
**ترجمة ــ عاطف محمد عبدالمجيد**
فَقَدْتُ إحساسى بالوقتِ. لمْ أَعُدْ أدرى منذ كمْ مِن الوقتِ ونحن هنا. منذ ساعة؟ ساعتين؟ ثلاثة، ربما؟ لدىّ ساعة حقًا، لكنى لمْ أتوصل إلى تمييز عقاربها. فى أول الأمر، كان الظلام مُطْلَقًا. بعد ذلك، وشيئًا فشيئًا، اعتادت أعيننا على الوضع.
الآن، يمكننى أن ألمح ظِلّ توماس ووجه كاميل. كلا. فى الواقع، أنا لا أرى وجه أختى الصغيرة: أنا أُخَمّنه. هى شُجَاعةٌ جدًا. لمْ أكنْ أتخيل هذا عنها قط. تتحمّل كثيرًا. لا تتذمر.
لا يبدو عليها أنها خائفة، بل تمتص إبهامها، وكأن شيئًا لم يكن.
ربما لمْ تستوعب فى أى موقف نكون؟
ربما.. هذا أفضل بالنسبة لها.
كذلكَ توماس، لا يبدو خائرَ القوى. يجلس قُرْبَ السُّلّمِ على الأرض. ساقاه مرفوعتان، واضعًا ذقنه على ركبتيه. سألتُ نفسى فى أى شىء يفكر. أهو يجتر؟ أهو هادئ؟ أهو مُنْهمكٌ فى رسم خُطّةٍ كى نخرج من هنا؟ أنا واثقة به. لقد ساعدنا مِن قبل فى كثير من الأحيان.
اسمى ڤانسان. لديّ اثنا عشر عامًا. ثلاثة عشر عما قريب. لا أستطيع أن أخبركم عن المزيد، لأن هذه، حقيقةً، ليست لحظةَ النقاش والتعارف كما لو كنا فى حفلة شاى. عليّ أن أفكر مليًا فى ضجة الخارج. عليّ أن أفهم. لا بد من أنْ أحاول أنْ أرى الأشياء أكثر وضوحًا.
هذا مهم جدًا. لم يعد يحق لنا أن نرتكب خطأً. أسمع جيدًا وَقْع خطواتٍ وصيحاتٍ، لكنى لا أتوصل إلى تقدير المسافات. أحبس أنفاسى وأعضُّ إبهامى. أنا كقنّاص، كمستكشف، كنَاسكٍ هندى. عليّ أن أستخدم رأسى، وأن أُبْدى صَبْرًا لا محدودًا. إنه السبيل الوحيد لتحقيق غاياتنا، وليس الإمساك بها. لا أجرؤ أن أتخيل ما سيحدث منا لو أنَّ أحدًا كان قد عثر علينا الآن.
من جهة أخرى، أمنع نفسى عنه. عليّ أن أظل منكمشًا على ذاتى. منكمشا وواثق.
اقتربتْ منى كاميل. أخبرتنى أنها جائعة. أضع إصبعى أمام فمى، مشيرًا إليها بأن تصمت. عيناى المتورمتان جعلتاها تخاف. أرى وجهها يتلوّى كأنها كانت تبكى. أتحدث بأخفت صوت ممكن، وأمدُّ ذراعيَّ ناحيتها.
- تعالى على ركبتىْ.
تُقبل إليَّ وتتكئ على ذراعى.
- ڤانسان، أنا جائعة، تُكرر.
أُلْقى نظرةً على خُرْجى، ما زال يُبقى لنا بعضَ الفواكه الجافة، عُلْبتيْ بسكويت وإناءً مملوءًا تمامًا. أتردد. لا أريد أنْ أهاجم مؤننا بسرعة مفرطة، بل أريد، تمامًا، أنْ تنام.
عادةً، هذا أوان قيلولتها، وأعرف أنها ستنام بسهولة أكثر، إنْ كان فى بطنها شىء يسد جوعها.
هل لحكايةٍ أن تَحلَ مَحلَّ قطعةِ جاتوه؟ لا أدرى. سأجرب.
- هل تعرفين حكاية الفتاة الصغيرة التى أكلتْ أرنبها؟ تُحرك رأسها من اليمين إلى اليسار وترفع أرنبها القطيفة الصغير، مرة أخرى أسفل ذقنها.
- عجبًا، ها هى.. إنها الفتاة الصغيرة التى دائمًا ما تتخذ وضع امتصاص أُذنىّ أرنبها. دائمًا، دائمًا.
حتى فى الشارع، حتى وهى نائمة، حتى وهى ذاهبة للّعب فى الحديقة.
عليها دائمًا أن تمتص وأن تعض أذنيّ أرنبها. آنذاك، يندهش الناس، يقولون لها: «لكن لِنَنْظر، أيتها الفتاة الصغيرة، لمَ تضعين دائمًا أُذن الأرنب فى فمكِ» إنه ليس نظيفًا! إنه مقزز!
«إنه يتسكع فى كل مكان. إنه يلتقط كل ميكروبات العالم، وأنتِ تحملينها فى فمك. هذا خطير، أيتها الفتاة الصغيرة. لا تعودى لفعل هذا مرة أخرى»!
لكنّكِ ترينها تسخر مما يقوله الناس، لأنها تحتفظ بسِرٍّ.
سِرٌّ سِرّيٌّ جدًّا، درجةَ أن أحدًا لا يعرفه. لا أحد! حتى أمها، أبوها، أخوها الكبير.
– ما هو سِرها؟ تسأل كاميل وهى تلوك أُذنَ أرنبها.
- سأحكيهِ لكِ حين تنامين. هيا، اسْتلقِى عليَّ جيدًا وتناولى إبهامك. عليكِ أنْ تحْصُلى على قسْطٍ من النوم الآن. على الفور نامتْ. كنتُ أرتاب فيها. كانتْ ميّتةً من التعب.
- ما هو سِرها؟ يسأل توماس.
- ماذا سنصبح؟ أرد عليه.
يتمدد ويُغيّر من وضعه.
- لا أدرى.
- ألستَ قلِقًا؟
- لا أدرى.
لا أُلحُّ. أسْتند بظهرى على عارضة، أفرش قميصى على ساقىْ كاميل وأغمض عينى.
.............
لا بد من إيجاد حل. لن نستطيع أن نظل هكذا. انقضى النهار، ولهذا سيعود آباؤنا. لا بد أن نقول إنهم كانوا مستكشفين، وحاليًا هم يبحثون، راضين، عن معبد فى الأدغال. ما من نجدة تُنْتظر من هذا الجانب. كان لا بد من قضاء النهار فى الغابة المجاورة، لن يقلق جدودنا مبكرًا جدًا. ثلاثتنا مقْدامون بما يكفى، وليس من النادر أن نعود إلا وقت هبوط الليل.
عندما نلد مغامرين كآبائنا لا يكون مُستغربًا أن أبناءهم كانوا كذلك مغامرين. فضلًا عن ذلك، سيبحثون هناك عنا وليس أسفل بئر سُلّمِ منزلنا!
يا له من غباءٍ أن نمر على منازلنا لاسترداد هذا الأرنب. غير أنّ كاميل لمْ تكن تريد أن تنصرف من دونه ولمْ أستطع أبدًا أن أقاومها حين تنظر إليّ مطأطئة الرأس وهى تقول: «أرجوك ڤانسان».
لمْ تعرف قط أن تقول «آنْ»، والآن، العائلة كلها تنادينى بڤانسان. فى تلك الأثناء، فوجئنا داخل المنزل بلصّيْن كانا يسعيان لسرقة قناع ڤودو الذى استرده الآباء فى آخر رحلاتهم.
لم يكتفيا بالقناع، حينذاك قررا أن يحتجزونا كى يطلبوا فدية. كأنّ مستكشفين ما حصلوا على النقود! فجأة، ثار توماس فى ركنه. كان أخى البِكْر هادئًا للغاية ومُتّزنًا. كان لا يتحدث سُدًى، وكان الجميع يصغون إليه دائمًا. ها هو يقول بصوت خفيض:
- الأرنب، أرنب كاميل، أتَذْكرُ بأى مناسبةٍ حصلتْ عليه؟
- أجل، لقد استرده الآباء فى الوقت نفسه الذى استردوا فيه قناع ڤودو الشهير.
- وهل تذكر ماذا قالوا لها وهم يقدمونه إليها؟
هناك، أتوقف. ماذا استطاعوا أن يقولوا؟ لمْ أعد أتَذَكّر. على أية حال، لمْ يعد ذلك ذا أهمية.
هل جعل الجوعُ والخوف أخى الممتاز يَهْذي؟ لكن، الآن، يرد:
- قالوا إنه كان أرنب سِحْر أبيض. لو استطعنا أن نصل إلى قلبه فسينقذنا فى كل المواقف. لكن، ماذا يعنى هذا: «نصل إلى قلبه»؟ بهدوء، آخذُ قطيفةَ ذراعيّ أختنا الصغيرة.
أعود إلى كل الجهات بلا جدوى، أضربها على صدرها، سِرُّها محفوظٌ بعناية. أبدأ فى الانزعاج، وأخى أيضًا، وها نحن منشغلين بفحْص صَدْر هذا الأرنب الملعون، من أعلى إلى أسفل، من اليمين إلى اليسار.
مع كل هذه الجلبة، تستيقظ كاميل، تفتح عينيها الكبيرتين المذعورتين، تمد ذراعيها إلى قطيفتها التى تعشقها. أعدناها إليها قبل أن تجهش بالبكاء. حينذاك، تهمس بكل هدوء، فى أذن حيوانها: أرنوبى، أنا خائفة. أخْرجْنا من هنا، أنا أريد جدى، جدتى، أبى وأمى. حينئذٍ لن تصدقنى.
لكن فجأة أصبحتْ عينا الأرنب لامعتين جدًّا حتى أننا كنا نستطيع أن نرى فى الغرفة الضيقة كما لو أن هناك مصباحًا قد أشعل! راحت شفتاها تتحركان، وصوت خافت يخرج منهما. كنا فى حالة إرهاب أكثر مما كنا عليه لحظة اختطافنا. لكن الأرنب يقول لنا:
- لا تخافوا. ماذا سيلحق بكم؟ يمكننى أن أساعدكم. حينذاك، تمسك كاميل به بين ذراعيها، وتهمس فى أُذنه بمغامرتنا الشاقة. لا يبدو أنها خائفة من هذا الموقف الغريب، وتحكى له كل شىء دون تردد. يعرف الأرنب قناع ڤودو وسُلطاته. هم من المنطقة نفسها ولو كان القناع يحقق السحر الشيطانى «السيئ»، فهو يمارس السحر الأبيض «الجيد».
يغمض عينيه، ينكمش على نفسه. حينئذ، ينفتح باب الغرفة الضيقة، نسمع ضجة مرعبة للغاية حتى لمْ نعد نجرؤ على الحركة: تَعْزيماتٌ، صيحاتُ خوفٍ، وسقوط.
عقبَ لحظات طويلة، أخْرجُ أنا وتوماس من سجننا. وكلنا دهشة، نَلْقى خاطفينا مشلولين، منبطحين أرضًا، أعينهم جاحظة من الذعر وقناع ڤودو يجعل كل شىء يلمع فى أقدامهم. نتمكن من الاتصال بجدودنا الذين يأتون فى الحال يبحثون عنا ويسّلمون هؤلاء اللصوص إلى رجال البوليس.
أثناء ذلك، حين نتحدّثُ عن حَدَثِ هذا الأرنب تحديدًا، لا يصدقنا أحد. لا بد أنْ نقول إنَّ هذه القطيفةُ قد استعادتْ هيئتها كقطيفة. ما من كلمة، ما من عينين لامعتين. ويظل سِرّها سِريًّا جدًا.
ولدت الروائية والقاصة الفرنسية آنا جاڤالدا فى التاسع من ديسمبر من العام 1970 فى بولونى بيانكور، وتعمل مُدرسةً للغة الإنجليزية فى المرحلة الثانوية.
نشرت مجموعة من قصصها القصيرة فى العام 1999 وعنونتها بـ «أريد أن ينتظرنى شخص ما فى مكان ما» ولاقت استحسان النقاد وقتها وحققت أعلى مبيعات إذ وصل ما بِيع منها إلى أكثر من ثلاثة أرباع مليون نسخة، وقد ترجمت إلى لغات عديدة كان أولها الإنجليزية حتى أنها كانت تُباع فى ما يقرب من سبعة وعشرين بلداً. ثم حصلت على جائزة الأدب الكبرى «RTL – LIRE» فى العام 2000. أما روايتها الأولى «شخصًا ما أحببتُ» فقد نشرت فى فبراير من العام 2002 وحققت أيضًا نجاحًا أدبيًا مدويًا وكانت هى الأكثر مبيعًا. وفى العام 2004 نشرت روايتها «معًا.. هذا هو كل شىء». وفى العام 2007 وصلت مبيعات كُتبها إلى الثلاثة ملايين نسخة فى فرنسا.

آنا جاڤلدا
رابط دائم: