«رغم أن الفخر المفرط والتواضع الزائف ليس من الصفات المثيرة للإعجاب، فإننى فخور حقا بما حققناه بشكل جماعى على مدى العقود الماضية.. وأنا مدين بالكثير لزملائي، الذين لم تكن مساهماتهم فى نجاحنا مرئية أحيانا خارج الشركة، لكننى أقدرها للغاية». جاءت هذه الكلمات ضمن الرسالة التى وجهها «روبرت مردوخ» إلى موظفيه ليخبرهم بأنه قرر التنحى فى نوفمبر المقبل عن منصبه كرئيس لشركة «فوكس كوربوريشن»، الشركة المالكة لقناة «فوكس» وقناة «فوكس نيوز»، التى تعد من أكثر شبكات الأخبار الفضائية شعبية وأكبر منافس لشبكة «سي.إن.إن».
هذا بالإضافة لتخليه عن إدارة «نيوز كورب»، دار النشر التى تمتلك عددا من الصحف واسعة الانتشار، منها صحيفتا «وول ستريت جورنال» و«نيويورك بوست». ويأتى تخلى «مردوخ» عن مناصبه الإدارية بعد سبعين عاما قضاها فى بناء واحدة من أهم الإمبراطوريات الإعلامية فى العالم. لم يكن إعلان تنحيه صادما لأنه يبلغ الآن الثانية والتسعين من العمر، لكن الخبر أثار ضجة، فـ «مردوخ» لا يزال، رغم نجاحاته المذهلة وزيجاته المتعددة والصراعات المريرة التى خاضها، لايزال يتمتع بصحة جيدة أهلته حتى هذه اللحظة لأن يكون منخرطا فى صناعة الأخبار والأفكار بشكل يومي.
ولد «مردوخ» فى استراليا عام 1931، ونشأ فى صالات التحرير حيث كان والده يمتلك عددا من الصحف الاسترالية. كان «مردوخ» فى منتصف العشرينيات من عمره عندما تولى عام 1954 إدارة شركة «نيوز ليميتد» العامة فى استراليا، وهى المؤسسة التى كان والده يديرها فى السابق. توسعت الشركة وقامت بتأسيس العديد من الصحف الاسترالية قبل أن تبدأ فى شراء دور نشر فى بريطانيا والولايات المتحدة، ثم بدأ فى تأسيس شركاته الخاصة، كما شغل منصب الرئيس التنفيذى لشركة « فوكس القرن الحادى والعشرين»، قبل أن تندمج الشركة مع «والت ديزني» عام 2019.
وبحسب إعلان «روبرت مردوخ» فإن «لاكلان»، أحد أبنائه الستة، سيتولى إدارة أعمال العائلة كرئيس تنفيذى لشركة «فوكس» ورئيس لـ «نيوز كورب» من الآن فصاعدا. ورغم أن الشركتين عامتان، فإن عائلة «مردوخ» تسيطر عليهما من خلال ملكية فئة خاصة من أسهمهما.

روبرت مردوخ
ومع أن تقاعد رجل فى الثانية والتسعين يبدو تطورا طبيعيا، إلا أن كثيرين يحاولون البحث عن الأسباب الحقيقية وراء قراره. يقال إن حادثة سقوطه على متن اليخت الذى يمتلكه ابنه «لاكلان» قد أدت لإصابته بجروح خطيرة رغم أنه صحته لاتزال جيدة. وقد تزامن إعلان تنحى «مردوخ» مع صدور كتاب «السقوط: نهاية فوكس نيوز وسلالة مردوخ» لمؤلفه الشهير «مايكل وولف» الذى حاول كشف النقاب عن الاقتتال الداخلى داخل امبراطورية «مردوخ»، وبدأ كتابه بنعى وهمى للرجل الذى لايزال على قيد الحياة.
بحكم وجوده على رأس إمبراطورية إعلامية يمينية أعادت تشكيل السياسة الأمريكية اكتسب «مردوخ» سلطة واسعة وحافظت العائلة والمؤسسة على علاقات وثيقة مع الرئيس السابق دونالد ترامب خلال رحلة صعوده إلى السلطة وخلال فترة رئاسته. غير أن الشبكة الإخبارية تلقت ضربة قوية فى وقت سابق من العام الحالى بسبب الدعوى القضائية التى رفعتها ضدها شركة «دومنيون» لأنظمة ماكينات التصويت.
اتهمت «دومنيون» «فوكس نيوز» ببث أكاذيب روجها الرئيس السابق «دونالد ترامب» حول تزوير انتخابات الرئاسة عام 2020. ووفقا لمؤلف الكتاب، «وولف»، سببت هذه الدعوى الكثير من الضغوط لـ «مردوخ» الذى كان غاضبا وأخبر أصدقاء زوجته آنذاك، «جيرى هول»، أن القضية قد تكلفه الكثير، ربما 50 مليون دولار. وعندما تمت تسوية الدعوى فى أبريل الماضى كان على «فوكس نيوز» أن تدفع لشركة «دومنيون» مبلغا أكبر بكثير من تقديراته، بلغ 787,5 ميلون دولار. ولاتزال هناك دعاوى قضائية أخرى، منها قضية تشهير بقيمة 2.7 مليار دولار من شركة أخرى هى «سمارتماتك» لآلات التصويت أيضا.
ويكشف كتاب «السقوط» كذلك عن حقيقة مشاعر «مردوخ» تجاه «ترامب». يقول المؤلف «وولف» إن «مردوخ» (92 عاما) يتمنى دائما وعلنا موت ترامب (77 عاما)، مستشهدا بعبارات وردت على لسانه ونقلها عنه آخرون. ويضيف أن «لاكلان»، ابن «مردوخ» الذى سيحتل الآن موقع الصدارة فى إمبراطوريته، ليس هو الآخر من محبى «ترامب». وأورد المؤلف فى كتابه قصة نشرتها صحيفة «ديلى بيست» وجاء فيها أن زائرين لمنزل «لاكلان» بمدينة ميندفيل بولاية لويزيانا قبيل انتخابات 2016 لاحظوا أن ورق التواليت بدورات مياه المنزل كان مطبوعا عليه وجه ترامب. وعن «شون هانتي» مقدم البرامج الشهير على «فوكس نيوز»، والمعروف بأنه من أشد أنصار ترامب، يقول المؤلف إن «هانتي» هو من يدفع «فوكس نيوز» لتأييد «ترامب» وأنه من المدافعين عن تغطية القناة المتحيزة لـ «ترامب» بعد الانتخابات الماضية. وقد نقل المؤلف عن «مردوخ» وصفه لـ «هانيتي»، نجم قناته التليفزيونية المتألق، بأنه «متخلف مثل معظم الأمريكيين».
سبق للمؤلف «وولف» أن تناول شخصية «مردوخ» فى كتاب آخر صدر عام 2008 بعنوان، «الرجل الذى يملك الأخبار». اعتمد المؤلف على ملاحظاته ومقابلاته مع «مردوخ» خلال الساعات الطويلة التى لازمه خلالها لعدة أشهر، وقد حاول فى هذا الكتاب أن يكتشف كيف أصبح «مردوخ» «مردوخ». يقول المؤلف إن هذا الرجل يمتلك براعة التعرف على الفرصة وانتزاعها فى اللحظة ذاتها التى تلوح فيها، هو جذاب للغاية، يستحق الاستماع إليه. وفى مؤتمرات المستثمرين حيث يتحدث عمالقة الإعلام الآخرين بشكل دفاعي، يكون «مردوخ» الأكثر شجاعة وواقعية على الإطلاق. لكنه من ناحية أخرى، شخص غريب الأطوار، ليس له أصدقاء حقيقيون، مهووس بالصحافة الورقية وجاهل رقميا حتى إن زوجته الثالثة كانت تقرأ رسائل بريده الإلكترونى بعد ساعات العمل لأنه لا يستخدم الكمبيوتر.
يجد كثيرون تشابها بين قصة حياة «مردوخ» وبين مسلسل «ساكسيشن» أى الخلافة» الذى بثته قناة «إتش.بي.أوه» على أربعة أجزاء من عامى 2018 و2023 وحاز على نسبة مشاهدة مذهلة. تدور أحداث المسلسل حول عائلة «روي» مالكة مجموعة عملاقة من وسائل الإعلام والترفيه العالمية ومعارك أفراد العائلة الذين يتنافسون فيما بينهم على الشهرة داخل الشركة والسيطرة، استعدادا للمستقبل عندما يرحل رب الأسرة.
يقول «مردوخ» إن الوقت حان كى يتولى أدوارا مختلفة، لكنه سيكون رئيسا فخريا لمجلس إدارة شركتيه. سوف يشاهد ما يقدم على الشاشة بعين ناقدة، ويقرأ كل ما يكتب فى الصحف والمواقع الإلكترونية والكتب التى تنشرها مجموعته، ولن يتوقف عن التواصل مع الأخرين وتقديم الأفكار والمقترحات والنصائح. أى أنه سيتنحى لكن تأثيره سيظل موجودا.
رابط دائم: