رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

أن تبقى دائما تحت

حسين منصور
بريشة: د. محمد الناصر


واعدنى كى ألقاه هناك فى محل عمله، كان يعمل طبيبا، وكنا زميلين فى الثانوية الأزهرية، لا لا لم يكن صديقا، لكن الضائقة التى تمر بى دفعتنى إلى قبول موعده؛

سألت؛ قالوا: تحت،فتحة تكفى لمرور شخص واحد، وعدة درجات لسلم إسمنتى وعلى جانبى السلم

كتبت أرقاما لم أفهمها، لم تكن هناك حجرات مفتوحة، كل الأبواب مغلقة، وممرضات بملابس العمل يرحن ويجئن دون كلام، يدخلن الغرف؛ ويغلقن الأبواب خلفهن، سألت عن صاحبى؛ فلم يجبنى أحد؛ فانتظرت على الدكة فى جانب الممر، لم يكن بجوارى أحد غير فتاة ربطت رأسها بعصابة بيضاء، والدموع تغرق صدر جلبابها، انتظرت.. انتظرت؛ ولم يأت صاحبي؛ ضاقت أنفاسى، وفى كل مرة أنظر إلى السلم الذى نزلت عليه أراه يصغر، يصغر، يصغر، الكل انصرف، حتى الفتاة معصوبة الرأس؛ فتحت بابا واختفت خلفه، تأخر صاحبى كثيرا؛ فآثرت العودة.

صعدت السلم الذى ضاق كثيرا، فتحة الخروج أيضا ضاقت،حاولت فلم يخرج غير رأسى، فقط رأسى؛ شعرت أن هواءا يخرج من أنفى وفمى، ويجذبنى إلى الأعلى؛ انسلخت من جسمى الذى بقى ساكنا على السلم ومضيت،الهواء منعش؛ أخذت نفسا عميقا؛ ارتعشت قليلا ومشيت، الكل يبتسم لى: القهوجى، وبائع الجرائد، وفتاة الإعلانات المعلقة على زجاج الصيدلية.

على المقهى كانت تجلس، وضعت على الطاولة معطفها الأبيض وكتب نزار، هى تشبه إيمان، أو مروة، أو هى نشوى انتظرتنى، قلت: جائع قالت:تعال، حملت أشياءها وأخذت يدى حتى ناصية الشارع، وقفنا أمام عربة طعام صغيرة، أشارت للصبى بإصبعيها سألتها:

ماذا طلبت؟ قالت: هو يعرف،أحضر الصبى طبقين؛ أكلت دون كلام، وأنا مثلها حتى آخر ما فى الطبق، مرة أخرى أخذت يدى وعدنا إلى المقهى؛ وضعت معطفها، وكتب نزار، وجلست وكأنها لا تعرفنى؛ انتظرت كثيرا أن ترد على سؤالى:

هل قرأت قصتى الأخيرة؟ فلم تجب، لم يمر كثير وقت حتى حملت أشياءها وانصرفت دون سلام.

لحظات مرت، جاء صديقى عادل بدر الذى سافر منذ عام، كان على هيئته المعتادة، يحمل حقيبة سفره،جلس؛ سألنى: أتشرب شايا؟

قلت: لا.. أنا أكتب قصة جديدة، ولم يدعنى أكمل كلامى إذن بعضا من حلوى الطفولة، أخذنى من يدى ودخلنا، جلسنا متقابلين بجوار عادل تجلس فتاة بملابس المدارس الرمادية، نظرت إلينا فى خجل، وعادت إلى الطبق أمامها تأكل منه؛ مد عادل ملعقته، وخطف منها خطفة، كانت تأكل الكنافة المهروسة فى المهلبية، كنا نأكلها ونحن صغار عند الشامى الذى يقف بعربة فى أول الشارع الجديد، عادل يأخذ من طبق الفتاة وهى تبعد يده فى رقة وتبتسم، مال عادل على وقال: هى إحدى تلميذاتى، وسوف تحكى لزميلاتها عن موقفى هذا فى المدرسة؛ وسيضحكن، ويشرن إلى بإشارة أفهم منها كلمة كنافة، ونضحك قبل بدء الدرس. الكنافة بالمهلبية لذيذة حقا، كما قال عادل للفتاة التى كان يداعبها، أكلت منها دون كلام أيضا، ولم أعرف متى ذهبت الفتاة، أو ماذا أكل صديقى، ولم أنتبه حتى ضرب على كتفى وقمنا إلى حيث المقهى.

أجلس مع صديقى غير منشغل بجسمى الذى تركته تحت، لقد سقط وأحدث ارتطامه بالأرض دويا فى السرداب الخالى؛ فخرج كل من بالغرف إلا زميلى الذى واعدنى تحت فحملوه إلى إحدى الغرف ووضعوه على سرير، وألقوا فوق أنفه جهاز التنفس الصناعى، أنا أشم هواءه فى أنفى الآن وأنا هنا، الكل التف حوله ليسعفه والجسد لا يستجيب؛ فوضعوا ملاءة عليه، وانصرفوا.

هل على أن أعود إلى تحت؟ إلى جسمى الذى تركته؟

وإذا رجعت إلى هناك، هل أستطيع الخروج مرة أخرى من ذلك السرداب الذى يجبر الجسد أن يبقى دائما تحت؟

لا، إنى هنا، إذا رحل صديق وتركنى؛ سأجد آخر من الغائبين، سأجد صديقتى ذات المعطف الأبيض؛ فكتب نزار تعجبنى، وسترد على هذه المرة إذا ما سألتها،وسنضحك، ونثرثر، ونتحدث عن قصتى الأخيرة، وسنلتقى بأحبة آخرين أود لقاءهم منذ أن غادرونى وغابوا.


حسين منصور

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق