-
أول من قرأ القرآن بالأمم المتحدة وفى القاعة الملكية بلندن
-
حفظ القرآن بالقراءات العشر قبل أن يدرسها
من السهل إنتاج ألف أستاذ جامعى ولكن من العسير إنتاج فنان مثل الحصرى، بل إنه يمكن على سبيل التقريب وصف إبداع القارئ الراحل بأنه يشبه نجيب محفوظ فى الأدب، فكلاهما منّ عليه الله عز وجل بموهبة لا يمكن لأى مدرسة أو جامعة أن تصنعها.. هكذا اختصر الكاتب الراحل محمود السعدنى وصف الشيخ الراحل محمود خليل الحصرى الملقب بسفير القرآن فى كتابه الشهير «ألحان من السماء».
....................................
ربما لم يكن الشيخ الراحل يملك الصوت الطربى الذى تمتع به الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، ولا العمق الروحانى الذى يبعثه صوت الراحل الشيخ محمد رفعت فى مستمعيه، كما أنه لم يحصد نفس شعبية قراء آخرين مثل الشيخ محمد صديق المنشاوى وأبو العينين شعيشع، لكنه تميز عن كل هؤلاء بالانضباط الشديد فى قراءته والأكثر التزامًا بأحكام قراءة القرآن، الذى كان يتلوه بالقراءات العشر التى كان يحفظها عن ظهر قلب، حيث اهتم الحصرى بجودة القراءة وأحكام التلاوة، والوقوف عند كل حرف مع إعطائه حقه فى المخارج والأحكام، فكان كما لو أنه يفسّر القرآن بتلاوته.
والمدهش أن الحصرى حفظ القرآن بالقراءات العشر حفظا متقنا كما أنزل الله القرآن على النبى صلى الله عليه وسلم، دون أن يدرسه كما ذكر الشيخ على جمعة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، حيث قال إنه لما قرأ الشيخ الحصرى القرآن على لجنة للقراءة سألوه، ما أحكام هذا؟ فأجابهم بأنه لا يعرف ماذا يريدون، فقالوا له أنت قرأت قراءة صحيحة وعجيبة ولم تخطئ فى مخرج حرف، قل لنا أحكام هذه التلاوة، فأجابهم أنه لا يعرف أحكام هذه التلاوة فقالوا كيف تقرأ وأنت لا تعرف الأحكام، فقال هكذا علمنى شيخى، وكان ذلك فيما يبدو قبل التحاقه بالأزهر الشريف وتعلمه القراءات العشر هناك. من المواقف الفارقة فى مسيرة الشيخ الحصرى مع قراءة القرآن ما حدث عام 1960 حين ظهرت فى مصر والعالم الإسلامى مصاحف محرَّفة، فرأت الحكومة المصرية أن يكون هناك نموذج صوتى لتلاوة القرآن يكون مرجعا لضبط أى خلل أو تحريف، وهكذا ظهر أول تسجيل كامل للمصحف المرتل بقراءة حفص عن عاصم، بصوت الحصرى، ثم تلا ذلك تسجيله بقراءات عدة، مثل ورش عن نافع وقالون والدورى عن أبى عمرو، ثم بعد انطلاق إذاعة القرآن الكريم فى عام 1964 بات صوت الشيخ الراحل هو الصوت الرسمى للتلاوة طوال 10 سنوات كاملة وذلك بفضل إنه كان يقرأ القرآن بالحرف وهو ما لا يقدر عليه أكثر القراء الآخرين، ومما يذكر فى هذا السياق أن الراحل رفض تقاضى أى أجر عن تسجيل المصحف المرتل كاملا وهو أول جمع صوتى للقرآن، بل إنه كتب فى ورقة المطالبة المالية التى قدمت له ليكتب المبلغ الذى يريد الحصول عليه «لا أتقاضى أىّ مالٍ على تسجيل كتاب الله».
حصل الشيخ على لقب الحصرى من وظيفة والده الذى كان يعمل فى صناعة الحصير، واشتهر فى ذلك الوقت من بدايات القرن الماضى بإنه كان يتبرع بفرش المساجد فى قريته شبرا النملة إحدى قرى محافظة الغربية بالحصر باعتبار ذلك من أشكال الصدقة الجارية، واستطاع الطفل الصغير أن يحفظ القرآن فى سن الثامنة، وبعد التحاقه بالأزهر بدأ يقرأ القرآن فى مسجد القرية فى المناسبات العامة، لكن نقطة التحول فى مشواره كقارئ للقرآن كان فى عام 1944 حين تقدم لامتحان الإذاعة المصرية وتصدر ترتيب المتقدمين ليذاع أول تسجيل للقرآن بصوته فى 16 نوفمبر من نفس العام.
وعلى عكس كثير من المقرئين الذين وضعوا تركيزهم فى قراءة القرآن وتجويده، أثرى الشيخ الحصرى المكتبة الإسلامية بأكثر من 13 مؤلفا تعد من المراجع المقدرة للمقرئين، منها كتاب «أحكام قراءة القرآن الكريم»، و«القراءات العشر من الشاطبية والدرة»، و«النهج الجديد فى علم التجويد»، فضلا عن كتب أخرى جمع فيها خبراته فى قراءة القرآن فى العديد من دول العالم مثل كتاب «رحلاتى فى الإسلام». عاصر القارئ الشيخ الحصرى 3 مراحل مختلفة فى الحياة السياسية المصرية بداية من عصر الملك فاروق الذى بدأ مسيرته مع قراءة القرآن فيه بعد إجازته من الإذاعة المصرية، ثم عصر ثورة يوليو وحكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وأخيرا عصر الرئيس الراحل أنور السادات الذى اتبع نهجا سياسيا واقتصاديا مغايرا لما عليه الحال مع سلفه، لكن القاسم المشترك فى العصور الثلاثة أن الشيخ الراحل نال الاحترام والتقدير فى كل منهم نتيجة انصرافه الكامل لرسالته كقارئ لكتاب الله دون اهتمام بالسياسة وتقلباتها، ويروى فى هذا المجال موقفا تعرض له مع الرئيس السادات وزوجته السيدة جيهان حين ذهب الى منزله ليطلب منه تخفيض الضرائب على مقرئى القرآن فالتقته السيدة جيهان السادات وطلبت منه الموافقة على احتراف ابنته إفراج «التى اشتهرت باسم ياسمين الخيام» الغناء، لكنه رفض بشكل قاطع، رغم عدم اعتراض مشايخ آخرين على اتجاه ياسمين للغناء طالما أنها لا تقدم او تظهر ما يبعث على الفتنة، ومنهم الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الأزهر الراحل.
مشوار الحصرى مع قراءة القرآن يحفل بالعديد من المحطات المضيئة منها انتخابه رئيسا لاتحاد قراء العالم الإسلامى فى عام 1968، وتعيينه شيخا لعموم المقارئ المصرية فى عام 1961، لكن من بين أبرز المحطات انفراد الشيخ الراحل بعدد من الأوليات منها إنه كان أول من سجل المصحف المرتل فى أنحاء العالم برواية حفص عن عاصم فى عام 1961، وأول من سجل المصحف المرتل فى أنحاء العالم برواية ورش عن نافع فى عام 1964، وأول من سجل المصحف المرتل فى أنحاء العالم برواية قالون، ورواية الدورى عن أبى عمرو البصرى فى عام 1968، فضلا عن كونه أول من سجل المصحف المعلم فى أنحاء العالم «طريقة التعليم» فى عام 1969، وأخيرا كان أول من سجل المصحف المفسر «مصحف الوعظ» فى عام 1974، كما كان أول من رتل القرآن الكريم فى الأمم المتحدة أثناء زيارته لها بناء على طلب جميع الوفود العربية والإسلامية، وأول من رتل القرآن فى القاعة الملكية وقاعة هيوارت المطلة على نهر التايمز فى لندن.
رابط دائم: