رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الدنيا فى باريس

باريس ــ د. هالة أحمد زكى
«اللوفر» المتحف الأشهر.. وهرمه الزجاجى

شبكة المترو شديدة العنكبوتية، التي يذكرك الحصول على تذكرتها بأول إبداعات البشر فى الكهوف، لشدة تشعبها والتقائها، والمهم الالتزام بخرائطها حتى لا تتوه الأقدام، وليس هذا هو المهم وحده، هنا كمتحف اللوفر حيث يستقبلك الهرم الزجاجى، وبجانبه أهرامات أخرى صغيرة، وكنيسة نوتردام الشهيرة التى تشكل ورقة تعارف مع التاريخ والمزاج الفرنسى بتفاصيلها القوطية، وحى «مونمارتر» بكل إبداع فنانيه، وحى «سان جيرمان»، حيث اعتاد الكاتب جان بول سارتر الجلوس، ولا ننسى برج إيفل الذى ابتكر وافتتح فى نهاية القرن التاسع عشر، والحى اللاتينى وميدان الكونكورد، صاحب المسلة المصرية، قوس النصر، وحتى شارع الشانزلزيه الذى أعلنت فرنسا عن خطة ثقافية سياحية طموح لتطويره حتى لا يصاب رواده بالملل، ويبحثون عن الجمال فى غيره، والأكثر من هذا وذاك هذه الدراجات التى تخترق الشوارع والتى لم تكن بمثل هذا التواجد داخل النسيج الباريسى منذ خمسين عاما مضت، لتضيف بهجة إلى المكان الذى يحتفى بمقاهيه المفتوحة ومقاعده الجميلة وأبواب البنايات التى تعد عملا جماليا وإضافة معمارية فى حد ذاتها.


«قوس النصر» ينتظر الزائرين فى تذكرة بمعالم باريس

 

عزف منفرد

هذه هى باريس التى لا تخطئها عين، حيث الخيال لا يختلف عن الواقع. وإذا كانت الدنيا تملك مدنا وبلادا وموانئ، ستظل باريس هى مدينة النور، مدينة الجن والملائكة كما عرفها طه حسين، والقصة الكاملة لدرس التمدن الذى لخصه شعار ثورتها الحرية والمساواة والأخوة، فكانت ثورة فوق العادة وشعارا انتظرته أوروبا ليلهمها بتفاصيل، ولتحتفظ باريس وحدها ببقية الحكاية والمبتغى فى تاريخها وتراثها الخاص جدا.

ومع هذا، باريس ليست مجرد قصة ثورة وانتهت، ولكنها مدينة تلزم نفسها بكيانها الأوروبى بمبانيها الكلاسيكية الممتدة على مدد البصر، ولا تنسى أن تضيف إليها من كيان البحر المتوسط، الذى يمنح المدينة نكهة خاصة قد تذكرك فى لحظات بأنك فى منطقة وسط البلد، وربما فى الإسكندرية، أو لعلها شوارع «مالقة» الأسبانية أو غيرها من مدن المتوسط.

هى خلطة شديدة التركيب تفرض وجودها وتبعث أنفاسها عبر نسمات الهواء لتذكرك أنك فى مكان مميز للغاية، حتى تبقى المدينة التى لا تفاجئك ولا تختلف عما يدور فى ذهنك.


نبحث عن فيكتور هوجو فنجد فنه فى «أحدب نوتردام»

أكثر من سبب

هناك من ينظر إلى باريس على أنها عاصمة دولة أتقنت التمدن منذ التقطت الدروس الواعدة التى ورثتها أسبانيا وإيطاليا من الأندلس القديم، كما أنها حتى فى التقاطها هذه الدروس بدت متميزة بسياسة الخطوة، خطوة من الإضافات الحضارية التى تعلنها للعالم منذ رسم دافنشى الجيوكاندا، وبدأ كبار رساميها ومهندسيها يبحثون لأنفسهم عن هوية مختلفة.

ونضيف إلى كل هذا أن الباريسيين لم تختلف ملامحهم ولا طريقة تعاملهم مع الآخر، هم يريدون أن يندمج الكثيرون فى ثقافتهم المختارة، والتزامهم الأكبر يكون بالصيحات التى يطلقونها فى الفكر والمسرح والسينما مثلها مثل الموضة التى لم تتنازل باريس عن ريادتها أبدا.

تاريخ خاص

إذن باريس، صاحبة الخطوة خطوة والموهبة بالموهبة، وهى التى حرصت على تثبيت مكانة كل صاحب قدرات واجتهادات لتصنع منه أسطورة، طالما هو يستطيع أن يقدم إليها إضافة، ولهذا هى تدعوك لزيارة كنيسة نوتردام الخالدة التى تحمل بصمات العمارة الكاثوليكية القوطية، والتى أصبحت مع قلم فيكتور هوجو قصة عالمية تتجاوز البنيان المعمارى.


الجيوكاندا تبتسم.. إذن نحن فى اللوفر

الناس تبحث عن أحدب نوتردام وهم يتجولون بالقرب من الكنيسة التى تعتريها بعض الترميمات، لكن لن يظهر الأحدب أبدا وسيظل شبحا يبحث عنه كل من يأتى، هذا هو فن صناعة الجذب الثقافى الذى يتقنه الفرنسيون الذين طمحوا أيضا أن يجعلوا ثقافة العالم بأسره جزءا من ثقافتهم.

وهذا بالفعل تواجد كبير للثقافة واللغة الفرنسية التى هى لغة موليير الذى كان درسا وعصرا بأكمله فى زمن إبداعه فى القرن السابع عشر بمسرحياته «طرطوف»، و«البخيل»، و«عدو البشر»، وغيرها التى كتبها المبدع جون بابتيست بوكلان، الملقب بموليير، والذى يقترن باسمه مسرح الكوميدى «فرانسيز». لكن ألا يكفى باريس موليير وهوجو، فالقائمة طويلة من فولتير وبلزاك إلى فلوبير وبروست وغيرهم، والقائمة لا تقتصر على كتاب بل تشمل سياسين وفلاسفة ومهندسين، وحتى مصممى الأزياء التى تزدان باريس بمنتجاتهم.

الطريق المفتوح

لدى فرنسا، وتحديدا باريس، تاريخ آخر طويل لا يفصلها عن أوروبا، عرفت فيه التحضر منذ الحضارتين الآشولية والموستيرية التى عرفهما الإنسان الأول، ثم ذلك العهد «الجالى»، وتواجد قبائل الفرنجة، والعصور التى تلاطمت فيها الأمواج، سواء فى حروب مع إنجلترا أو حروب دينية أو ثورة صاحبة شعارات خاصة، أو رغبة فى التواجد فى الشرق فى أكثر من عصر، كان أهمها ما حدث مع الحملة الفرنسية على مصر التى لم تحقق هدفها السياسى المنشود، وانحصر إنجازها فى «وصف مصر»، تلك الموسوعة التى عمل عليها علماء وأدباء ورحالة فرنسيون، وأيضا اكتشاف فرانسوا شامبليون لحجر رشيد، ليظهر علم المصريات قويا يافعا، يحكى عن حضارة مصر التى لم تعرف البشرية مثيلا لها. أما نابليون، ذلك الشاب المغوار الذى جاء إلى مصر فى مغامرة سياسية، فقد صعدت أرصدته ليصبح هو نفسه إمبراطورا ولتدور لعبة السلطان.


تراث مصر الخالد جالسا داخل كيان اللوفر

اللوفر المصري

ربما كان الحديث عن شامبليون افتتاحية أخرى للحديث عن متحف اللوفر القريب من نهر السين، والذى كان فى الأصل قلعة ثم قصرا ثم أكاديمية ثم متحفا منذ نهايات القرن الثامن عشر، وبأمر من الجمعية الوطنية للثورة الفرنسية، والذى لا تتوقف أمامه الطوابير الطويلة فى انتظار إذن الدخول، وإن كان يمنح الصحفيين من كل أنحاء العالم الفرصة للتجول مجانا بين ردهاته.

وهو المتحف الذى يحتاج الزائر إلى أكثر من يوم للتجول داخل قاعاته، ولهذا فمن المنطقى أن تمنحه تذكرته هذه الفرصة، وخاصة أنه سيشاهد كل حضارات العالم مجتمعة فى مكان واحد.

وإن كان الهرم الذى استقبلنا لم يتركنا بالداخل، فالجميع يتساءل عن الجناح المصرى وكيفية الوصول إليه.

تبدو مصر وكأنها متوهجة تتألق فى أكثر من وجهة، حيث توجد التماثيل والمخطوطات الفرعونية، والتى تتزاحم فى قيمتها ووقفتها الشامخة، وهو الانطباع الذى يصاحبك منذ رؤية تمثال شبيه بأبى الهول .

هذا الجناح له هو الآخر تاريخ كما تحكى الصحف، وقد خصص بأمر ملكى خاص فى القرن التاسع عشر، وكان لشامبليون مكتشف حجر رشيد بصمته على المكان، واستمر إمداد الأثريين للمتحف، ومنهم مارييت الفرنسى، لنشاهد هذه القطع النادرة المنتمية إلى تاريخ وحضارة مصر من سفن ورموز ومحاصيل وأطعمة ومشاهد من الحياة اليومية، والجناح يتسع ومعه المعروضات التى تجعلنا نبحث معهم عن ما ذهب من فن مصر. وتفيد بعض التقارير الصحفية أن العدد يتجاوز الخمسين ألف قطعة عبر صالات متعددة.


وجوه الفيوم التى سيتوقف عندها الفن سنوات وسنوات لتتبع هذا الإبداع الأصيل

ولكن المسألة لا تتوقف عند هذا التواجد المصرى القديم، هناك أيضا قاعة تضم وجوه الفيوم بكل قيمتها وتميزها المبهر، هى جزء آخر من تاريخ مصر لم نعرف إلى الآن كيف ننصفها بدراستها باقتدار لضمها إلى تاريخ يتبع الدقة والجمال، وكيفية تحول الأنماط الفرعونية فى الفن إلى شكل آخر يثبت أن مصر تعرف كيف تجدد وتدير دفة الفن بنجاح، بالتوصل لتصوير جديد متميز لا يعرفه غيرها، وكذلك جناح الفنون الإسلامية الذى يضم روائع الفن والتصوير، ولا يغيب عنه فن مصر فى العصر الفاطمى من خزف وزجاج، وكذلك المشكاوات المملوكية.

لا أعتقد أن مثل هذا التواجد المصرى الكبير يمكن أن يكون مجرد تواجد عابر، فقد يفتقد اللوفر الكثير من ثقله الحضارى بغياب روائع الفن المصرى على مر العصور، والتى لا تقل أهمية عن لوحة الموناليزا التى يتزاحم الناس حولها، وتشير الأسهم إلى القاعة التى تضمها بوصفها درة المتحف التى لا يستطيع أحد تجاهلها.

أقلام مصرية

ولكن هل يمكن أن نكتفى من باريس بما عرفنا، وعلى بعد أكثر من عشرين كيلومترا يوجد قصر فرساى، الذى بدأ منزلا صغيرا ثم أصبح تحفة الناظرين، ومقر الحكم الملكى الذى غادره الملك لويس السادس عشر ومارى انطوانيت قبل أن يتم إعدامهما، والقصر الذى يضم ألف حكاية وحكاية، يذكرنا بقصر عابدين، وهو كان واحدا ضمن الأمنيات السبع للخديو إسماعيل، الذى أراد أن يجعل القاهرة ببنيانها الحديث جزءا من باريس التى عشقها ودرس بها، ضمن بعثة الأنجال التى زامله فيها على باشا مبارك مهندس النهضة العمرانية.


لم يخطىء فن العالم تعقب كيان إيزيس التى كانت رمزا كبيرا فى حضارة مصر

وإن كانت الحكايات الباريسية المصرية لم تبدأ فى زمنهما، فالشيخ حسن العطار أستاذ الطهطاوى، يجد فى علوم فرنسا مدخلا جديدا للأخذ بأسباب العلوم والتقدم، والطهطاوى من بعده يذهب فى بعثة إلى فرنسا ويعود مع أعضاء بعثته، التى ضمت محمد مظهر مهندس القناطر الخيرية، وحسن الاسكندرانى أسد البحار، ومصطفى مختار بك أول ناظر أو وزير مصرى للمعارف.

يؤسس الطهطاوى مدرسة الألسن ويصدر مجلة روضة المدارس، ويكتب عن باريس وعن الحرية التى هى الوسيلة العظمى فى إسعاد أهالى الممالك، إذا كانت مبنية على قوانين حسنة عدلية، ويأتى من بعده الوارثون محمد جلال، وأحمد زكى، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وعبد الرحمن بدوى، ومحمد حسين هيكل، وعبد الرزاق السنهورى، والشيخ مصطفى عبد الرازق، وسعيد اللاوندى وغيرهم، كل هؤلاء تأثروا بباريس وذهبوا إليها فعادوا بأحلام أكثر مصرية، وكانوا كمن استمع إلى العملاقة إديث بياف فى رائعتها «لست نادمة على شيء»، فعاد وفى القلب «رق الحبيب» لأم كلثوم. وكأن الدنيا كما كتب أحمد زكى باشا فى باريس...الدنيا فى باريس.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق