إذا كان للكتاب مكانة مرموقة فى الثقافة العالمية، فإن ثقافتنا العربية ربما كانت الأكثر احتفاء، فمن ألف عام قال شاعر العربية الأكبر أبو الطيب المتنبي:
أعز مكان فى الدنى سرج سابح .. وخير جليس فى الزمان كتاب, ومن بعده جاء أمير الشعراء شوقى ليعلنها على الملأ: أنا من بدل بالكتب الصحابا .. لم أجد لى وافيا إلا الكتابا. وقد عرفت الثقافة العربية ظاهرة يمكن أن نسميها فن إهداءات الكتب بخط يد المؤلف، وهى ظاهرة لها دلالتها وخصوصيتها فى الثقافة العربية، وإن لم تحظ بعناية الدارسين بعد. نستطلع فى هذا التحقيق آراء عدد من النقاد والمبدعين والأكاديميين حول ظاهرة إهداءات الكتب، وتجربتهم معها، ورأيهم فيها.
الناقد د. محمود الربيعى يقول إن الشيخ محمود شاكر أهداه - مدة سنوات تردده على بيته العامر - ثلاثة كتب هى كلها من «كلاسيكيات» الكتابة فى الدرس العربي، قديمه وحديثه، لافتا إلى أن عبارة إهدائه كانت واحدة، وبالحبر الأحمر الجاف : «إلى أخى محمود الربيعي».
ويضيف الربيعي: «الذين يعرفون محمود شاكر يدركون كم هى عزيزة تلك العبارة التى تصدر من إنسان مثله ؛ لذا أعتبرها إكليلا من الفخر يزين أيامى ، ولذا أعود اليها بين الحين والحين ، أتأملها ، وأتلذذ باستعادتها ، وأعدها من أعز ما تحتوى عليه يدى من « ممتلكات».
عن هذه الكتب، يقول الربيعى : «طبقات فحول الشعراء» لمحمد بن سلام الجمحي، حيث يعد هذا الكتاب أول كتاب فى «النقد المنهجى عند العرب» (وأنا أستعير هذه العبارة من عنوان كتاب جميل لمحمد مندور) ، وكان عنوانه قبل أن تصدر طبعة شاكر « طبقات الشعراء» ، فأضاف إليه كلمة « فحول» وقدم لذلك من الأدلة والبراهين ما جعل عنوانه يبتلع كل العناوين التى سبقته فى طبعاته المتعددة، وأصبحت طبعة شاكر هى المعتمدة عند أهل العلم، ويضيف أن الكتابين الآخرين هما من تأليف محمود شاكر نفسه: «المتنبي» و«نمط صعب ونمط مخيف».
ويتابع: نشرت مجلة «المقتطف «سنة ١٩٣٦ كتاب» المتنبي» فى عدد خاص لها ، كان عمر مؤلفه محمود شاكر سبعة وعشرين عاما ، وقد كان هذا الكتاب فتحا مبينا، توالت بعده الدراسات المنهجية للمتنبى على نسق كتاب شاكر فى سيل لم ينقطع حتى هذه اللحظة .
ويرى صاحب «قراءة الشعر» أن أهم ما فى الكتاب، إلى جوار التحليلات البديعة، والموازنات الرائقة ، بين الخبر التاريخى والنص الشعري، هو ما خلص إليه شاكر وأثبته بأقوى البراهين ، ولم يسبقه إليه فيه أحد من أن أولاـ أن المتنبى علوى يخفى علويته، وليس ابن سقاء من سقائى الكوفة كما تقول كل المصادر السابقة على كتاب شاكر .ثانيا ـ أن للمتنبى تجربة حب ماحقة مع « خولة» أخت سيف الدولة « شكلت حياته العاطفية وكانت وراء الكثير من أحداث حياته .
ويصف الربيعى كتاب «نمط صعب ونمط مخيف » بأنه فريد حقا ، مشيرا إلى أنه ـ فيما يعلم ـ أول كتاب كامل يكتب فى تحليل قصيدة واحدة. ويلفت الربيعى إلى أنه حين يعود إلى تأمل عبارة محمود شاكر الإهدائية التى لم تتغير: إلى أخى محمود الربيعى تستغرقه الذكرى ، ويترحم على أيام كان بيت محمود شاكر فيها يستقبل طلاب العلم دون تمييز بين صغير وكبير، و«غفير» و«وزير»! ويختتم داعيا : رحم الله الأيام ، ورحم محمود شاكر .
أما الناقد د. محمد عبد المطلب فيقول إن د.عبدالقادر القط أهداه ديوانه «ذكريات شباب» سنة ألف وتسعمائة وثمانين، وكتب فيه: «إلى تلميذى وصديق» د. عبد المطلب ... هذه بعض ذكريات شبابي».
ويقول عبد المطلب إنه عندما قرأ الديوان، استعاد كثيرا من المواقف الشعرية النبيلة، وذكريات الدكتور القط الشجية التى حكاها له: زمن القرية، وحبه الأول فى القرية، وذكريات الحب فى جامعة القاهرة،وذكرياته فى لندن.
وعما تمثله تلك الإهداءات له ، يقول د. عبد المطلب:» كلما تذكرت الدكتور القط ، أعود إلى الديوان لقراءته، وأجدد الذكريات التى لا تُنسي، وهى الذكريات التى تشبع رغبتى الماضية فى أن أكون شاعرا !».
الكاتب الصحفى رجب البنا يتذكر بكل تقدير كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل «السلام المستحيل والديمقراطية الغائبة»، مشيرا إلى أن الأستاذ هيكل كتب له إهداء قال فيه:
«إلى الصديق رجب البنا . مع خالص الود» ويصف البنا كتاب هيكل بأنه:
كتاب مختلف، مكتوب بأسلوب أدبى وفى شكل رسائل وليس بأسلوب المقال أو الدراسة .
ويضيف أن الكتاب فيه أفكار الأستاذ هيكل فى السياسة والمجتمع وأحوال العالم العربي، لافتا إلى أن هيكل كما قال عنه أنتونى ناتنج وزير الدولة للشئون الخارجية البريطاني: «عندما كان قرب القمة كان الكل يهتمون بما يعرفه، وعندما ابتعد عن القمة تحول اهتمام الكل إلى ما يفكر فيه» .

د. محمود الربيعى - رجب البنا
ويوضح أن من الأفكار المهمة التى وردت فى كتاب الأستاذ هيكل أن الكاتب الصحفى يجب أن يكون مستقلا، وهذا لا يعنى عدم الالتزام، ولكنه التزام الكاتب بفكرة وليس التزاما بفرد أو تنظيم.
و يقول إن الأستاذ هيكل رأى فى الكتاب أن الأحزاب فى العالم الثالث مجرد أشكال، حزب الأغلبية هو دائما حزب السلطة أى أن السلطة هى التى تصنع الأغلبية، وليس العكس، وأن الكلمة الحرة تستمد قوتها من الاستعداد لتحمل مسئوليتها، وحين لا تكون هناك مسئولية ، فليس هناك قيمة للحرية .والظروف الراهنة فى العالم العربى غريبة: انقسامات شخصية، وثارات قبلية، وأفكار ضبابية.
ويخلص إلى أن هذا الكتاب يستمد أهميته من أن كل القضايا التى طرحها الأستاذ هيكل فيه ما زالت حية وقابلة للنقاش العام، ولهذا يعيد قراءته مرة أخرى بعد سنوات من صدوره.
وعن الإهداءات يقول الناقد د. أحمد درويش إن عبارات الإهداءات ذات خصوصية معينة فى بنيتها، وطريقة توجيهها، ومدى تمثيلها كاتبها أو المكتوبة إليه، أو المكتوب عنه من مؤلفات.
ويضيف أن عبارات الإهداء فى مجملها مركزة قصيرة، ينبغى ألا تزيد على أسطر قليلة، وأحيانا عن عبارات معينة، مشيرا إلى أنها تختلف عن موقع المهدى من المهدى إليه، لافتا إلى أن إهداء التلميذ إلى أستاذه يختلف عن إهداء الأستاذ إلى تلميذه، وإهداء الند للند القريب، يختلف عن الإهداء للبعيد.

د.يمنى الخولى - د.أحمد درويش
ويوضح صاحب «النص والتلقي» أن الإهداء بصفة عامة ربما يكون لأنثى قد يختلف عن الإهداء لرجل، مشيرا إلى أن إهداء ديوان الشعر غير إهداء الرواية وغير إهداء الكتاب.
ويتابع :«لو أننا جمعنا إهداءات معينة صادرة عن مؤلف واحد، لمهدى إليهم كثيرين، وصنفناها، أو عن كتاب جيل معين وهم يهدون إلى قرائهم القريبين أو البعيدين، فلربما خرجنا من خلال هذه الدراسة برصد للمشاعر ورصد للبنى الأسلوبية، ورصد لطرائق التعبير المفضلة هنا أو هناك».
من جهتها تقول د. يمنى الخولى أستاذة الفلسفة بجامعة القاهرة وحفيدة الشيخ أمين الخولى إنها تذكر بكل سعادة كتاب د. زكى نجيب محمود «المعقول واللا معقول»، وتصف د.يمنى الكتاب بأنه من المرحلة الناضجة والمتكاملة فى فكر د. زكى نجيب محمود التى قدم فيها مشروعه المهم لتجديد الفكر العربي، ولنهضة حضارية سعى لها، وأمّل فيها على أساس من الجمع بين التراث والمعاصرة.
فى السياق نفسه تقول د. وفاء إبراهيم أستاذة علم الجمال والعميد الأسبق لكلية البنات جامعة عين شمس إنها لا تنسى كتاب «الدين والثورة» للدكتور حسن مشيرة إلى أن الكتاب يعد مشروعه الأول، مشيرة إلى أنهم كانوا شبابا، وكان د. حسن حنفى حريصا على قراءة مسودات كتبه على طلبته، ليتناقشوا حولها ويعلقوا عليها. وتلفت إلى أن د. حسن علمهم كيفية النقد، وكيف يقرأون النص أولا، وكيف يحللونه ، وكيف يتخذون موقفا نقديا عميقا منه.
رابط دائم: