لم يكن النصر ممكنا دون تضحيات، ولم يكن غريبا على الشعب المصرى وقواته المسلحة أن يتسابق الجميع إلى الاستشهاد، الضباط والجنود والمهندسون ورجال الصاعقة وسادة المعارك من قوات المشاة وسادة البحار من قواتنا البحرية ونسور الجو من الطيارين، الذين خاضوا جميعا معارك بطولية مع العدو طوال سنوات حرب الاستنزاف وحتى يوم العبور.
وتلاحم الشعب المصرى مع قواته المسلحة فى عدد من المعارك والملاحم البطولية، التى أثبتت للعالم أجمع قدرة المصريين على اتخاذ القرار، ودقة الإعداد والتخطيط، وبسالة الأداء والتنفيذ.
ونحن نحتفل باليوبيل الذهبى لأيام النصر وكأن أحداثها بالأمس القريب نتذكر من خلالها التضحيات التى بذلها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهانت أرواحهم الطاهرة الزكية، ولم تهن مكانة الوطن وأرضه فى قلوبهم، فقهروا المستحيل وضربوا أروع صور البطولات المصرية التى سجلها التاريخ بحروف من نور..
«رأس العش» .. المعركة الأولى
«رأس العش» هى واحدة من اهم معارك حرب الاستنزاف، والتى دارت أحداثها فى اليوم الأول الذى تولى فيه اللواء أحمد إسماعيل على قيادة الجبهة فى أول يوليو 1967 تقدمت قوة إسرائيلية شمالا من مدينة القنطرة شرق ـ شرق القناة ـ فى اتجاه بورفؤاد شرق بورسعيد لاحتلاله، وهى المنطقة الوحيدة فى سيناء التى لم تحتلها إسرائيل أثناء حرب يونيو. تصدت لها قواتنا ودارت معركة رأس العش، لكن قوة من الصاعقة المصرية نجحت فى صد الاعتداء الإسرائيلي. وكانت بمثابة الشرارة التى أدت لاندلاع حرب الاستنزاف على ضفتى قناة السويس لنحو ثلاث سنوات.
وننقل عن اللواء محمد عبد الغنى الجمسي، رئيس هيئة العمليات أثناء حرب أكتوبر فى مذكراته عن حرب أكتوبر عن معركة رأس العش: «كانت تدافع فى منطقة رأس العش ـ جنوب بور فؤاد ـ قوة مصرية محدودة من قوات الصاعقة المصرية عددها ثلاثون مقاتلًا من قوة الكتيبة 43 صاعقة بقيادة الرائد سيد الشرقاوى الذى أعطى امر عمليات لقائد سرية الصاعقة الملازم فتحى عبد الله - لواء متقاعد حاليا - بتجهيز السرية للعبور وعمل خط دفاعى امام القوات الإسرائيلية المتقدمة وبالفعل تقدمت القوة الإسرائيلية، تشمل سرية دبابات (ثلاث دبابات) مدعمة بقوة مشاة ميكانيكة فى عربات نصف جنزير، وقامت بالهجوم على قوة الصاعقة التى تشبثت بمواقعها بصلابة وأمكنها تدمير ثلاث دبابات معادية.

ملحمة أكتوبر 1973- تصوير - أنطوان ألبير
وعاود العدو الهجوم مرة أخرى، إلا أنه فشل فى اقتحام الموقع بالمواجهة أو الالتفاف من الجنب، وكانت النتيجة تدمير بعض العربات نصف جنزير بالإضافة لخسائر بشرية واضطرت القوة الإسرائيلية للانسحاب، وظل قطاع بور فؤاد هو الجزء الوحيد من سيناء الذى ظل تحت السيطرة المصرية حتى نشوب حرب أكتوبر 1973»: ويوضح الجمسى، فى مذكراته أن «رأس العش» كانت هى المعركة الأولى فى مرحلة الصمود، التى أثبت فيها المقاتل المصرى رغم الهزيمة والمرارة ـ أنه لم يفقد إرادة القتال.
فى الساعات الأولى من صباح 1 يوليو، 1967، وبعد ثلاثة أسابيع من النكسة، تقدمت قوة مدرعة إسرائيلية على امتداد الضفة الشرقية لقناة السويس من القنطرة شرق فى اتجاه الشمال بغرض الوصول إلى ضاحية بور فؤاد المواجهة لمدينة بورسعيد على الجانب الآخر للقناة كان الهدف احتلال بور فؤاد، وكانت المنطقة الوحيدة فى سيناء التى لم تحتلها إسرائيل أثناء حرب يونيو 1967، وتهديد بورسعيد ووضعها تحت رحمة الاحتلال الإسرائيلي.
وعندما وصلت القوات الإسرائيلية إلى منطقة رأس العش جنوب بور فؤاد وجدت قوة مصرية محدودة من قوات الصاعقة المصرية عددها ثلاثون مقاتلًا مزودين بالأسلحة الخفيفة فى حين كانت القوة الإسرائيلية تتكون من عشر دبابات مدعمة بقوة مشاة ميكانيكية فى عربات نصف مجنزرة، وحين هاجمت قوات الاحتلال قوة الصاعقة المصرية تصدت لها الأخيرة وتشبثت بمواقعها بصلابة وأمكنها تدمير ثلاث دبابات معادية. وفوجئت القوة الإسرائيلية بالمقاومة العنيفة للقوات المصرية التى أنزلت بها خسائر كبيرة فى المعدات والأفراد أجبرتها على التراجع جنوبًا.
ثم عاودت إسرائيل الهجوم مرة أخرى، إلا أنها فشلت فى اقتحام الموقع بالمواجهة أو الالتفاف من الجنب، وكانت النتيجة تدمير بعض العربات نصف المجنزرة وزيادة خسائر الأفراد، اضطرت القوة الإسرائيلية للانسحاب.
وبعد الهزيمة التى تعرضت لها إسرائيل لم تحاول بعد ذلك احتلال بور فؤاد مرة أخرى وظلت فى أيدى القوات المصرية حتى قيام حرب أكتوبر، 1973، وظلت مدينة بور سعيد وميناؤها بعيدين عن التهديد المباشر لإسرائيل.
«كبريت».. ملحمة للصمود
تعد ملحمة «كبريت» واحدة من أكثر المعارك التى أظهرت بسالة المقاتل المصرى أثناء حرب أكتوبر، وسطر أبطالها أكبر البطولات دفاعا وصمودا أمام ضربات العدو الاسرائيلى خلال فترة هى الأطول خلال فترة حرب أكتوبر، وراح ضحيتها 150 شهيدًا قدموا أرواحهم فداء لاستعادة الأرض، وفى مقدمتهم قائد الكتيبة العقيد إبراهيم عبد التواب، والذى يعد آخر شهيد فى الحرب. ويروى البطل المقاتل محمود كمال عبد الواحد من أبناء قرية «شاهبور» بمركز كوم حمادة بمحافظة البحيرة، ويبلغ من العمر الآن 73 عاما، ذكرياته عن المعركة، ويقول: التحقت بالقوات القوات المسلحة فى 1 يناير 1970، وحصلت على فرقة صاعقة وشاركت فى «ملحمة كبريت». وكانت الكتيبة مع أول موجة لعبور القناة، وفى الساعة الثالثة عصرا نجحنا فى عبور القناة وحررنا المكان الذى دخلنا فيه وقمنا بالمشى لمسافة حوالى 10 كيلو وتم تجميعنا مرة أخرى على شاطئ القناة واستمر تجميعنا لمدة يوم آخر يوم 7 و8 أكتوبر.

البطل محمود كمال عبد الواحد
وفى التاسع من أكتوبر صدرت لنا تعليمات بالتوجه إلى نقطة كبريت، وكان العدو الإسرائيلى ما زال مسيطرا عليها، وتحركت الكتيبة بقيادة القائد الشهيد البطل إبراهيم عبد التواب الى نقطة (كبريت) الحصينة، ورغم قصف طيران العدو والمدرعات الإسرائيلية دخلنا معهم فى قتال على بعد حوالى 3 كيلو من النقطة الحصينة، إلا إننا كنا أقوى من أى عقبة يمكن أن تواجهنا، وانهارت قوات العدو وانسحبت، واستطعنا تدمير جميع الدبابات والمدرعات التى كانت تواجهنا، ونجحنا فى إتمام خطة الاقتحام ورفعنا العلم.
واستمر القتال وفى يوم 16 أكتوبر اشتد وتمكنا من القضاء على عدد من الجنود الإسرائيليين، واستطعت – بفضل الله - أسر 3 جنود إسرائيليين، وأحضرتهم من وراء الساتر. ويوم 22 أكتوبر صدر قرار وقف إطلاق النار، ولكن بالنسبة لنا كانت الحرب لم تتوقف وظلت حتى 14 يناير 1974 واستشهاد القائد إبراهيم عبد الواحد قائد الموقع، والذى قاد الهجوم بنفسه وقدم روحه فداء للسيطرة على النقطة، وخلال الفترة من 14 يناير حتى 14 فبراير استمرت المفاوضات لفك الحصار، وبدأنا فى تجهيز أنفسنا لعودتنا إلى المنطقة الشمالية. حيث استمر تجنيدى بالخدمة بالقوات المسلحة خلال الفترة من 1 يناير 1970 الى يناير 1975.
جزيرة «شدوان» بسالة شعب وتلاحم جيش
أهالى البحر الأحمر نقلوا الذخائر والمؤن والأسلحة لقوات الصاعقة بمراكب الصيد
جسدت معركة «شدوان» أسمى معانى التعاون والتلاحم بين أهالى محافظة البحر الأحمر، وقواتهم المسلحة، عندما تم هزيمة العدو الإسرائيلى فى يوم 22 يناير عام 1970.
و«شدوان» هى جزيرة صخرية منعزلة، مساحتها تقريبا 61 كيلو مترًا، وتقع بالقرب من مدخل خليج السويس وخليج العقبة بالبحر الأحمر، وعليها فنار لإرشاد السفن وتبعد عن مدينة الغردقة 35 كيلو مترا وعن مدينة السويس 325 كيلو مترًا.
وفى يوم الخميس 22 يناير 1970 شنت القوات الإسرائيلية هجوما بريا وبحريا وجويا على جزيرة «شدوان» وبعض موانىء البحر الأحمر لتمنعها من تقديم المعونة لقواتنا المصرية، واستمر القتال بين سرية صاعقة مصرية وكتيبة مظلات إسرائيلية على مدار ساعات متصلة، وتمكنت القوات الإسرائيلية من إصابة أحد القوارب المصرية فى الجزيرة، وفى المقابل تمكنت القوات المصرية من قتل وجرح عدد لا يقل عن ثلاثين من الإسرائيليين بالإضافة إلى إسقاط عدد 2 طائرة معادية إحداهما من طراز «سكاى هوك» والثانية من طراز «ميراج».
ملحمة شعبية
شهدت الجزيرة ملحمة شعبية، تقاسم فيها أبناء محافظة البحر الأحمر مع جنود قواتنا المسلحة الصمود أمام قوات الاحتلال. وقامت القوات الإسرائيلية، بهجوم ضخم على الجزيرة جوًّا وبحرًا، كذلك هاجموا مساكن المدنيين الذين يقومون بإدارة هذا الفنار. قامت الطائرات الإسرائيلية جوا و«لنشاتها» بحرا بالهجوم على الجزيرة بهدف إحكام السيطرة على البحر الأحمر إلا أن أبناء المحافظة لم يتخلوا عن قواتهم وقاموا بتوصيل الذخائر والمؤن والأسلحة فى مراكب الصيد من شاطئ الغردقة إلى جزيرة شدوان.
ودارت أعمال القتال بين كتيبة المظلات الإسرائيلية وأفراد الصاعقة المصرية الذين خاضوا المعركة ببسالة وأحدثوا خسائر جسيمة بقوات العدو، كما تمكنت وحدات الدفاع الجوى المصرى من إسقاط طائرتين للعدو، من طرازى «ميراج» و«سكاى هوك».
واستمر القتال ببسالة وشجاعة من جانب القوة المصرية وحاولت قوات العدو باستماتة السيطرة على الجزيرة ومنع الإمداد الذى يأتى للجنود المصريين من خلال البحر ولكنهم فشلوا رغم تفوقهم العددى والقصف الجوى العنيف والإمدادات الكثيرة التى كانت تأتى إليهم.
وفى اليوم التالى للقتال والموافق الجمعة 23 يناير، قصفت القوات الجوية المصرية المواقع التى تمكن العدو من الوصول إليها فى جزيرة «شدوان» فى الوقت الذى قامت فيه قواتنا البحرية بأعمال تعزيز القوة المصرية على الجزيرة، وهو ما أدى لانسحاب القوات الإسرائيلية من الجزيرة بالكامل.
رابط دائم: