-
فؤاد حداد حلم أن يحرر العالم وهو صغير فأصبح شاعرا
-
ولد ليكون شاعرًا وعرف ذلك عن نفسه من صغره فوهب حياته لشعره
-
كان مفتونا بشعر العرب القديم ويحفظ الكثير منه ومتعة أن تسمع شعر المتنبى أو امرئ القيس أو شوقى بصوت وإيقاع فؤاد حداد
-
كتبت النثر لأول مرة فى ديوانى «بدل فاقد» ولم أتخل عن القافية تماما ولم ألتزم بالبعد عن التشبيهات والمحسنات
-
«المسحراتى» العمل الأشهر لوالدى كتبه للإذاعة أواخر «1964» بترشيح من صديقه صلاح جاهين
رأيته لأول مرة على شاشة التليفزيون عام 1987 تقريبا شاب نحيل، يلبس قميصا أبيض، منسدلا خارج البنطلون، ويغالب ربكة مواجهة الجمهور، يكاد يذوب لفرط الحياء. فخايلنى خاطر بأن الخجل سيُعجزه عن الكلام وفجأة أطلق الشعر لسانه. فتقدمت عذوبة الأبيات والإلقاء، وتوارى خلفها الحياء، كأن المعانى منحته قوة مضاعفة، فاشتد عوده، حتى اعتاد الجمهور، ونَسِيَهْ.
وجدتنى أمام شاعر كبير، أقنعنى بتجاوز الظاهر إلى بهاء المضامين.
لم أُضيّعُه من وقتها. تابعت أخباره وأشعاره عبر سنوات، واقتنيت دواوينه. وحين تصادفنا، وعرفته عن قرب بدا الحياء جزءا من روحه. وقيمة مضافة لتحليقاته الواثقة الباهرة. وأدركت أن الصدق والرهافة صنوان.
نهل من نبع أبيه الصافى، والد الشاعر «فؤاد حداد»، حتى ارتوى وتاهى بأشعاره، ووقف أمام فيوضه الإبداعية بإجلال. واستمتع بتجلياته المتجددة، وحنوه الضافى. لكنه لم يقلده أبدا منذ بداياته، فسهل عليه استخلاص صوته الشعرى، وعمل على بلورته وترسيخه، محفوفاً بقَدَرِ أبناء المبدعين الكبار، فإن تشابه معه لامه بعضهم، وإذا تفادى أثره لامه آخرون. وبقدر عشقه لشعره، حلّق مستقلاً بموازاته!
فمن يريد الاستمتاع بجماليات «فؤاد حداد» والتعرف على كنوزه، فليستمع إلى «أمين حداد» ومن يسعده حظّه بالطواف على إبداع الابن الأمين، سيجد نفسه إزاء تجليات دافقة مُتفرِّدة.
فإذا مدّ بصره قليلا إلى الحفيد «أحمد أمين حداد» سيرى الشجرة العملاقة كاملة، كثيفة الفروع، غزيرة الثمار، وارفة الظلال.
أودّ أن تفسر لنا الأعجوبة الإبداعية للعظيم فؤاد حداد؟ غزير الإنتاج عظيم الإنتاج؟ وكيف أمكن له الحفاظ على هذا العطاء بحماس متصل رغم الاعتقالات، ومتاعب الحياة والمعايش، وكبر سنّه وضعضعة صحته. ورغم هذا كله بدا عِدّة أشجار على جذع واحد، دائمة الإثمار! والأعجب أن أغلب دواوينه طبعت بعد رحيله! كأنه لم يطمح لأكثر من أسرة آمنة، وإبداع الشعر؟
فؤاد حداد ولد ليكون شاعرًا. وعرف ذلك عن نفسه من صغره فوهب حياته لشعره. هبة من الله سبحانه وتعالى شكره عليها وصانها وأصقلها بالمعرفة وصيانة الروح من أى شوائب تُعيقه عن الدهشة أو تعطل انطلاقاته وفتوحاته. يفعل كل ذلك ببساطة وكأنه جزء من الطبيعة حولنا:
الشمس صنعتها تشمّس
والقلب صنعته يتحمّس
والآه لا صنعة ولا مجهود
باغنِّى زى ما باتنفّس
كان دائم الاطلاع على كل ما تصل إليه يده من الشعر والتراث العربى، من الجاهلية إلى عصره، وكان يقرأ التراث العالمى من خلال الفرنسية التى يجيدها كأنها لغته.
الشعر كان وسيلته للمقاومة وصنع الأمل لنفسه وللآخرين. لكنه لم يكن عزوفًا عن النشر والتواصل مع الشعب بل كان يتمنى ذلك دائمًا ويقول «خلّوا بينى وبين الناس». لكنه أُجبر على ذلك. أجبرته المعتقلات وتدافع البعض، والتغيرات السياسية الكبرى وضيق العيش. لكنه ظل مؤمنا بنفسه.
عند خروجه من الاعتقال الثانى 1964 «كان عمره 37 عامًا وله من الأشعار ما يملأ خمسة دواوين» لم يكن نشر وقتها غير كُتيّبَين من الشعر لا يزيد عدد قصائدهما على عشرين قصيدة ولم تكن له أى أغان مُذاعة، ويكاد لا يعرفه الوسط الثقافى، وهو الرائد المعلم والمؤسس لما يسمى شعر العامية. وكانت حركة النقد وقتها ترسم خريطة الثقافة والإبداع فى مصر دون ذكر لفؤاد حداد إلا قليلًا. وعند وفاته كان أكثر من نصف شعره لم ينشر.
معجزة فؤاد حداد الحقيقية هى أنه انتصر لنفسه ولشعره وحده دون مساعدة مؤسسة أو حزب، والدليل أنه منذ وفاته عام 1985 ومحبة الناس له تزيد يومًا بعد يوم.
كنت حالف تحت عين الله
إنى آخد حقى من موتي
وما منابع ثقافته الشعبية والتراثية الواسعة لديه، والمفردات التى لم يسبقه إليها أحد، المكونة من الزخم الصوفى، وآهات الحضرة، واللقطات الإنسانية من حوارى القاهرة، وأطياف القرى التى لم يعش فيها واكتسب ثقافة أهلها بتلك البساطة، من فقراء، وموالدية، وأرزقية سرِّيحة، وصنايعية، هل كان شغفه الخاص، وذهنيته اللاقطة، أم كان الأمر أوسع من هذا؟
كان مفتونا بشعر العرب القديم. ويحفظ الكثير منه من مختلف العصور. ومتعة ما بعدها متعة أن تسمع شعر المتنبى أو امرئ القيس أو شوقى بصوت وإيقاع فؤاد حداد
شعر العرب فتنِّي
أشكر فضل الإله
وكان يقول لابد أن نشعر بالفخر عندما نجد فى تراثنا واحدًا مثل «أبو العلاء المعرى» والذى ظهر فى شعره مرارًا. كما فُتن بشعراء المقاومة الفرنسيين مثل أراجون وإيلوار. بجانب قراءاته المتشعبة فى مختلف المجالات بالعربية والفرنسية والإنجليزية وحافظ على طقس القراءة إلى آخر عمره. وفى شبابه كانت له جولات فى القاهرة القديمة، وكان يسهر فى الأزهر مع محبى الشعر والأدب ويتبادلون إلقاء الأشعار. ومنذ شبابه عاش فى أحياء شعبية مثل الحلمية الجديدة والإمام الشافعى. وحبه العظيم لبيرم التونسى جعله يطالعه بشغف ويردد أشعاره ومواويله وأغانيه وقصصه الزجلية بعاميته الفصيحة وبعينه الثاقبة الملتقطة لتفاصيل الحياة. ويقول فؤاد حداد على لسان بيرم:
أنا أصلى فصيح العامية
من عامنول إلى عام مِيّة
ومن أهم مصادر التراث الشعبى لفؤاد حداد كان المعتقل فلمدة 8 سنوات تعامل مع زملاء من النوبة والصعيد والدلتا والمنزلة والقناة والاسكندرية. 8 سنوات يتكلمون ويتناقشون ويغنون ويحكون ويبكُون سويّاً. عمال وفلاحون وشعراء وأدباء وأساتذة جامعات.
والشكر للِّى سجنُونى
وبطين وطميّ وعجنُونى
وكان طوال الوقت سمحا مع أبطال قصائده من البسطاء، كسماحة نجيب محفوظ مع أبطاله من الخطّائين. وفى سياق شخصى موجع سامح «عبدالناصر» الذى اعتقله مرتين، وخصم سنوات غالية من زهرة عمره، وحرمه أسرته وأولاده؟ فمن أى مِسكٍّ ونديَ تشكّلت روحه الصافية؟ هل هى الجينات والنشأة؟ أم مستوى فكرى وموضوعي؟ أم هذا وذاك؟
قال لنا مرات وبصيغ مختلفة، إنه حين كان صغيرًا حزن لما اكتشف أن هناك فوارق بين البشر وهناك ظلم للفقراء، وقال سوف أحرر العالم بالسيف، وأدرك بعد ذلك أنه لن يقدر فقرر أن يكون شاعرًا. ما يعنى أن انحيازه للفقراء فى تكوينه الفطرى، خلقه الله هكذا، فكان من الطبيعى أن يحبهم ويكتب عن المعايش والصنايعية والفلاحين بمحبة جارفة ويُجلّ الشهداء كل هذا الإجلال. ولذلك رأى أن عبدالناصر بانحيازه للفقراء من الشعب، وتصدِّيه للاستعمار فرصة تاريخية لمصر وللعرب. حتى لو أصابه شخصيًا هو وأصدقاءه وعائلاتهم بذلك الظلم. وفى أشعاره الأخيرة ظهرت بعض الانتقادات لعبدالناصر وللمعتقل، وحزنه الشديد لما حدث له، ولموت زملائه فى التعذيب مثل «فريد حداد» و«شهدى عطية». لكن هذا لا ينفى أنه كان مؤيدًا لعبدالناصر فى العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطنى.
كل تلك الخصال والانحيازات والثقافات لا تصنع بالضرورة شاعرًا عظيمًا. لكنها العبقرية التى حباه بها ربه هى التى جعلت منه هذا الشاعر الفذ. إضافة إلى التاريخ الذى عاشه أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، والثورة المصرية وستة وخمسين وسبعة وستين وثلاثة وسبعين واثنين وثمانين، والجغرافيا التى وضعته فى قلب الأحداث العظمى بين مصر والشام. وبالطبع العبقرية المتمثلة فى الشعب المصرى:
والعبقريين اللى غنُّوا المطلع
لا ينقطع منهم حنين الرُضّع
ولا ينقطع من بزّ مصر اللبن
أعود إلى شعره كل حين وأقف مشدوهًا أمام طموحه الشعرى الذى بلا سقف وأمام جمال النصوص وتنوعها وبلاغتها وسفرها فى الزمن:
ألفين سنة ويفضل كلامى جميل
ومن أين له ذلك الصبر على ضيق الحال، برحابة وطيب خاطر، والاشتغال بالترجمة كمصدر رزق؟ وعدم المراهنة على الشعر كمصادر للدخل. فأى عزيمة تلك التى ربَّت ثلاثة أبناء على هذا القدر من الجمال؟ بجانب دور الأم العظيمة أجمل أنصبته فى الحياة، وظهيره الاجتماعى الحميم والقوى ولكم طوال عمرها. كيف ترى كل هذا؟
عمل بالترجمة مجبرًا. لم يكن يحب الترجمة وخصوصًا حين عمل فى وكالة أنباء الشرق الأوسط وأخذ ورديات ليلية ليترجم الأخبار، وصوت ماكينات «التيكرز» لا ينقطع، وكان يزعجه ووصفه لى ذات مرة بقوله: «..الثوانى الفاصلة بين انقطاع التيار الكهربائى وتشغيل المولدات كانت بالنسبة لى ثوانى من الجنة». وكانت «فلوس الشعر القليلة» هى الأجمل بالنسبة له. ستمائة جنيه من 30 حلقة مسحراتى تشترى ثلاجة وتنعش البيت لشهور قليلة. وهذا حدث لمرات قليلة.
فى السبعينيات من القرن الفائت مُنِع فؤاد حداد «بغير قرار» من الإذاعة. كان يتمنى أن يكتب الشعر فقط، ويجنى منه ما يكفى زوجته وأولاده، لكنه لم يستطع. فاتجه للترجمة فى وكالة أنباء الشرق الأوسط ومنظمة التضامن الأسيوى الأفريقى ومجلة الطليعة. يترجم مقالات بالقطعة. وكان حزينًا لذلك. وانتهى به الأمر للإصابة باكتئاب ودوخة ثم جلطة بالقلب. وقرر أن يعود لشعره فكتب ما يقرب من نصف شعره فى آخر 5 سنوات من عمره. وكانت بداية عصر مبارك أخفّ حدة وثقلًا عليه. ومن المؤكد أن والدتى المُحبّة والصابرة والمؤمنة به وبشعره والعارفة جيدًا معنى دورها تجاهه وتجاه أولادها ساعدت كثيرًا فى اختياراته طوال حياته. رحمهما الله.

الرحيمى يحاور حداد
لدى سؤال شغلنى طوال الوقت عن هذا الحياء الذى ظهر على ملامحه بوضوح فى اللقاء التليفزيونى، فحين يتحدث لا ينظر فى عينيّ أحد؟ كأنه لم يكن يحب الظهور، ويميل للعزلة. وهو ما يبدو عليك أيضا، فهل هو مُكوّن إنسانى متكرر فى أسرتكم عبر الآباء والأجداد؟ أم ترفع عمّا يتكالب عليه الآخرون؟ وظل الشعر مكمن قوتكما الحقيقية؟
من دواوينه الأخيرة جدًا ديوان اسمه «ريان يا فجل» وبعنوان فرعى «مائة شجن وشجن فى الردّ على سؤال واحدٍ وكثير مُهَذّبٍ ومثير لا أقول ولكن يقال: إنك عزوفٌ خجول». لم يكن خجولًا. لكن اللقاء التليفزيونى المنتشر على النت تزامن مع إصابته بالدوخة، وذهب إليه مجبرًا تحت ضغط من صديقه «صلاح جاهين» والأستاذ «طارق حبيب» وضغط منّا. كان يريد أن تراه الأجيال القادمة فى حالته الطبيعية المبتهجة والمصهللة، فظهر بهذا الخجل لأنه يحب ألا يكون الشاعر المنكسر. كان لا يريد الكلام فاكتفى بإلقاء قصيدة «محمد عبيد». وقد رافقته إلى الاستوديو الذى سُجّل فيه اللقاء فلم يكن يستطيع المشى وحده فى الشارع. وبعدها بسنتين أصابته جلطة القلب، ثم عاد بنهم إلى الشعر وعاش انطلاقته الأخيرة وردت إليه الروح رغم وهن جسده. وانظر يا أسامة إلى عينيه الثاقبتين والنافذتين لعيون المشاهدين وقلوبهم فى أمسية الحمل الفلسطينى التى أقامها قبل موته بشهور قليلة. وهو يقول: «مطلوب قليل من التواضع والكثير من الصهللة». نعم فؤاد حداد لم يكن متكالبًا، وهو القائل على لسان الكلب فى رقصته المدهشة:
قالوا التكالب نهم
أنا ما فهمتش آه
غير الآهات والنغم
كان قادرًا على الاستغناء واستطاع فعل ذلك ببساطة مليئة بالمشقة والعناء.
شهر رمضان الذى نشهده ارتبط فى أذهان جيلنا بمسحراتى فؤاد حداد، وسمعنا حلقاتها بصوت الشيخ «سيد مكاوى»، لم نعرف تفاصيلها ولا ظروف كتابتها، فما ذكرياتك عنها؟
المسحراتى العمل الأشهر لفؤاد حداد. كتبها للإذاعة أواخر 1964 وقُدمت فى رمضان يناير 1965. ثلاثون حلقة بمقدمة ووسط ونهاية واحدة تتخللها قصيدة وموال مختلفان. كتبها بترشيح من صديقه «صلاح چاهين» ولحنها وغنّاها الشيخ «سيد مكاوى». ثم كتب ثلاثين حلقة أخرى بعد النكسة تمت إذاعتها فى 1968 ونشرت بالتزامن فى جريدة الأهرام، وقال لى الدكتور «عماد أبو غازى» إن والده الدكتور «بدر الدين أبو غازى» جمع أسرته ليقرأ لهم حلقة «الاستمارة» من الجريدة يوم نشرها. ثم كتب فؤاد حداد ثلاث حلقات وقت وفاة جمال عبدالناصر، و15 حلقة بعد نصر أكتوبر 1973 أذيعت فى 1974، ثم 15 حلقة أخرى على مر السنوات التالية. ولمّا تم إنتاجها فى التليفزيون عام 1983 رفض كتابة حلقات جديدة، وتم استخدام الحلقات القديمة وبعض قصائد أخرى لم تكن مكتوبة أصلا للمسحراتى.
أظنُّك مثل صديقك وصهرك الشاعر «بهاء جاهين»، لا تتململ من الاتصال بإبداع «والد الشعرا» فؤاد حداد. فوالداكما مصدر فخر متجدد، حتى لعموم الناس. فمتى وعيت على أشعاره؟
سمعت قصائد أبى لأول مرة حين خرج من المعتقل 1964 وعمرى أقل من 6 سنوات وأخى سليم 7 سنوات. قرأ لنا الرقصات مثل رقصة الدب، والحمار الحزين، والثعبان والنملة، والديك، ومارش الدبان، وتعليقة البغبغان، وطقطوقة فرقع لوز، وأنا عندى طاقية شقية شقية، وعلى عكازين. كانت القصائد وكلامها بابًا يفتح على دنيا جديدة ساحرة. ثم سمعته يقول حدوتة «الشاطر حسن» التى كتبها فى المعتقل مع الشاعر «متولى عبداللطيف». ثم سمعت المسحراتى فى الإذاعة. وتسللت قصائده داخلى بعوالمها الفسيحة. ثم درج هو على قراءة كل ما يكتبه لنا «أمى وإخوتى وأنا». وظلت هذه العادة بيننا حتى وفاته عام 1985.
فمتى شعرت بتحققك شعريا، واكتمال خيالك بعيدا عن عالم أبيك ووجدانياته، ومتى قال لك: الله لأول مرة. وما تلك القصيدة؟
لم أقلد فؤاد حداد أبدًا منذ بداياتى. وكأنه كان قرارًا داخليًا منذ صغرى وعندما عرضت عليه ما أكتبه كان شعرى أشبه بما يكتبه الجيل الجديد مثل بهاء جاهين ومحمد كشيك ورجب الصاوى. لكن كان لى صوت ومزاج شعرى مغرم بتفاصيل الحياة اليومية والمفردات العادية. تعامل فؤاد حداد معى كما يتعامل مع شباب الشعراء ملتقطًا جماليات القصائد ومشيرًا لبعض الهنّات العروضية أو الألفاظ غير المريحة. وسمحت لنفسى أن أكتب على طريقته فى قصيدة «الأبجدية» بإيقاعه فى المسحراتى، وبنهجه فى اللعب بالحروف، وعرضت القصيدة عليه متوجسًا، وهالنى إعجابه وما قاله لى من مدح فى القصيدة أخجل أن أقوله الآن. وكانت تلك أول قصيدة أكتبها ويشهد لى بالشاعرية، وعنوانها «ياسمينة» ومنشورة فى ديوانى الأول «ريحة الحبايب»، قلت فيها:
أنادى عليكى وأتمرجح مع الصبيان
يا ياسمينة
يا روح مشنوقة فى جنينة
على الجدران
وباتكلّم مع الجدران
... باحبّك
باحبّك وانتى مكسوفة
باحبّك وانتى بتذاكري
باحبّك وانتى حيرانة
باحبّك لما تتاخري
وأعجبه جدا تعبير «تتاخرى». لكنى لم أكرر التجربة بعد ذلك عن قصد، وإن وجدته داخلًا فى بعض قصائدى بصوته. وعلى رأى صلاح چاهين: «من منّا ليست له أبيات تشبه شعر فؤاد حداد». وحرصت منذ بداياتى على الاختلاف الذى يبعدنى عن تقليده، أو أن أكتب قصائد تبدو نُسخا باهتة لقصائده. ولامنى البعض لأننى لا أشبهه، ولامنى غيرهم لأننى أشبهه. ولم ألتفت للومهم لأننى أخذت شهادات فؤاد حداد وصلاح چاهين والأبنودى ومحمد كشيك، وأعطونى ثقة فيما أكتبه.
قلت لى كلاما مهماً عن حرصك من البداية على تحديد صوتك الشعرى، وأن الصدق وعوامل أخرى أعانتك على العثور على دربك وأسلوبك. فهل كان الأمر سهلا فى ظل حضور فؤاد حداد الكبير، فكيف انسلّ خيطك الشعرى من نسيجه الإبداعى من دون معاناة؟ أم ليس فى الإبداع خطوطا فاصلة، وثمّة تماهى ولو طيفى يبقى بين العالمين الشعريين؟
أهم سبيلين لتحقيق هذا تنوع القراءة والاطلاع على أشعار من مدارس مختلفة فى العامية والفصحى، والتفاعل مع الفنون الأخرى مثل الموسيقى والفن التشكيلى واكتشفت بعد محاولات كثيرة أن الصدق فى الكتابة السبيل الأهم لتحقيق هذا. فالصدق بالضرورة يعطى الشاعر قاموسه وصوته الخاص. فحين أكتب مثلا:
والشمس على شط العجمي
مش عايزه تغيب
عمالة تزنّ
أفرد كفي
تنام عليه لحد ما تطفي
وأرجع لكم أبكى وأئن
على كومبيوتر إى بى إم
كل الجروح تفتح وتلم
هذه مفردات تخصّنى كمهندس، وتداعٍ يشبهنى. لكن فى البدايات تكون تأثيرات القراءات والحِيَل الفنّية التى تعلّمتها من الآخرين موجودة فى النصوص شئت أم أبيت، وبمرور الزمن والاجتهاد والصدق أصبح شعرى يشبهنى تماما. لم تكن رحلة سهلة، لكنى فى كل مرحلة كنت واعيا بما أفعله، وأنقد ما أكتبه.
وسعيت طوال الوقت لتقديم قاموسك المختلف، وربما ساعدتك ظروف التغير الهادرة بعد يناير 2011 على ذلك، فنحتَّ صورا ومفردات كثيرة، كلها من زمنك بالضرورة، ما ساعدك على تحديث مسارك الشعرى. فلأى مدى فعلت ذلك باطمئنان؟
قرأت مرة أن الفنان يجب ألا يستريح إلى المنطقة الدافئة، ويسجن نفسه فى شكل فنى واحد. وهكذا رأيت بيكاسو فى مراحله المختلفة وهكذا فعل نجيب محفوظ ومحمد عبدالوهاب وفؤاد حداد. لا يكاد الواحد منهم يدخل فى شكل فنى ويبدع فيه حتى يتركه ويدخل منطقة أخرى. ودون مقارنة مع هؤلاء العظماء، أحاول قدر استطاعتى أن أسلك طريقا مماثلا فى حدود طاقتى الفنية. وكنت قبل يناير 2011 أكتب شعرا غريب الشكل كما وصفته فى أحد قصائدى:
أنا باكتب شعر غريب الشكل
يشبه للأكل
يشبه لفطار المحتجزين فى القسم
يشبه للعيش والجبنة
واللكمات والركل
أى أننى كنت أُغيّر طريقة كتابتى وأغازل قصيدة النثر على استحياء، وكان قراء أشعارى أقل من الآن حيث لا أغانى أكتبها، ولا أنشر بانتظام فى الصحف المنتشرة فى ذلك الوقت. وعندما قامت الثورة ومشيت فى شوارع مصر مع شباب ينشد الحرية والتغيير وجدت شعرى يشبههم فكتبت أكثر وانتشرت بعض الأغانى التى نظمتها وسطهم. كان القاموس العام يتغير ودلالات الكلمات تتغير واكتسبت جرأة أكبر فى الكتابة وكان ديوان «الحرية من الشهداء»
أنا اللِّى باكتب شعر بالطباشير
وانتى فى ايدك بشاورة
لا حتمسحى من قلبى ثورة مصر
ولا تمسحى من قلب مصر الثورة
وكيف خطوت داخل قصيدة النثر بهذا الثبات، دونما خشية وقصيدة النثر فى العامية ما تزال حديثة، فهل تطلّب ذلك حذرا مضاعفا؟
تستهوينى منذ البدايات قصيدة النثر. ليس لأنها تخلت عن موسيقى الشعر. ولكن لأن لها موسيقى مختلفة. وهذه الموسيقى تسمح لى أن أتكلم بصوتى الحقيقى دون مؤثرات خارجية. وعندما كتبت بها أول مرة فى بعض قصائد ديوان «بدل فاقد» لم أتخل عن القافية تماما، ولم ألتزم بضرورة البعد عن التشبيهات والمحسنات. قررت أن أكون نفسى هكذا أتكلم وأرى الحياة من حولى. فلم أذهب للنثر لأتحرر من قيد الوزن وأسجن نفسى فى قيود جديدة. ولابد أن تقول حين تسمع قصيدتى هذا أمين حداد، كما تعرف قصيدة أمجد ريان، وقصيدة إبراهيم البجلاتى حين تسمعهما. وفى رأيى أن كتابة قصيدة النثر أصعب بكثير من الوزن، وعلى كاتبها أن يتعلم قبل أن يكتبها الكتابة بالوزن، وأن تكون معرفته باللغة ممتازة لأن الشاعر يجب أن يمتلك أدواته ثم ينوع إنتاجه كما يحلو له. وهذه بداية إحدى قصائدى التى تقف على عتبات النثر:
الأباجورة شمس الكومودينو
والسرير سفينة الأحلام
والمراية وحش بيبلع كلّ اللى بشوفه
والسقف أرض الجيران
والحيطة سجّان
وانت كأنك مش واخد بالك منها
وبتتعامل مع اللى ساكنينها
مع إن الحيطة هيَّ الحكاية
هيَّ الطوب اللى اتمرّد على شكله فى الأرض، واتقصّْ من قلب الجبل الأبيض، ومن الطمى الأحمر، للبنّا اللى بيضرب مونة وبيرُصّ
هل تشعر الآن بحماس التلقى لابداعك كما كان أيام فؤاد حداد وصلاح جاهين، أم اختلف الأمر. وإن اختلف. فهل يرجع ذلك للشعر نفسه أم للتغيرات العامة الكثيرة المربكة التى تحيط بنا؟
هناك اختلاف كبير فى رأيى من حيث التركيز ووضوح الصورة العامة للمشهد الشعرى للمتلقى.أى حركة تجديد فى الشعر كان يواكبها حركة نقدية ومناقشات ومعارك ثقافية على الملأ تجعل المتلقى فى قلب الحدث. أما الآن فهناك انفصال كبير بين محاولات التجديد عند بعض الشعراء والمتلقى العادى. ووسائل النشر اختلفت وتنوعت، وجاءت وسائل التواصل الاجتماعى على الإنترنت لتجعل لكل شاعر منبرا خاصا ينشر عليه ما يشاء وقتما يشاء وعدد الشعراء كثير جدا جدا، وغاب النقد والنقاد. فالمشهد عموما مزدحم ومشوّش تماما. ولا توجد خريطة ثقافية ولو أولية للشعر فى مصر والعالم العربى. وبالتالى فالمتلقى معذور فهو يرى ما يصله بالصدفة، إلا قِلّة تقرأ وتتعرف على الشعراء «القدماء والمحدثون» من الكتب.
-
تستهوينى منذ البدايات قصيدة النثر ليس لأنها تخلت عن موسيقى الشعر ولكن لأن لها موسيقى مختلفة تسمح لى أن أتكلم بصوتى الحقيقى دون مؤثرات خارجية

يمكنك متابعة نسخة الفيديو للحوار على صفحة «الأهرام» عبر QR المرفق
رابط دائم: