إن لم تضطرك الأعمال الفنية إلى أن تغلق عينيك وتفتح قلبك لتبصر جاذبية تفاصيلها فلا تضيّع وقتك الثمين معها. لكن لوحات الفنان التشكيلى الفرنسى إدجار ديجا تضعك في قلب الجمال ذاته.
فقد سعى ديجا ـ الذى غادر عالمنا فى 27 سبتمبر 1917 ـ لإظهار الحياة بكل تنوعها وحركتها التي لا نهاية لها، حيث رسم المسابقات.. الناس فى المقاهى والمسارح.. وفى الشوارع.. كان عالمه وراء الكواليس، فى أوبرا باريس القديمة.. فى دروس الرقص وبروفات الباليه...

كان ينقل حالات التعب والضجر على وجوه عاملات المغاسل
لا شك أن لوحة «درس الباليه» تظل من الأعمال الخالدة لدى محبى الفنون الجميلة ومؤرخيها. فهى تجسد مدرس الباليه العجوز واقفًا وهو متكئ على عصاه فيما تتحلق حوله الراقصات الشابات المرتديات ملابس الرقص. في كل زوايا الصورة، تأخذك البساطة فى كل شىء، الأثاث والأزياء، لا بهرجة ولا تجاوزات. وفقاً لرأي إدجار »لا يرسم الفنان ما يراه، ولكنه يرسم مايجب على الآخرين رؤيته».
ويعتبر ديجا، المولود فى 1834، أحد الدعاة الرئيسيين للانطباعية، لكنه كان دائما يتمتع بأسلوب مستقل. فقد أحب تصوير الناس، وخاصة النساء، وتميز برسم البورتريهات. ثم أصبح مهتمًا بموضوع الباليه. لكنه لم يكترث برسم الراقصين على خشبة المسرح بكل روعتهم، وإنما فضل إظهار عملهم وراء الكواليس في الحياة اليومية. عندما سئل لماذا يشير في كثير من الأحيان إلى موضوع الباليه، أجاب: «إنهم يدعوننى رسام الراقصين؛ لا يفهمون أن الراقصين خدمونى فقط كذريعة لرسم أقمشة جميلة ونقل الحركات».
انتماء ديجا لأسرة من الطبقة الراقية، جعله يلتحق عام 1855 بمدرسة الفنون بباريس كتلميذ في مرسم الفنان «لويس لاموث» ثم سافر إلي إيطاليا لدراسة الفن هناك، واتجه لرسم موضوعات تاريخية ثم اتجه لرسم البورتريهات. ترك الفنان الفرنسي أكثر من 2000 لوحة زيتية وباستيل ومنحوتات، أغلبها لوحات عن راقصات الباليه، ولعل هذا يرجع لما اعتاده ديجا من الذهاب لقاعات الأوبرا مع أصحابه للاستمتاع بهذا الفن.

لم يكترث برسم الراقصات على خشبة المسرح وإنما فضل إظهار عملهم وراء الكواليس
لم يتوقف الأمر على راقصات الباليه وحفلات الأوبرا، إذ ظهر لتلك الحفلات وجه آخر، حيث كان إدجار مثل بقية أبناء طبقته البورجوازية يحضر تلك السهرات بملابس نظيفة، «مكوية»، تفوح منها رائحة النشا. وفجأة، مثل تفاحة نيوتن، استوقفه تساؤل مفاجئ: كيف لهذه الملابس أن تكون بهذا الألق؟!
هنا بدأ في البحث عن السبب وأصبح يتردد كثيرا على محال غسيل الملابس يتأمل في العاملات، ويرسم العديد من الرسومات الأولية لهن.. فهو لم يستخدم موديلا في لوحاته هذه، بل كان ينقل بمنتهى الأمانة حالات التعب والضجر على وجوههن، ونظرا لأن المكواة تتطلب جهدا مضنيا أخذ يرسم انحناء الأكتاف وشد المقابض وتثاؤب الأفواه.
كما تفوق ديجا على نفسه حين رسم مقهى عصريا يدعى باريسيان نوفيل أثينا، على إحدى طاولاته يجلس امرأة ورجل يحتسيان مشروباتهما. على الرغم من جلوسهما جنبًا إلى جنب، إلا أنهما محاصران في عزلتهما الصامتة، عيونهما فارغة وحزينة، وملامحهما مهزومة، وهواؤهما غارق.
يمكن اعتبار العمل بمثابة استنكار لآفات «الأفسنتين»، هذا الكحول العنيف والضار الذي سيتم حظره لاحقًا. وهكذا نقارنها برواية الكاتب الفرنسي زولا، L'Assommoir، التي كتبت بعد سنوات قليلة، حيث اعترف الكاتب للرسام: «لقد وصفت بكل بساطة، في أكثر من مكان في صفحاتي، بعض لوحاتك». اللوحة تم رسمها في الاستوديو وليس في الموقع.
لا شك أن المتأمل لأعمال ديجا يسيح في تفاصيل هذه النفائس، ويضيع بين تضاريسها. يخطفك اللون وتدرجاته، والخطوط ومساراتها، تسرى فى خاطرك بهجة، وتستحضر حياة الفنان الذي صاغها بأنامله، وسنواته العديدة المتواصلة، وكيف أنفقها كلها في صنع أعمال رائعة تستشعر معها روحك بعض المتعة.. وكثير من الألم.
رابط دائم: