ثمة استعادة للعافية القومية- إن جاز التعبير- شهدها النظام الإقليمى العربى فى الآونة الأخيرة، باتجاه بلورة روح جديدة، تقوم على اختراق حالة الركود التى سادته خلال ما يزيد على 12 عاما، والقفز على الفراغات التى سعت أطراف خارجية لملئها، خصما من رصيد أمنه واستقراره، على نحو عطل القدرة على الالتئام والتقارب فيما بين أطرافه، لمواجهة المخاطر المحدقة من مختلف الاتجاهات. وتحركت الدول العربية الوازنة فى الإقليم، نحو ضرورة احتواء هذه الوضعية السلبية، التى أفضت إلى أن بعض دوله، باتت على شفا الدخول إلى مربع الفشل، فى ظل اتساع دائرة النزاعات داخل هذه الدول، والتى اكتست فى معظم مراحلها بطابع الحرب الأهلية، فضلا عن الانقسامات البينية فيما بين دول عربية أخرى.
وتصدرت مصر الدول الوازنة فى هذا الاتجاه، اتساقا مع منظورها الذى يتعامل مع عمقها العربى، وفق محددات سياستها الخارجية ومرتكزات رؤيتها الإستراتيجية، استنادا إلى حقائق موقعها الجيوسياسى وفعاليتها الحضارية، والتى برزت بقوة منذ ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، واستعادت توهجها بعد ثورتى يناير٢٠١١ ويونيو ٢٠١٣.
وعلى مدى الأشهر القليلة المنصرمة، تبنت الدبلوماسية المصرية، سواء على مستوى مؤسسة القمة، أم على مستوى وزارة الخارجية والأجهزة الأخرى،حركة نشطة فى اتجاه بناء مقاربات تعتمد على رفع منسوب القدرات الذاتية والقرار العربى، بمنأى عن أى تأثيرات من أطراف خارجية، وطبقا لمتطلبات الأمن الوطنى لكل دولة على حدة، أو الأمن القومى العربى الشامل. ويمكن القول إن هذه الحركة بالتناغم مع الأطراف الأخرى الوازنة، نجحت مع انعقاد القمة العربية الـ٣١ بالجزائر فى بناء الأرضية التى انبثقت منها محاولات استعادة التقارب والتوافق والتضامن العربى، خلال الأشهر التالية.
ومنذ ذلك الوقت، برزت قضية استعادة سوريا لعمقها العربى والسعى إلى تليين الأزمات الأخرى فى الإقليم،على نحو يمهد لاحتوائها سياسيا، وتجلى ذلك- مصريا- فى المكالمة الهاتفية التى أجراها الرئيس عبدالفتاح السيسى مع نظيره السورى بشار الأسد، تزامنا مع وقوع الزلزال المدمر فى فبراير الماضى، والتى أعقبتها زيارة وزير الخارجية سامح شكرى لدمشق وتسليمه رسالة من القيادة المصرية، ما اعتبر تجسيدا لما وصف آنذاك بنجاح «دبلوماسية الزلازل»، ثم شاركت مصر فى الاتصالات والاجتماعات العربية التى حددت مرتكزات عودة سوريا، بل ودعت، بالتنسيق مع الأردن، إلى عقد دورة غير عادية لمجلس الجامعة العربية، على مستوى وزراء الخارجية فى مايو الماضى برئاسة شكرى. لتثمر هذه المبادرة عن قرار استئناف الحكومة السورية لعضويتها فى الجامعة العربية ومنظماتها المتخصصة، ما شكل تحولا مهما فى الأداء العربى. وتم اعتماد القرار بالتوافق دون أن تبادر الأطراف المعارضة بالإعلان عن تحفظاتها، فتجسدت حالة من التضامن العربى، التى كرستها القمة العربيةالـ٣٢ بجدةـ وجاءت الرؤية التى حددها الخطاب الذى ألقاه الرئيس عبدالفتاح السيسى أمام القمة، منسجمة مع هذا التوجه، بل وداعمة له، وذلك من خلال تأكيده على جملة من المعطيات المهمة:
أولا: إن الحفاظ على الدولة الوطنية، ودعم مؤسساتها، فرض عين وضـرورة حياة، لمسـتقبل الشـعوب ومقدراتـها فلا يستقيم أبدا، أن تظل آمال الشعوب العربية، رهينة للفوضى، والتدخلات الخارجية، التى تفاقم من الاضطرابات، وتصيب جهود تسوية الأزمات بالجمود.
ثانيا: أصبح واجبا ومسئولية- حسب تعبير الرئيس السيسى- اعتماد الدول العربية على جهودها المشتركة، وقدراتها الذاتية، والتكامل فيما بينها، لصياغة حلول حاسمة لقضاياها، لاسيما مع اشتعال أزمة جديدة فى السودان الشقيق تنذر - إذا لم تتعاون الدول العربية فى احتوائها - بصراع طويل، وتبعات كارثية، على السودان والمنطقة.وفى الآن ذاته، فإن استمرارالأزمات فى ليبيا واليمن، بات يفرض تفعيل التحرك العربى المشترك، لتسوية تلك القضايا، على نحو أكثر إلحاحا.. من أى وقت مضى.
ثالثا: عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، تعد بمثابة التفعيل العملى للدور العربى، وبدء مسيرة عربية لتسوية الأزمة السورية استنادا إلى المرجعيات الدولية للحل، وقرار مجلس الأمن رقم 2254.
رابعا: إدارك أن الأمن القومى العربى، هو كل لا يتجزأ، والوقت حان لأخذ زمام المبادرة للحفاظ عليه، بما فى ذلك من خلال الخطوات المهمة،التى بادرت بها الدول العربية فى الفترة الماضية، لضبط إيقاع العلاقات مع الأطراف الإقليمية غير العربية، والمطالبة بخطوات مماثلة وصادقة بما يسهم، فى تحقيق الأمن والاستقرار فى المنطقة.
خامسا: إن مصر، ستدعم بكل الصدق والإخلاص، جميع الجهود الحقيقية، لتفعيل الدور العربى إيمانا منها، بأن المقاربات العربية المشتركة، هى الوسيلة المثلى، لمراعاة مصالح الدول العربية.
سادسا: إن تطبيق مفهوم العمل العربى المشترك، يتعين أن يمتد أيضا، للتعامل مع الأزمات العالمية وتنسيق حركة الدول العربية، لإصلاح منظومة الحوكمة الاقتصادية العالمية.
رابط دائم: