من بين أنبل أنواع الدراما، وأكثرها حيوية تلك التى تمس قلوب الناس ومشاعرهم وتتقاطع مع أدق لحظات حياتهم ضعفا أو حتى يأسا، ومن هنا اختار المخرج المتميز إسلام إمام أن يناقش فى عرضه المسرحى الأحدث «جوه الصندوق» حوادث الانتحار التى صرنا نسمع عنها كثيرا بين فئات المجتمع على اختلاف أعمارهم ولأسباب مختلفة، للدرجة التى وصل فيها الأمر إلى أن ينشر المنتحر أسباب انتحاره على مواقع السوشيال ميديا وكأنها محاولة منه لإدانة المجتمع.
العرض نتاج أول ورشة تمثيل يقيمها صندوق التنمية الثقافية برئاسة د. هانى أبو الحسن، ويشارك فى بطولته خمسة عشر شابا وشابة من الموهوبين.. وفيه تتبع إسلام إمام، المخرج وكاتب النص، الدوافع والمبررات التى قد تصل بكل شخصية إلى حافة الهاوية والإقدام على الانتحار، بناء على افتراضية درامية مفادها أن كل مقبل على الانتحار يعزل نفسه داخل صندوق مشاكله دون التفكير فى التفاعل مع الآخر.
من هنا يبدأ العرض بفرد واحد يقبل على الانتحار بإلقاء نفسه فى النيل، ورغم يأسه إلا أنه يتردد خوفا من صعوبة النهاية، حتى تلحق به فتاة أخرى مقبلة على نفس الفعل، ويتصارعان فيما بينهما عمن يلقى نفسه أولا، وحين يقرران إلقاء نفسيهما معا دفعة واحدة يلحق بهم منتحر ثالث فرابع فخامس وهكذا حتى يكتمل عددهم 15 منتحرا، وهو ما يبرر تعارفهم، وتدريجيا يبدأ كل منهم فى تجسيد مأساته.
فكرة بسيطة منحت شباب الممثلين القدرة على التعبير عن قدراتهم الأدائية إلى حد كبير، من خلال تجسيد كل منهم شخصية مختلفة، فلفتت عالية القصبى الأنظار إليها بقدرتها على الأداء الكوميدى والتراجيدى على حد سواء فى دور فتاة السوشيال ميديا، ونجح باسم سليمان فى تجسيد شخصية البطل الأوليمبى الذى تعثرت أحلامه بسبب تخلى الرعاة عن دعمه رياضيا فتدهور به الحال حتى وصل إلى بيع المخلفات فى الشارع لرعاية أبنائه، اجتهد كل أبطال العمل فى رسم تفاصيل أدائية خاصة بكل شخصية وخاصة هنادى محمود بحضورها فى شخصية بنت البواب المقبلة على الانتحار هربا من التسول وإجبارها على الزواج المبكر، ثم مصطفى سعيد بملامح أولاد البلد التى لعب بها أدوار السايس والبواب وابن البواب الغارق على مراكب الهجرة غير الشرعية.. وكذلك إسراء العسال ابنة مسرح جامعة عين شمس وعبده بكرى وأحمد عبادى وحسن على واسلام رجب ودانا وائل.
استغل المخرج بذكاء تقديم العرض بين جدران قصر الأمير طاز التاريخية فى منطقة الخليفة بشارع السيوفية فى القاهرة القديمة، ليجعل من نخيل القصر وحجره وخلفيته الطبيعية ديكورا حيا أضفى على العرض مصداقية لأحداثه حتى أنه فى أحد مشاهد الريف يتسلق أحد الممثلين النخل بأداء كوميدى جاذب، وهى رؤية إخراجية تتخلى عن عنصر الإنتاج المبالغ فيه، وتسمح بتقديم العرض وتنقله بين مواقع طبيعية وأثرية متعددة. كما جعل المخرج من عرضه كما لو كان جريدة حية، حين ناقش أبطال العرض جمهورهم فى الأسباب التى دفعت أيا منهم إلى التفكير فى الانتحار لأى سبب، وهى فكرة جاذبة تؤكد تماس القضية مع الجمهور، ليتحول العرض إلى ما يشبه جلسات البوح والفضفضة التى يستفيد فيها كل شخص من تجارب المحيطين به للهروب من صندوق العزلة. بداية مبشرة لعدد من المواهب تدفعهم دفعا لمزيد من التدريب على حرفية التمثيل، خاصة وأن فكرة النص تسمح بتناول آلاف القصص بتنويعات أدائية مختلفة فى كل موسم جديد للعرض، وإن كانت بعض القصص تحتاج إلى حفر أكثر فى تاريخ شخصياتها لرصد ما يبرر فعلها.
رابط دائم: