تنهار الإمبراطوريات، لتصعد أخرى، هذا حال الدنيا، وحتما ستسرى هذه السنة الكونية على إمبراطورية الدولار، ولكن توقيت حدوث هذا لايزال محل تكهنات وتوقعات مختلفة، ولكن الأكيد أنه ليس فى المستقبل القريب أو المنظور. وإذا كانت الظروف التاريخية منذ عام 1944 قد مهدت إلى هيمنة الدولار، فإن الظروف الراهنة تمهد المسرح العالمى لتخلى الدولار عن عرشه تدريجيا. فقد حذرت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين من أن فشل الكونجرس فى رفع سقف الدين الفيدرالى البالغ 31.4 تريليون دولار سيتسبب فى ضربة هائلة للاقتصاد الأمريكى ويضعف موقف الدولار باعتباره العملة الاحتياطية العالمية.
وحذر المحللون من أن المخاطر طويلة الأجل على الدولار هى الديون المتراكمة، حيث يتوقع صندوق النقد الدولى أن ترتفع نسبة الدين إلى الناتج المحلى الأمريكى من 122٪ فى عام 2022 إلى 136٪ بحلول عام 2028. وأثارت الولايات المتحدة المخاوف من أنها على استعداد للمخاطرة بالاقتصاد العالمى بأن يدخل فى مرحلة ركود أو انكماش من أجل إنقاذ اقتصادها، حيث حملت العالم بأكمله مشكلة التضخم التى ضربت أسواقها عبر رفع الفائدة بشكل كبير، مما دعم عملتها وضرب العملات الأخرى.
وذكرت وكالة «بلومبيرج» أن «إلغاء الدولرة» يحدث بوتيرة مذهلة، مشيرة إلى أن الدولار بات يشكل الآن حوالى 58.36٪ من الاحتياطيات العالمية للعملات، فى حين بلغت عام 2001 نسبة 73%، بينما كانت آواخر سبعينيات القرن الماضى تبلغ نسبة 85%. وبحسب صندوق النقد، فقد بدأ عهد الدولار يتراجع بالفعل، حيث يقوم محافظو البنوك المركزية بتنويع ممتلكاتهم إلى عملات مثل اليوان الصينى والكرونا السويدية والوون الكورى الجنوبى.
وللمقارنة، فوفقًا لبيانات صندوق النقد للربع الرابع من عام 2022، يمتلك اليورو 20.47٪ من إجمالى احتياطيات العملات العالمية، و5.51٪ للين اليابانى، و2.69٪ لليوان الصينى. ولكن الخبراء يؤكدون أن الابتعاد عن الدولار يسير بوتيرة بطيئة نسبيا، مدعوما باستحواذه على معظم التجارة الدولية، حيث يستخدم الدولار فى 84.3% من التجارة عبر الحدود، مقارنةً بـ 4.5% فقط لليوان الصينى.
لقد أطلقت الولايات المتحدة شرارة تسارع وتيرة «إلغاء الدولرة» فى العالم، باستخدامها الدولار ونظام الدفع العالمى «سويفت» كسلاح عقوبات ضد روسيا بسبب الحرب على أوكرانيا، مما أدى إلى تكثيف روسيا والصين خططهما للترويج لعملاتهما للمدفوعات الدولية والتبادلات التجارية الثنائية، وبدأت الهند تتحدث بصوت عال عن تدويل الروبية، ولكن هذه الخطوات مجرد البداية فقط. وربما سيكون التهديد الأبرز للدولار هو العملة الموحدة الجديدة لتجمع «بريكس» للدول الناشئة، الذى يضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، حيث ستصبح هذه العملة أساسا للتجارة البينية للتجمع الذى قد يتوسع ويضم 24 دولة، ستشكل 37٪ من إجمالى الناتج المحلى العالمى. ومع وجود روسيا والصين والسعودية والإمارات وإيران، التى تساهم بـ 36٪ من إنتاج النفط فى العالم، فى بريكس، فإن ذلك سيفتح الطريق أمام التخلص من عنصر قوة آخر للدولار وهو ربطه بالبترول، وقد بدأتها روسيا والسعودية وإيران ببيع البترول إلى الصين باليوان.
وبالتزامن، توجد محاولات ثنائية أخرى للتصدى لهيمنة الدولار، منها العملة المدعومة بالذهب التى تنوى روسيا وإيران استخدامها فى معاملاتهما التجارية، بالإضافة إلى زيادة حجم تجارتهما إلى 10 مليارات دولار سنوياً من خلال نظام مدفوعات دولى بديل لنظام «سويفت» المحظور عليهما.
وهناك أيضا العملة المشتركة «سور» التى ستسير المعاملات بين البرازيل والأرجنتين، ووفقا لوكالة «بلومبيرج» بدأ ما لا يقل عن 12 دولة فى أمريكا الجنوبية فى تجارب للتخلى عن الدولار، الذى يستحوذ على 96% من التجارة بين الأمريكتين. وأيضا منذ عام 2021، تشارك الصين وتايلاند وهونج كونج والإمارات فى مشروع تجريبى يديره «بنك التسويات الدولية» بشأن استخدام العملات الرقمية التى تصدرها البنوك المركزية فى إتمام المدفوعات بين الدول بما يشمل الابتعاد عن الدولار.
وقد أدى كل ذلك إلى إذكاء التكهنات حول تراجع الدولار وفقدانه عرشه، وقالت صحيفة «فاينانشيال تايمز» إنه يتعين على العالم الاستعداد لعالم متعدد الأقطاب.
رابط دائم: