رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بريد الجمعة يكتبــه ــ مفرح سرحان
الرجُــل الخامس

منذ كنت صغيرة، اعتدت على الكتمان، لا أفشى أسرارى ولا مشاعري، ولا أكتب ما يؤلم صدرى الذى أصبح مثل صندوق أسود لم أعد احتمل ما بداخله وحدي.. الآن أصبحت وأنا فى ريعان شبابي، كعجوز تخطت السبعين، لذا قررت ــ لأول مرة ــ أن أفصح عما بداخلى، عسى أن أستريح، أو أجد نهاية لما أنا فيه من حزن وحيرة.

عمرى ثلاثة وثلاثون عامًا، تفتحت عيناى على أب حانِ عطوف لم يدخر جهدا فى إسعادى أبدًا، وأمٍ طيبة وبسيطة، وأخت وحيدة وُلدت وأنا فى السادسة من عمري، أحببتها حبا جما كأنها ابنتى وليست أختي.

غمرنا والدنا بكل الحب والاحتواء، لا أذكر يومًا أنه أبكى أحدا منا ولا امتدت يده إلينا إلا بالهدايا والحلوى، حتى إنه كان يتحول إلى طفل وهو يشاركنا اللعب وحكايات ما قبل النوم.فى الصف الأول الثانوي، أصيب والدى بالسرطان، وتوغل المرض اللعين فى جسده بشراسة حتى فارق الحياة وترك ثلاثتنا بلا ظهر ولا سند.

 

أظلمت الدنيا فى عيني، ولم أعد أشعر برغبة فى الحياة بعد غياب الرجل الذى علمنى معنى الحياة، وفشلت جميع محاولات أمى لتنسينى رحيل أبي، وظللت كذلك حتى بلغت السنة الثانية من المرحلة الجامعية، عندما تعرفت إلى زميل بالجامعة، وكانت المصادفة أنه من جيراننا فى الحى الذى أسكنه، كان مهذبا وخلوقا، صارحنى بأنه معجب بي، ومع تعدد لقاءاتنا فى الجامعة، انفتح قلبى له وكنت قد أغلقته منذ رحيل أبي، وتوسمت فيه أن يكون صورة مصغرة من أبي. وجدتنى أنجذب إليه بقوة، وأشعر بالوحدة فى اليوم الذى لا يحضر فيه إلى الجامعة أو لا أستطيع الوصول إليه عبر الهاتف.

عندما كنت فى السنة النهائية من دراستى الجامعية، اختفى لمدة أسبوع كامل، ثم اتصل بى وطلب منى لقاءه فى أمر عاجل، وأخبرنى بأن عمه قد توفى منذ أيام. بكيت حزنا على حزنه الذى كان واضحا على ملامحه، لكنه فاجأنى بما لم أكن أتوقع، قال إن أباه وعمه اتفقا منذ سنوات على أن يرتبط بابنة عمه الوحيدة، حتى إن عائلته كانت تعتبرهما مخطوبين بالفعل، وعندما تعرف إليَّ وارتبط بي، كان يخطط لمصارحتهم بأنه يريد التحرر من اتفاق الأخوين (أبيه وعمه)، لكن الموت كان أسبق من خطته، والآن أصبحت ابنة عمه يتيمة وليس لها أحد سواه، وأنه لن يستطيع التملص من ذلك الاتفاق، ولا بد أن ينهى علاقته بى الآن!.. قال لى ما قال، وصعقنى بكلامه، ثم انصرف.

للمرة الثانية، تظلم الدنيا أمام عيني، وعدت منغلقة على نفسي، ولم يعرف أحد بما أنا فيه سوى أختى الوحيدة كاتمة أسراري. حارت أمى فى أمري، وشغلها عودتى إلى سيرتى الأولى من الحزن والكآبة، مكثت فترة طويلة على هذه الحال، فى الوقت الذى كان فيه الخُطاب يطرقون بابنا لطلب يدي، وكان ردى دائما هو الرفض من دون تبرير. ثارت أمى فى وجهى عند كل عريس أرفضه وهى تقول إنها لن تعيش طويلا وتريد أن تطمئن عليّ وعلى شقيقتي.

أمام ضغوطها، نزلت على رغبتها، وقابلت أحد الشباب الذين تقدموا لخطبتي، رأيت فيه صفات طيبة تصلح لأن تكون أرضية للقبول به زوجا، لذا فقد اتخذت قرار الارتباط به بعقلانية شديدة لا مشاعر فيها ولا عواطف، وفرحت أمى كثيرا عندما وافقت عليه، وخلال خمسة أشهر فقط انتهينا من جميع ترتيبات الزواج.

وجدته رجلا كريم الخلق، يعاملنى بود واحترام، لذا حاولت أن أفتح له قلبى وأبادله المشاعر الطيبة حتى تستقيم حياتنا معا، واقتنعت بأن هذا اختيار الله لي، وربما يكون العوض عن كل ما حدث لى خلال السنوات الماضية، وبعد تسعة أشهر من الزواج، حملت منه، وذهبت فرحة بنتيجة اختبار الحمل إلى زوجى لأبشره، فوجئتُ بردة فعل صادمة: وجه مقطب عبوس، وكلمات مثل الرصاص أطلقها فى أذنى «ده مش وقته، احنا لازم نستنى شوية، كام سنة لحد ما ظروفنا تسمح بتربية طفل»، ثم طلب منى أن أجهض حملي.رفضت بشدة، وقلت له إن هذا حرام ولا يرضى الله، وإننى لن أقدم أبدا على قتل ابنى مهما كلفنى الأمر.

مكثنا أكثر من شهر متخاصمين، لم أحتمل أن يستمر الوضع هكذا، فقررت أن أتودد إليه وأعيد المياه لمجاريها، لكن زوجى لم يقبل منى كلاما قبل أن أحقق رغبته، وافتعل شجارا خرج فيه ــ ولأول مرة ــ عن هدوئه وطيبته، وأبرحنى ضربا حتى أصبت بنزيف شديد نقلت على إثره إلى المستشفي، وكانت الصدمة عندما أبلغنى الطبيب أن حملى قد أُجهض!.

للمرة الثالثة، أظلمت الدنيا فى وجهى يا سيدي، ولم أعد أحتمل العيش معه، فطلبت الطلاق، ولم يمانع الرجل أو يبدِ تمسكًا بي، وهكذا أصبحت بعد عام واحد من الزواج، أحمل لقب مطلقة، وأنا لم أزل فى التاسعة والعشرين من عمري.

انغلقت على نفسي، وانغمست فى عملي، وصددتُ عنى كل الرجال الذين حاولوا الاقتراب مني، حتى حضر إلى الشركة التى أعمل بها موظف جديد، مع الوقت أبدى اهتماما ملحوظا بي، وصارحنى بأنه يريد أن يتزوجني، كنت مترددة فى القبول، خائفة أن أنال ضربة أخرى وما عاد قلبى يحتمل مزيدا من الصدمات، لكننى أمام نظرات الطمع فى امرأة مطلقة، وافقت على طلبه، وعندما بدأنا الحديث فى أمر الزواج، أخبرنى بأن ظروفه المادية لن تسمح فى الوقت الحالى بزواج طبيعى، وأنه يريد أن يتزوجنى عرفيا.

كانت تلك القشة التى قصمت ظهري، عنفته وحذرته من الكلام معى مرة أخري، فثار فى وجهى واتهمنى بأننى امرأة معقدة وأن الله أراح منى الرجل الذى طلقني.

زهدتِ الرجال-كلَ الرجال- وجوهًا وسيرة وأسماء، وقطعت على نفسى عهدا ألا أرتبط بأحد مهما حدث، وكانت أختى الوحيدة هى الأخرى تشجعنى على ذلك، عندما عزمت على عدم الزواج، ورفضت كل من تقدم لها، لأننا أدركنا أنه لا يوجد رجل مثل أبى –رحمه الله- ولا أمان لأى رجل.

حاولت أمى معنا كثيرا، واستعانت بوسطاء من أقارب أبي، لإقناعى أنا وشقيقتى بقبول كل عريس يطرق بابنا، لكننا رفضنا بشدة، الأمر الذى جعلها تقاطعنا تمامًا، ظنا منها بأننا خذلناها، وأننا حسب قولها «نضيع حياتنا، وستموت وتتركنا من غير ضهر ولا سند». مرت شهور وكل منا على موقفه، هى لا تتحدث إلينا وتتناول الطعام بمفردها، ونحن لا نتراجع عن رفضنا، لأننا نعلم أن من تظنه السند والظهر سيكون هو العذاب الأليم والمعاناة التى لا تنتهي... لا نعلم كيف نرضى أمى دون أن ندخل فى غمار علاقات فاشلة تستنزفنا نفسيا وبدنيا.. فهل نحن على خطأ، وهل لا توجد حماية إلا فى كنف رجل؟ ألا تستطيع المرأة أن تكون حماية لنفسها إذا ما عَزَّ عليها أن تجد الحماية فى صورة رجل.. دلنا يا سيدى؟

هيام ــ القاهرة.

------------------------------------------

 سيدتى..

من حيث انتهيتِ، هناك بداية واجبة لا بد أن نتحدث فيها: الأب والأم.. ما ذنبهما فيما يحدث الآن؟

لقد كان الوالد –رحمه الله- النموذج الأول الذى تفتحت عيناك عليه وعرفه قلبك من جنس الرجال، رجل حنون طيب يحب ابنتيه ويمنحهما من فيض الحب بلا حساب، وهذا ما أودعه الله من «غلاوة» البنت فى قلب أبيها، ولو فتحنا قلب كل أب، لوجدنا ابنته متربعة على عرشه، ملكة متوجة بحبه، وكل ما دونها «وصيف».

وليس أوضح من دليل على ذلك، سوى كلماتك بحق أبيك وعرفانك بما أولاه لك وأختك من ود ورعاية، ولكن ما حدث يا سيدتي، أن تلك العلاقة تجاوزت الحد الطبيعى إلى ما هو أبعد من ذلك، وتلك مشكلة تعانيها فتيات كثيرات، ويفرطن فى فرص كان من الممكن أن تغير حياتهن إلى الأفضل، لولا أن وقعن فى فخ المقارنة الظالمة بين آبائهن، وبين الرجال الذين يريدون الارتباط بهن.

إننا ــ يا سيدتى ــ نظلم آباءنا وأهلينا، وأنفسنا، ونظلم الآخرين معنا، عندما نحدد مواصفات قياسية لمن نريد أن نقترن بهم، ونضع «كود» بتلك المواصفات التى استقيناها من نموذج الأب، ونريدها دون نقصان فى شخص، نريد أن نفصل منه زوجا على مقاس أحلامنا ومواصفات آبائنا، وننسى أو نتناسى أن الله خلقنا متنوعين مختلفين ليكمل بعضنا بعضا، من أجل أن تستقيم الحياة.

لقد بدأت مشكلتك، بهذا «الكود»، وعندما قابلتِ الشاب الأول، وراقت لكِ أخلاقه، ثم انسحب من حياتك بدعوى الارتباط بابنة عمه، عدتِ إلى الاعتقاد مرة أخرى بأنه لا أحد يشبه أباك، وهذا اعتقاد صحيح، لكنك ــ يا سيدتى ــ فصَّلتِ من هذا الاعتقاد ستارة سوداء، حجبت عنك كل أمل فى الارتباط بالشخص الذى تريدينه صالحًا لمواصفاتك، فكان أن أظلمت الدنيا فى وجهكِ، كما تقولين.

أما بشأن الرجل الفظ غليظ القلب الذى أجهض حلمك فى أن تكونى أما، وجعلك تحملين لقب مطلقة فى تلك السن المبكرة، فلك كل الحق يا سيدتى فى أن تشعرى بالغبن والقهر، وربما يكون لك الحق أيضا أن تعزفى عن الزواج بسبب تلك الواقعة، ولكنها إرادة الله التى وإن كانت على غير ما نحب، فإنها بلا شك لم تحمل سوى الخير لك، فماذا كان سيحدث لو استمرت الحياة مع رجل قتل الحياة بداخلك وقتل حلمك فى الأمومة. إن خسارته «القريبة» أفضل ألف مرة من مكسب بعيد، والطلاق منه هو طوق نجاة وليس ظلامًا على الإطلاق.

سيدتي.. لقد أصبحتِ مطلقة، لكنك قلبك لم يزل قلب فتاة فى ريعان شبابها، وإذا كان لهذا القلب موعد مع صدمة أخرى من شاب انتهازى أراد أن يستغل ذلك الظرف ليستدرجك إلى زواج عرفي، ويهز ثقتك فى نفسك، عندما اتهمك بأنك امرأة معقدة نجا منها الرجل الذى طلقها، فإن ما أقدم عليه من تشويه وتقريع لك وطعن فى شخصك، لا ينتقص سوى من رجولته، ولا يمكن اعتباره سوى انتقام منك لأنك رفضتِ انتهازيته.. ثقى بنفسك وأخبريها بأنه ما تقدم إليك برغبته فى الارتباط بك إلا لكونك امرأة متميزة وجميلة واستلبت إعجابه من دون كل زميلات العمل.

سيدتى..

قد يبدو الرجل قويا حمولا مفتوح الصدر للضربات، لكن المرأة أقوى على التحمل والنهوض وصناعة الأمل وتحدى الصعاب، وما عهدنا الرجال الأشداء إلا نتاج تربية امرأة عظيمة، ولذلك فإننى أرى كل النكبات التى تعرضت لها، يمكن أن تكون تجارب ملهمة لامرأة تستشرف الأمل فى فرصة جديدة لرجل يليق بها، فلا تظلمى نفسك وتحبسيها فى دائرة الفشل، ولا تنسى ــ يا سيدتى ــ أن شقيقتك أصبحت ضحية لك أنت وليست للنماذج السيئة من الرجال التى سمعت عنهم، وها هى ترفض الرجال وتقاطعهم سيرا على دربك واقتداءً برفضك، وكم أشفق على أمك المسكينة التى تريد أن يطمئن قلبها على ابنتيها، فلا تفطرى قلبها الذى يفيض بحبكما، ولا تغلقى الباب فى وجه من يرغب فى خطب ودك.

سيدتي..

لا تحلو الحياة من دون تجربة، ولا نستشعر لذة السعادة إلا بعد أن نتجرع الألم، ولا تأتى الشدائد مهما عظمت إلا بالرخاء والأمل. فى مسيرتك كأنثي، هناك النموذج الفاضل للرجل الذى زرعه أبوك فى قلبك قبل الرحيل، وثلاثة نماذج معقدة وغير مسئولة من الرجال، أوافقك الرأى فى أنهم يمثلون ثلاث تجارب مريرة ومؤلمة، لكن ثمة رجلا خامسا فى الطريق إليك، امنحى له الفرصة بعد أن تتحررى من «كود الرجل» الذى يمثله أبوك رحمه الله، حتمًا سيأتي، ليكون الفارس المنتظر لأحلامك بعد أن تصححى مسارها وتعدلى شروط الاختيار بلا «كتالوج» يصلح للأشياء لا الأشخاص والطباع.

أدعوكِ إلى نسيان أوجاع الماضي.. لا تحكمى بالفشل على علاقات لم تبدأ بعد، ولا تتحوطى بالخوف من باب الاحتياط، فأقدارنا ليست بأيدينا، والله لا يخذل أبدا قلبا أحسن الظن به.. أرجو لك رفيق درب يمنحك السعادة، ولشقيقتك مثله، ولقلب أمكما بردا وسلاما على مستقبلكما الذى لن يأتى إلا بكل خير.. وتقبلى تحياتى.

 

------------


للاستماع الى رسالة البريد على راديو الأهرام عبر ال QR

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق