رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مناجم البحر الأحمر.. ذكريات لا تزول بالتقادم

البحر الأحمر ــ عرفات على
تبادل الخبرات بين المصريين والإيطاليين

الذكريات الجميلة ذات الأثر لا تزول بالتقادم، وما بين دهاليز الصحراء الشرقية بجبالها وصخورها وثرواتها، ذكريات باقية لتروى قصصا إنسانية. ومن أبرز هذه الذكريات ما نسجت خيوطها وتفاصيلها «مناجم الفوسفات» فى «البحر الأحمر»، والتى كان لها صولات وجولات فى استقبال ووداع أفواج من البشر، توافدوا بغرض العمل لأعوام طوال. وطبعت هذه الأعوام بذاكرة من عاشوها ذكريات خالدة، بعضها جرى فى محيط جبل يسمى «ضوى»، وصخرة جبلية أطلقوا عليها صخرة

«الانتظار»، ومنجم فوسفات يأخذ تسميته من رقم «22»، إضافة إلى عربة تسمى «السينما»، كانت أول سينما متنقلة فى مصر..ترى ماهى حكايات هذه الأشياء وكيف عاشت فى وجدان من عاصرها وبقيت بشكل أو بآخر حتى اليوم الحاضر، رغم مرور عشرات الأعوام، ومنذ أن توقفت طواحين المناجم هناك، وباتت أطلالا يفوح منها عرق وضحكات من حفروا فى صخورها، واستخرجوا خيراتها. ومع العرق والضحكات والذكريات، يتردد أصداء سؤال: كيف يمكن استغلال تلك المواقع سياحيا ؟

يقول عبدالسلام فتح الله محمد، موظف بالمعاش وأحد الذين قضوا أعواما طوالا مع أسرته بمواقع مناجم الفوسفات، إنه رغم مرور عشرات الأعوام على توقف عجلة الإنتاج بتلك المناجم، إلا أن كل من عاش بين دهاليزها لا يمكن أن ينسى أيامها، والكل يحلم بعودة «السيمفونية التعدينية»، التى طالما عزفت بتلك المناطق.

ويضيف عبدالسلام فتح الله مسترجعا ذكريات غالية: كانت تلك المناجم منبعا لخير آلاف البشر من جنوب صعيد مصر. وكانت الحياة بداخلها تشبه خلية النحل فى العمل الدءوب ومقاومة قسوة الجبال. كما قدم محيطها تجربة لمجتمع متكامل، تتوفر به كافة مقومات الحياة. وكان يتجلى فى البيوت التى كانت موجودة ومتلاصقة أبهى صور التكافل الاجتماعي. فلا ننسى قصة منزلين، أحدهما يقطنه مصرى قبطى، والآخر يسكنه مصرى مسلم، واتفقت ربتا المنزلين على فتح ما يشبه الشباك الصغير بين المنزلين، لتبادل الأطعمة من خلاله. وهذه مجرد عينة على صور عديدة من المحبة التى سادت هذا المجتمع».

قصة «جبل ضوى»


المشقة والصلابة عنوان الحياة القديم بمناجم البحر الأحمر

يكشف عبدالسلام فتح الله عن أن أغلب من سكن تلك المناطق أو عمل فيها ومازالوا على قيد الحياة، يقومون بين الحين والآخر بزيارة أطلال تلك المواقع، لاسترجاع الذكريات الجميلة هناك. ويقول إن من أبرز المواقع التى لاينساها أحد منهم هو «جبل ضوى»، الذى يضم أحد أهم المناجم. وذلك الجبل يحظى بقصة تستحق أن تروى. بدايتها أن اسمه قد يعكس طبيعة لونه. فهو جبل فريد يقبع فى قلب المنطقة بين البحر الأحمر شرقا، وقنا غربا. وجدير بالذكر فى سياق هذه القصة، أن «مدينة القصير»، الواقعة على ساحل البحر الأحمر، قد نشأت عند مصب أحد الأودية التى تخترق هذا الجبل.

وحتى اليوم، توجد آثار لأناس عصر ما قبل التاريخ فى أحد كهوف هذا الجبل، ويتجاوز عمر بعض تلك الآثار المائة ألف عام مضت. وبخلاف آثاره العتيقة، يضوى هذا الجبل لمعانا بين أمثاله من الجبال الداكنة السوداء التى تحيط به. كما تنتشر الصخور النارية والمتحولة به.

وهناك من يعلل تسمية هذا الجبل، نسبة إلى شيخ يسمى «ضوى»، كان له مقام هناك. وفى سياق بحث أعد قبل عشرة أعوام أجراه عالم الجيولوجيا الكبير، دكتور البهى عيسوى مع بعض زملائه، انتهى إلى أن «جبل ضوى» يعد علامة مهمة على قدرة «بحر تيثيس»، الجد الأكبر للبحر المتوسط حاليا، على اختراق الكتل النارية الضخمة فى صحراء مصر الشرقية. وكان التفسير أن «بحر تيثيس» استطاع أن يصل إلى هذه المنطقة بسبب وجود «ثغرة» طولية الشكل فى وسط الكتلة النارية المعقدة فاستغلتها مياه البحر ودخلتها وأرسبت فيها تلك الصخور الغريبة فاتحة اللون، لتبرز وسط الصخور المضيفة داكنة اللون. وقد تكون تسميته قد ولدت بفضل ضوئه ولمعان صخوره.

كما أن هذا الجبل استقبل الملك فؤاد الأول ( 1868- 1936) عندما زاره لافتتاح «منجم البيضا». أما أول شحنات «الفوسفات» التى غادرت تلك المنطقة إلى خارج مصر، فخرجت بعد تأسيس شركة مصرية إيطالية للعمل بمنجمى «البيضا» و»النخيل» فى «جبل الضوى».

والطريف أن معظم الأطفال الذين ولدوا فى محيط الجبل، أطلقت أسرهم على البنين منهم اسم «ضوى»، وعلى البنات «ضوية». وقد يكون ذلك تبركا بالشيخ ضوى الذى كان له مقام هناك، أو لارتباط الأسر وجدانيا بالجبل الذى كان يجود بـ «الفوسفات»، مصدر رزقهم.

والمطالب تتوالى بتهيئة الظروف لاستغلال هذا الجبل ومواقعه التعدينية سياحيا، حيث يمكنه جذب الآلاف من رواد سياحة الجيولوجيا والسفارى البرية.

حرب مع العقارب


قطار ينقل خيرات المناجم وأرزاق عمالها

أما الباحث طه حسين الجوهرى، أحد من أجروا أبحاثا ووضعوا كتبا حول تاريخ «مدينة القصير» بصفة عامة، وتاريخ المناجم بصفة خاصة، فيروى ذكرياته مع المنجم رقم «22»، مفتخرا بأنه ولد فى محيطه.

ويوضح الجوهرى أن المنجم «22» أحد أشهر مناجم استخراج الفوسفات بالصحراء الشرقية، ولذلك حظى باهتمام المستثمرين الإيطاليين منذ عام 1912، فاحتكروا أنشطة الاستخراج منه وتصدير نفائسه. وأقام «الطليان» ما يشبه المجتمع المتكامل حول الـ «22»، لا تزال معالمها باقية إلى اليوم.

ويتذكر الجوهرى، كيف كانت طفولته مزيجا من بهاء الجبال وروائح البحر وخام الفوسفات، التى يعرفها العمال بأنها أقرب إلى رائحة البصل النفاذة. كما يتذكر الأخطار التى كانت تحيط بالعمال فى المناجم، وهم يعملون شبه عراة من فرط الحر والرطوبة. وكيف أصيب بعضهم لانهيارات تقع بالمنجم أو لأخطاء فى عمليات التفجير بالألغام.

وكان فصل الصيف تحديدا يأتى ومعه خطر إضافى، وهو لدغات العقارب والثعابين، التى تستفزها أعمال الحفر وتخرجها من جحورها. فتزحف مستهدفة المجتمع البشرى الذى جاء ليزاحمها فى حياتها الوديعة الهادئة. لكن قاطنى هذه الأنحاء كانوا على دراية كاملة بسبل التصدى لحملة احتجاج العقارب والثعابين، فتقتل قبل أن تتم هجومها، وذلك كان الحال فى أغلب الأحيان.

المرأة و«صخرة الانتظار»


زيارة الملك فؤاد غيرت الكثير

يشير الجوهرى فى سياق استدعاء الذكريات ونتائج دراساته البحثية، إلى الأدوات التى كانت تستخدم فى عمل المناجم، من «قاطرات»، وأجهزة إضاءة تعمل بالكربون، ومقاطف الحمل المعروفة بمسمى «الزنابيل»، وقوائم الأنفاق الخطيرة المرفوعة بأخشاب الأشجار بدلا من الأعمدة الصلبة التى لم تصل إلى المنطقة إلا فى عهود لاحقة. وكيف كان نحو 90% من هؤلاء العمال وافدين من «حجازة» و«الكلاحين» بمحافظة قنا، والنسبة الباقية من عمال باقى محافظات الصعيد.

ولا ينسى الجوهرى دور المرأة ومشاركتها فى مشاق الحياة بمستعمرات المناجم. فكانت حياتها داخل المنازل بسيطة، أقرب للحياة الشاقة داخل المناجم نفسها. وكأن تلك المنازل هى ذاتها عبارة عن مناجم ولكن مكشوفة، أبطالها من النساء الكادحات.

ويرى الباحث المصرى أن منطقة «القصير» حين ذاك، وتحديدا داخل حيز المناجم، كانت تحظى بمدينة تعدينية يعانى فيها العمال شظف العيش ومخاطره. ورغم ذلك، كان لهذه القسوة مذاق خاص فى جماله. ويروى كيف أنه كان يصعد فى نهاية كل يوم إلى أعلى تل يمكنه بلوغه، فينظر إلى رجال منجم «22» وهم فى طريق العودة إلى منازلهم، وقد بدوا أقرب إلى « قافلة» من الأشباح الصفراء، يصعب تمييز ملامحهم، تحمل أيديهم مصابيح الكربون، وعلى كتف كل منهم، حقيبة بها بقايا طعامه وملابسه. لكنه ما كان يسمع منهم شكوى، فقط الضحكات وقصص تروى عن وقائع اليوم. ويشير الجوهرى أيضا إلى صخرة جبلية كانت تجاور المنجم «22»، وأطلق أهل المنطقة عليها «صخرة الانتظار». كانت «الانتظار» تعتلى ربوة داخل أروقة المنجم، حيث كان يمكث اسفلها ومعه أقرانه من الصغار ينتظرون آباءهم وذويهم من عمال المنجم. وكأن هذه الصخرة قد أصبحت محطة انتظار للعائدين من دنيا المناجم.

أفلام السينما المتنقلة


اهتمام النخبة الاقتصادية وتواجدها.. تاريخ تبقى أثاره

أما ناصر عوض، أحد أبناء المنطقة، فيقول إنه يسمع من المعمرين الذين عاشوا وعملوا فى محيط تلك «المناجم» عن حكاية أشهر وأهم وسيط إعلامى عاصروه فى زمنهم. تلك هى «السينما المتنقلة»، التى كانت فى الترويح عن صناع المناجم.

وكيف أنه عند وصول الملك فؤاد الأول بحرا إلى مدينة القصير، ليفتتح «منجم البيضا»، كان فى معيته رئيس الديوان الملكى ورئيس الوزراء، عدلى باشا يكن (1864- 1933) ووزير المالية مرقص حنا باشا (1872- 1934)، تم توثيق هذه الزيارة من خلال فيلم وثائقى قصير زودت به السينما المتنقلة. ويومها، استقل الملك إحدى العربات الصغيرة لقطار نقل الفوسفات، لتسير على شريط السكة الحديد، الذى كان يستخدم فى نقل خامات الفوسفات من مواقع الإنتاج بالمناجم، إلى ميناء التصدير على شاطئ البحر.

وإثر هذه الزيارة وعرض الفيلم الخاص بها، استخدم القائمون على الشركة الإيطالية التى كانت معنية بالتعدين سعيا وراء «الفوسفات»، ماكينة «السينما المتنقلة» لعرض الأفلام الصامتة، وتحديدا أفلام شارلى شابلن لتسلية العاملين والموظفين المصريين.

والسينما تلك كانت تعتلى عربة تجرها قاطرة، لتجوب مختلف المناجم والمستعمرات المأهولة والقائمة حولها. فكان يعرض كل يوم فيلم للعاملين فى مناجم «البيضا»، و«حمضات»، و«العطشان»، ومناجم «الحمراوين»، و«أم الحويطات»، وغيرها.

وكان يتم تخصيص يوم لعرض الأفلام داخل مدينة القصير، حيث كان يتم سحب هذه العربة الى موقع «الكانتين» الخاص بالشركة أمام «نادى العجيمى»، وأحيانا كانت تعرض داخل مقر الشركة ذاته. وهذا التقليد كانت تتبعه الشركات والمصانع فى أوروبا حين ذلك.

لاحقا وفى عهد ثورة يوليو 1952، ظهرت السينما المتنقلة فى «القصير»، لكن هذه المرة كانت تحت إشراف وزارة الصحة، حيث كانت تجوب «القصير» سيارات حكومية وافدة من «القاهرة»، أو «الغردقة»، لعرض أفلام فى الشوارع، بقصد التوعية والتثقيف الصحي. ويعقب تلك الأفلام الإرشادية، عرض أفلام ذات طبيعة وطنية تستعرض وقائع تخص ثورة 1952. ولاحقا، اختفت ظاهرة «السينما المتنقلة» بعد سيادة ثورة وسائل الاتصالات الحديثة وانتشرت وسائل الاعلام المختلفة فى كل مكان.

اختفت، ولكن ذكراها باقية، وكذلك ذكرى عوالم التعدين ومستعمراتها التى مازالت تبحث عن سبيل لائق للبعث.


بوابات المناجم لا تمانع في استقبال زوار جدد


على البعد .. أطلال تحكي تاريخا يأبى الزوال


..زوارها يتذكرون مع أسر العمال


عربة تروي حكايات الماضى


بقايا منطقة المناجم تنطق .. لقالت الكثير

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق