-
تعلم من شوقى «الإيتكيت» وحب الشعر.. ومن رامى بوهيمية الفنان
-
وقفة مدتها عشر ثوان فى «قولى حاجة» دفعته لاستعادة جميع نسخ فيلم «الخطايا»
تمر هذه الأيام الذكرى الثانية والثلاثين لرحيل موسيقار الأجيال، وأعظم موسيقى عربى فى العصر الحديث، محمد عبدالوهاب، سيد الألحان، وجواهر الأصوات، من صوته فى حديثه العادى غناء، ومن جلسته وهو يضع قدما على قدم، ويشبك يديه، لوحة فنية فى ذاتها، من فتن الرجال والنساء فى عصره، وحاز إعجاب كل المصريين والعرب، ونال تقدير كل الملوك والأمراء والرؤساء فى كل العصور، الشاهد الحى طوال قرن كامل على عظمة الموسيقى العربية الشرقية، والمجدد الموسيقى الأعظم.
فكيف أصبح عبدالوهاب هذا العملاق الموسيقى؟.. نشأ موسيقارالأجيال فى أحضان التصوف والموالد فى رحاب مسجد عبدالوهاب الشعرانى،حيث كانت أسرته مشرفة على المسجد، وتبناه ورباه أمير الشعراءأحمد شوقى،فأتقن على يديه الفرنسية، وتعلم الإتيكيت، وغشى بصحبته قصور الأمراء والأميرات، وحفظ دواوين الشعر العربى،فأصبح المثقف الموسوعى، العميق والشامل، لم نشعر أنه رحل، هو باق بقاء النهار والليل، وبقاء النيل والأهرامات.
ولد أعظم موسيقى مصرى وعربى فى العصر الحديث فى 17 مارس سنة 1901م ورحل فى 5 مايو سنة 1991م، وما بينهما عاش قرنا من العطاء السخى، يكتشف الموهوبين، ويقود ريادة الأفلام الاستعراضية، ويؤم نقابة الموسيقيين، كان هو ميزان الذهب الذى توزن به كل قضايا الموسيقى والغناء، أدهش الملايين فى بداياته عندما غنى « الجندول والكرنك ونشيد الجهاد ويا جارة الوادى » وغيرها، حتى كتب فيه العقاد وكامل الشناوى شعرا بليغا ثناء عليه، وقبل رحيله خرج علينا برائعته « من غير ليه » بما تحمله من تساؤلات وجودية وحيرة فجعل الشباب قبل الكبار يصيخون السمع إليه.
وضعت عن فنه وسيرته وحياته عشرات الكتب، من كتاب صديقه مجدى العمروسى إلى كتاب د. رتيبة الحفنى، إلى كتاب الصحفى الفذ محمود عوض «عبدالوهاب الذى لا يعرفه أحد»، قالوا عن نشأته، وغرامياته، وثروته، وبخله، وحرصه وحذره، بعض ما قيل صادق، وبعضه افتراء على الرجل، ولكن لم يختلف أحد من معاصريه، وممن تلاهم على عبقريته وتفرده وتربعه على عرش الموسيقى والغناء لقرن كامل، قال ذلك العقاد شعرا، وقاله محمد التابعى وكامل الشناوى وتوفيق الحكيم وقبلهم شوقى أستاذه فى عالم الحياة الأرستقراطية والشعر، واعترفت له صنوه على عرش الغناء أم كلثوم بالتفرد والسيادة، وكانت ألحانه لها إضافة كبيرة ومباراة فى الموسيقى، وكان السنباطى وهو من هو سيد ألحان القصيدة العربية، كان مجرد عازف فى بداياته مع عبدالوهاب.
وقد اشتهر عن عبدالوهاب حرصه الشديد على فنه، وذكر مجدى العمروسى فى كتابه عنه أنه شارك بلحن لأغنية «قوللى حاجة» فى فيلم «الخطايا»، وكان الموزع اللبنانى محمد على الصباحى قد تعاقد على توزيع الفيلم بالخارج، ودفع ما قيمته ملايين بلغة عصرنا، وكتب شرطا جزائيا فى العقد بحيث لو تأخرت نسخ الفيلم، يدفع المنتج خمسين ألف جنيه، وطلب عبدالوهاب مشاهدة الفيلم، لكنه وجد وقفة مدتها عشر ثوانى فى لحنه، فسأل عمن فعلها، فقالوا له إنه المخرج حسن الإمام لدواع إخراجية، فطلب جميع النسخ وعددها 13 لدى الشركة، وطلب من العمروسى الذهاب للمطار والمجىء بالنسخ المقرر سفرها إلى لبنان،وطلب المونتير، وظل فى الاستديو حتى صباح اليوم التالى حتى اطمأن لتصويب كل نسخ الفيلم، هذا هو عبدالوهاب الذى لا يتنازل فى فنه أبدا مهما كانت المبررات.
أما عن بخله فحكى هو أنه جاءه صاحب معارض موبيليا يدعوه لفرح، كان ذلك فى ثلاثينيات القرن العشرين فطلب عبدالوهاب مائة جنيه، فانزعج الرجل وقال بدهشة: «ليه هو انت هتعمل إيه، إنت هتغنى بس»، فرد عبدالوهاب بهدوء: «خذ منى المائة جنيه وغنى أنت»، إنه فنان يعرف قدر نفسه.
وحكت د. لوتس عبدالكريم فى كتابها عنه أنها جمعتها سهرة فى أفخم مطاعم باريس «الجراند كاساد» فى غابات بولونيا، هى وزوجها الوزير الكويتى، مع عبدالوهاب وفريد الأطرش وغيرهما من أهل الفن، وكان عبدالأحد جمال الدين حاضرا ومستشارا فى سفارتنا هناك، وبعد العشاء وجدوا عبدالوهاب قد دفع الحساب للجميع وقال ضاحكا: «أنا محدش يعشينى»، معنى ذلك أنه لم يكن بخيلا، بل كان يضع الشىء فى موضعه، وهكذا الحكماء.
وكيف يكون بخيلا من تعلم من أمير الشعراء أحمد شوقى أن يأكل أطيب الطعام، ويلبس أفخر الثياب والماركات العالمية، وكان يقضى شهورالصيف فى باريس التى يحفظ شوارعها مثل كف يده، لقد كان مجاملا لأقصى حد وكان يمنح رواتب شهرية للفقراء سرا،وظل ينفق على صالح عبدالحى حتى وفاته، وغيره من الفنانين الذين انسحبت عنهم الشهرة.
أما عن حياته العائلية فقد تزوج عبدالوهاب ثلاث مرات، الأولى من سيدة ثرية هى زبيدة الحكيم، وفرت له الحياة الهنية بعد شوقى، والثانية إقبال نصار أم أولاده، والثالثة نهلة القدسى، ولكنه كان عشقه الأول والأخير كان لفنه.
وكان عبدالوهاب يلتقط الموهوبين فى الغناء والموسيقى، كما يلتقط كامل الشناوى الموهوبين فى حرفة القلم، التقط عبدالحليم ووقع معه عقد فيلمين لشركته، واحتفظ بهما فى مكتبه، فلما صدق حدسه، واشتهر عبدالحليم طلب منه تمثيل الفيلمين، ثم ارتبط به عبدالحليم ارتباط التلميذ بأستاذه، حتى آخر العمر.
أما تأثير شوقى عليه فوصل لدرجة أنه تعلم منه حب وحفظ الشعر وتذوقه، وتعلم منه كيف يأكل وكيف يلبس ثيابه، وخصص له شوقى جناحا فى قصره، واصطحبه معه لقصور الأمراء والأميرات، واصطحبه معه لباريس، وتعرف من خلاله على مطاعمها وفنادقها ومقاهيها، وحفظ عبدالوهاب الجميل لأستاذه فغنى له فى حياته وبعد رحيله أعذب قصائده، وظل وفيا لذكراه حتى آخر أنفاسه.
يحكى عبدالوهاب عن الذين تأثر بهم فيقول:
« خمسة بطريق غير مباشر هم سيد درويش والشيخ أبو العلا محمد والشيخ درويش الحريرى والشيخ محمود صبح والشيخ محمد رفعت».
و«ثلاثة بطريق مباشر هم أحمد شوقى فعلمنى قيمة الكلمة، وكيف أتذوق الشعر، وعلمنى الفرنسية، وعلمنى الحياة، وكان يخوض بى مجالس الكبراء والنابهين وأنا بعد فتى، وأحمد رامى الذى علمنى بوهيمية الفنان وحياته الطليقة، وأنا أهيم معه فى شوارع القاهرة وأسهر بصحبته حتى الصباح ثم نعود إلى البيت ليجلس هو تحت السرير ينظم الشعر وأنا بجانبه على الأرض أداعب أوتار العود، ثم توفيق الحكيم، وقد صاحبته عشر سنوات كاملة بأيامها ولياليها، استسقيت منه خلالها فلسفته وصوفيته ونظرته للحياة»، هل عرفنا لماذا كان عبدالوهاب جامعة وخلاصة عصره، وتمام القمة فى الغناء والموسيقى والثقافة،إنه الميزان المصرى فى الفن والحياة،والوسطية فى أجلى معانيها، الذوق واللطافة والنكتة ودماثة الخلق وعفة اللسان، العاشق للحياة، وهو القائل إن الحياة هى الباطل الذى أحبه، والموت هو الحق الذى أكرهه.
كتب الموسيقار مدحت عاصم فى تقديمه لكتاب «الشعر فى موسيقى عبدالوهاب» يقول: «عبدالوهاب هو أعظم ملحن ومغن ظهر فى تاريخ الغناء المصرى والعربى،.. لقد أسس مدرسة وأسلوبا فى عالم اللحن، ولم يصل لغايته فى النجاح ويتربع على القمة إلا بعد اطلاع ودأب فى الدرس والتحصيل،..وما رأيت فنانا يعنى بدقة إبداعه وتجويد أدائه وإحاطته بكل حدبة ورعاية كما يفعل.. وكأنه عاشق ولهان معشوقته الأنغام.. أو صوفى متجرد فى هيكل الألحان».
وفيه كتب شوقى شعرا: «غرد يا كنارى النادى – واصدح يا هزار الوادى» إلى آخر القصيدة.
وحين دبرت فاطمة اليوسف سهرة جمعت عبدالوهاب مع التابعى والعقاد والمازنى ورامى وغيرهم، أمسك عبدالوهاب بعوده وغنى، فسحر الجميع وجلس رامى تحت قدميه، ودمعت عيون الحاضرين، فما كان من العقاد إلا أن نظم قصيدة فى مدحه، نشرها لاحقا فى «البلاغ»، يقول مطلعا:
«إيه عبدالوهاب إنك شاد – يطرب السمع والحجا والفؤادا»
«قد سمعناك ليلة فعلمنا – كيف يهوى المعذبون السهادا »
إنه عبدالوهاب،أسطورة الموسيقى والطرب.
رابط دائم: