-
سر النصر.. تطبيق مفهوم قوى الدولة الشاملة
تحل علينا ذكرى العاشر من رمضان فى كل عام ليحتفل جموع المصريين بالنصر العظيم الذى سجلته العسكرية المصرية بحروف من نور فى تاريخ مصر الذى اضاء بحلاوة النصر الذى حققته القوات المسلحة
فى هذا الاطار نلقى الضوء على أبرز الدروس المستفادة من هذه الحرب العظيمة، و كيف استفادت مصر من هزيمتها فى ٦٧ واستخدمت قوى الدولة الشاملة التى تعد كلمة السر فى تحقيق النصر العظيم.
فى البداية يقول اللواء الدكتور محمد الغباري، المدير الاسبق لكلية الدفاع الوطنى بأكاديمية ناصر العسكرية العليا، إن القيادة السياسية المصرية استفادت من دروس نكسة يونيو 67 واستعادت قوى الدولة الشاملة ووظفتها لتحقيق نصر العاشر من رمضان واستعادة الجزء الذى أحتل من أراضيها من خلال تبنى إستراتيجية قومية لمعالجة آثار الهزيمة والتخطيط والإعداد لحرب تحرير الأرض المحتلة .
وأضاف أن تطبيق مفاهيم الإستراتيجية والأمن القومى والتخطيط المبنى على استغلال قوى الدولة الشاملة المتمثلة فى الكتلة الحيوية والقدرات الاقتصادية والعسكرية والسياسات الخارجية والداخلية والاجتماعية والبشرية والاهتمام بالجبهة، واعتماد مبدأ إعداد الدولة لحرب أكتوبر 73 ومواجهة العدو، بمشاركة الشعب بمختلف طوائفه وأجهزة ومؤسسات عديدة، وإنفاق المال والجهد، واستخدام كل الإمكانات المتاحة، والطاقات الممكنة، الفعالة والكامنة فى جميع أبعاد قوى الدولة المادية والمعنوية، كان له الأثر الكبير فى تحقيق النصر وتحرير الأرض.
وأوضح أن عملية الإعداد لحرب العاشر من رمضان شملت ستة محاور، هى: الإعداد السياسى، وبناء الاقتصاد الوطنى، وإعداد القوات المسلحة، وتجهيز أرض الدولة كمسرح للعمليات، وتهيئة الشعب لقرار الحرب، ونشر الوعى الشعبى لدى المصريين قبل الحرب من خلال مناهج التعليم فى المدارس والجامعات، لافتا إلى أن الأزهر والكنيسة الأرثوذكسية قدما دورا وطنيا مهما فى تعبئة الشعب ورفع روحهم المعنوية، وأيضا استخدمت الدولة وسائل الإعلام والتليفزيون فى بث الروح الوطنية من خلال الأناشيد والأغانى الوطنية.
وأردف أن التخطيط الإستراتيجى لحرب العاشر من رمضان بدأ بتحديد الهدف الذى أعلنه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهو: «أن ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة» وان مصر لا تعترف بالهزيمة التى تؤدى إلى الاستسلام، كما تريد الدولة الصهيونية والبلدان الداعمة لها، وأن نعمل جميعا بكل إصرار على أن حرب يونيو معركة من معارك الصراع العربى الإسرائيلى، وأن الحرب بمفهومها الشامل مازالت قائمة، وذلك لتدعيم العسكرية للقوات المسلحة بأفرعها الرئيسية المختلفة وفى مجالاتها كافة ايضا مثل التدريب والتسليح وما يلزم ذلك من اجراءات تنفيذية.
إدارة الأزمة
وأوضح أن القيادة السياسية نجحت منذ هزيمة يونيو 67 حتى تحقيق نصر أكتوبر 73 فى إدارة الأزمة بأسلوب علمى حديث فى اتخاذ القرارات الإستراتيجية الهامة وتفعيل دور المؤسسات والمجالس التشريعية والتنفيذية للدعم والموافقة بعد الدراسة المستفيضة لعوامل القوة والضعف وإنشاء مجلس الدفاع الوطنى الذى وضع السياسة العسكرية لمصر ووافق على التخطيط الإستراتيجى للقيادة العامة للقوات المسلحة فى الإعداد والتحضير لحرب التحرير، واتباع احدث ما وصلت إليه العلوم الإستراتيجية، وذلك بإنشاء آليات جديدة لاتخاذ قرار الحرب وهى إصدار قرار جمهورى بقانون رقم4/1968 بشأن القيادة والسيطرة وسلطات رئيس الجمهورية – وزير الدفاع – رئيس أركان حرب القوات المسلحة – إنشاء مجلس الدفاع الوطنى - وإنشاء مجلس أعلى للقوات المسلحة، وإصدار قرار جمهورى رقم 86/86 بتحديد اختصاصات مجلس الدفاع الوطنى وإصدار القرار الجمهورى رقم 128/68 وتعديله رقم 446/70 بتشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
ويلخص الدكتور الغباري، ملامح التخطيط الإستراتيجى ومحاوره من خلال أهم عناصر قوى الدولة الشاملة وما يناظرها فى مجالات الأمن القومى والتى تشمل: السياسة الخارجية والمسرح السياسى العربى والاقليمى والدولى، وبناء القدرة العسكرية وإعادة تنظيم القوات المسلحة وتطوير التدريب القتالى، وبناء القدرة الاقتصادية بمفهوم «اقتصاد الحرب» وتعبئة جميع موارد الدولة ومنتجات المصانع لاستيفاء احتياجات القوات المسلحة أولا.
وأضاف أن القيادة السياسية بدأت إعداد وتهيئة الشعب المصرى للحرب من خلال إصدار القوانين المنظمة للعلاقة بين الشعب والقوات المسلحة والدولة، مثل إصدار قوانين التجنيد وتعديل شروطه والتعبئة العامة للأفراد والمعدات والمنشآت، و المدنيين كالأطباء والممرضين والمهندسين فى بعض التخصصات، فضلا عن وضع سيارات النقل والأتوبيسات العامة ضمن خطة التعبئة الشعبية، وعلى سبيل المثال كانت معدات شركة المقاولون العرب تستخدم فى نقل معدات الحرب إلى مسرح العمليات.
إعداد المسرح السياسى
ويضيف أن القيادة السياسية وفى اطار المخطط الإستراتيجى لحرب أكتوبر عملت على تهيئة المسرح السياسى فى أثناء فترة الإعداد للحرب بإزالة الخلافات العربية العربية بعقد مؤتمر الخرطوم والذى جاءت قراراته مدعمة لمصر (عودة قواتها من اليمن - الدعم المالى عوضا عن غلق قناة السويس)، وعلى المستوى الدولي، تمثلت التحركات المصرية فى صدور القرار رقم 242 عن مجلس الأمن، وكان لتلك التحركات السياسية الخارجية تأثير مباشر فى تطور العمل الوطنى والقومى فى المراحل التالية من الصراع، على اساس رفض تبعات الهزيمة العسكرية واعتبار ما حدث هو نتيجة جولة من جولات الحرب وليست نهايتها والعمل السياسى لكسب الوقت دون الوصول الى حل كغطاء حتى يتم إعادة واستكمال القدرة العسكرية المصرية لتكون داعمة فى الوصول لحل المشكلة، وإقناع الرأى العام العالمى بأننا لا نريد الحرب من أجل الحرب وانما من أجل استعادة الأرض المغتصبة بالقوة وتحقيق أهداف الشعب الفلسطينى، استطاع الرئيس الراحل أنور السادات أن يوحد القوى العربية فى تحالف واحد قوى والتنسيق معه على تنفيذ الحرب واستعادة الأرض، وتجلت تحركات السادات ووزير الخارجية عصمت عبدالمجيد، فى الأمم المتحدة وكواليسها للتغطية على استعدادات مصر للحرب بما دعم خطة الخداع الإستراتيجى لمصر.
بناء وتنظيم القوات المسلحة
ويضيف : عندما توقفت الحرب فى 10 يونيو من عام 1967 بدأت مصر فى تعديل أوضاعها ووضع الأسس والمبادئ السياسية والعسكرية السليمة لإعادة تنظيم وبناء القوات المسلحة على أسس علمية، وسارعت على امتداد الجبهة بتنظيم الدفاعات بما تيسر لها من قوات وإمكانيات متوافرة، وقامت القيادة العامة للقوات المسلحة بإعادة التنظيم على مستوى الوحدات الفرعية والتشكيلات، وإلغاء قيادة المنطقة الشرقية وتشكيل قيادتين تعبويتين جديدتين، هما الجيش الثانى الميدانى والجيش الثالث الميدانى لكل منهما التجميع القتالى المناسب لتنفيذ المهام المحددة، سواء كانت الدفاعية او الهجومية مع توفير الدعم اللازم تحت قيادة كل منهما وفى نطاق مسئوليتهما، كما اضيف إلى ذلك تشكيل أربع مناطق عسكرية اقليمية هى المركزية والشمالية والغربية والجنوبية .
وعلى المستوى الإستراتيجى تم تشكيل فرع رئيسى من أفرع القوات المسلحة وهو قيادة قوات الدفاع الجوى بقيادة مستقلة، بعد أن كانت تتبع إدارة المدفعية تنظيميا والقوات الجوية فى إدارة أعمال القتال وهى مسئولة عن الدفاع الجوى عن الدولة والتشكيلات البرية، كما تم تشكيل قيادة قوات الدفاع الشعبى التى تتولى الحماية المدنية للأهداف الحيوية بالمحافظات بالتعاون من الشرطة المدنية، بالإضافة إلى وحدات فنية وإدارية وطبية على مستوى القيادة العامة لدعم أعمال الجيوش والمناطق العسكرية فى أثناء الإعداد للحرب أو خلال العمليات الحربية، وكذلك إنشاء وتوسع المنشآت التعليمية والتدريبية لاستيعاب حجم وتخصصات المجندين الجدد طبقا لمتطلبات الإدارات المختلفة وميادين التدريب المركزية اللازمة، فضلا عن تطوير التدريب القتالى للقوات باختلاف تخصصاتهم واتخذت مبدأين مهمين هما التدريب على كل ما هو ضرورى للحرب، وكذلك التدريب على مسارح مشابهة لمسرح العمليات، مما استدعى إنشاء مناطق للتدريب على ضفتى النيل والترع وسواتر ترابية ونقط قتال مماثلة لخط برليف وطرق الاقتراب إليها وتدريب القوات على عبورها، كما احتفظت القوات المسلحة بالقوة الرئيسية من المجندين دون تسريحهم بعد انتهاء فترة تجنيدهم حتى إن بعضهم استمروا 7 سنوات بالقوات المسلحة.
واضاف أن القوات المسلحة استعدت للحرب بإعداد أراضى الدولة كمسرح لعمليات حرب العاشر من رمضان – من خلال إنشاء الطرق اللازمة لتحرك القوات وقد اشتركت كل قطاعات الدولة المدنية والعسكرية فى إنشاء هذه الطرق، وكان يعلن وقتها عن إنشاء شبكة الطرق طبقا للخطة الخمسية لوزارة النقل والمواصلات، فقد أقيمت شبكة طرق كبيرة ومدقات لخدمة المناطق الجبلية بالضفة الغربية لقناة السويس، كما تم إنشاء شبكات كبارى صنعت خصيصا لتتحمل عبور المعدات الثقيلة مثل الدبابات والمدرعات وناقلات المعدات الحربية، وكذلك كبارى حديدية مؤقتة لهذه المهمة وإنشاء التحصينات على أرض المعركة وزرع الألغام اللازمة لتأمين مسرح العمليات من العدو، وإنشاء مطارات عسكرية جديدة قريبة من الضفة الشرقية للقناة وتحصينها بـ «الدشم» وإقامة شبكات المواصلات السلكية واللاسلكية وخطوط الإمداد بالوقود والمياه فى مسرح العمليات لتسهيل عملية العبور للضفة الشرقية، وإنشاء الملاجئ للمدنيين فى المدن والقرى لحمايتهم من تأثير نيران العدو حول الأهداف الحيوية التى قد يستهدفها طيران العدو فى تلك المناطق.
روح أكتوبر
ويختتم اللواء الغبارى حديثه عن مصطلح «روح اكتوبر» الذى ظهر بعد تحقيق النصر العظيم واستخدم فى الكلمات الاحتفاليات والخطب السياسية وووسائل الإعلام والمقالات الصحفية تعبيرا عن ضرورة استلهام روح أكتوبر أى المنهج العلمى الذى بنى عليه الفكر الإستراتيجى للإعداد والتحضير للحرب، والذى أدى إلى النجاح لتنفيذه فى حياتنا ومجالاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا المصطلح فى الحقيقة كان مجرد كلام فقط ولم يدخل حيز التنفيذ منه شىء إلى أن جاءت ثورة يونيو 2013 وتولى الرئيس عبد الفتاح السيسى السلطة عام 2014 ووضع التخطيط الإستراتيجى والأسلوب العلمى فى الإدارة، وظهر ذلك فى الرؤية الإستراتيجية لمصر 2030، وبذلك يكون هو أول من وضع مصطلح «روح أكتوبر» موضع التنفيذ وظهر النجاح الباهر الذى يتحقق على أرض مصر.
رابط دائم: