن تراك.
جاء من الداخل شاب يركض صارخا:
«عايزين محامي .. الجثث جوّه بتتبصّم على محاضر شهادات مسجلين خطر .. عايزين محامي .. محامي بسرعة.. ».
في لحظة، كانت دينا تجّرني وهي تركض لنلحق بمجموعة قليلةاتجهت الى ممشى مجاور،وعندما أدركتُ اننا في الطريق الى باب المشرحة الخلفي، تخلصتُ من يدهاووقفتُ في مكاني.أشرتُ لها برأسي بما يعني أنني لن أستطيع أن أدخل معها،فاستدارت تجري نحو زملائهاوتركتني. فكرتُ فيما قاله هذا الشاب منذ لحظات ، واصطحب معه عددا من الشباب الى الداخل. لم يكن من السهل تفسير ماقاله أو فهمه،ومع ذلك لم يكن هناك إلا تفسير واحد :إنهم يزوّرون المحاضر والتقارير بكل الطرق الفاضحة . إنهم يغيّرون بصمات الشهداء ويحولونهم الى مسجلين خطر. بدا الأمر غامضا بالنسبة لي مع هذا، لكن المؤكد أن العبث داخل المشرحة فاق التصور والفهم.
كنت أعرف الكثير من مصائب وكوارث الطب الشرعي منذ تقرير خالد سعيد الشهير قبل الثورة، والمذكور فيه أن خالد لم يمت نتيجة التعذيب والضرب الوحشي من المخبرين،بل من لفافة بانجو انحشرت في زوره، لما حاول ابتلاعها حال القبض عليه. وكنت أعرف أيضا ان كثيرا من جثث أطفال الشوارع الذين ماتوا أثناء الاشتباكات قد اختفت من المشارح. وهناك أيضا حملة»هانلاقيهم»التي شكلّها النشطاءللبحث عن المفقودين،ووفّقت الحملة بالفعل ،وعثرت على عدد من الذين كانوا في عداد المفقودين داخل المشارح بالمصادفة ،ولولا تعرّف أهلهم عليهم لدفنوا في مقابر الصَدَقة.وكانت دينا قد حكت لي أن هناك واحدا اسمه مالك عدلي،دخل الى المشرحة مع زملائه،وكان يضع أصبعه في جرح كل شهيد حتى تكتب التقارير على نحو يحفظ لكل شهيد حقه في أن يكون شهيدا ،لأن الفارق بين الجرح القطعي وإصابة الرصاص هو مرور الأصبع في الجرح،وهو العمل الذي كان وكيل النيابة المكلف بكتابة التقارير يرفض القيام به. وكنت قد تعرفتُ على مالك هذا حينما أصيبت دينا بطلقة خرطوش في جفن عينها اليمنى في مذابح محمد محمود الأولى ،بينما كان مالك قد أصيب إصابة مباشرة في عينه وفقدها .التقينا عند الطبيب نفسه الذي كان متطوعا لعلاج مصابي الثورةهو ومستشفى العيون الذي يملكه.
وجدتني أقف وحيدا في الممشى.كنت مرتبكا وحريصا على ألا تلتقي عيناي بتلك العيون المحيطة بي.بحثتُ عن علبة سجائري في كل جيوبي ولم أجدها.فكّرتُ في استكشاف المكان الذي لم أره من قبل.كانت البوابةالتي دخلنا منها عريضة واسعة،وبعدهاهناك مبنى من عدة طوابق، ثم مبان داخلية قريبة من بعضها البعض .سمعتُ ولدا صغيرا يقول للبنت الواقفة بجواره:
«الشهدا كانوا كتير .. من شويه المشرحة طلبت مننا نعلن عن التبرع بتوابيت لنقل الشهدا..»
كانت البنت أكبر منه بعدة سنوات،وأسرعا مبتعدين عني في اتجاه الممشى المؤدي للباب الخلفي للمشرحة.لم يتح لي أن أسمع رد البنت عليه،إلاأنني كنت أرى حركة شفتيهاوهزات رأسها المتتابعة.واصلت طريقي،وكان الزحام يزداد على البوابة،واضطررت لاستخدام يدي الاثنتين وأنا أتملص محاولا الخروج.تذكرتُ ان دينا لاتزال بالداخل ، ومع ذلك واصلت طريقي.
وفيما بعد ستحكي دينا لي إنها ما أن دخلت المشرحة حتى هبّت رائحة المسك.مسك الشهداء لاتشبهه أي رائحة. مسك الشهداءيغمرك ويفيض عليك.حكتْ لي أيضا أنها رأت شهداء يبتسمون،وشهداء على وشك الابتسام،وآخرون ماتت الابتسامة على شفاههم، لكنها لم تصادف أبدا شهيدا واحدا أغمض عينيه على إحساسه بالرعب،كلهم،كل الشهداء،كما قالت لي دينا كانوا في طريقهم للجنة.
لم يخرجوا من مشرحة زينهم وحدها ،خرجوا أيضا من مشرحة المستشفى القبطي ومستشفى الدمرداش وقصر العيني وسيد جلال وأم المصريين والساحل والخليفة ومعهد ناصر.كلهم طارت بهم النعوش الى ميدان التحرير،لكنهم كانوا أسرع من نعوشهم، فطارت أجسامهم وشاهد الجميع أطراف أكفانهم وهي ترفرف في الهواء حتى استقروا في الميدان، ومالبثت نعوشهم أن لحقت بهم، وانطلق الجميع في مظاهرة ضخمة شقت المدينة.
...........................................................
مجتزأ من متتالية قصصية يعكف الكاتب عليها