رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

دفتر أحوال رمضان.. أحمد بهجت يقضى 24 ساعة فى «السيدة» و«الحسين»..المصريون يشترون 8 آلاف كيلو مشمش.. وعبدالوهاب فى «مقهى المجاذيب»

يسرا الشرقاوى
ملتفون حول «الياميش».. مشهد لم ينقطع فى رمضان

هي قصة أثيرة وعتيقة، تلك القصة التي تجمع بين أسواق القاهرة وشوارعها، وبين ليالي شهر رمضان الكريم. وفي مستهل الموسم الأبهى من كل عام، توجب زيارة أسواق وشوارع «السيدة» و«الحسين». ولكنها زيارة مختلفة بعض الشيء. فالدليل فيها هو الكاتب الصحفي الكبير أحمد بهجت (1932- 2011). أما عن زمانها، ففي مثل هذه الأيام، ولكن قبل 64. وتحديدا، بعد أول يومين من بداية شهر رمضان، الموافق لبدايات مارس من عام 1959.

في هذا الشهر وذاك العام، خرجت «الأهرام» في 13 مارس 1959، رابع أيام رمضان للعام الهجري 1378 بتحقيق بديع أجراه الكاتب الكبير أحمد بهجت، وكان عنوانه « 24 ساعة في رمضان.. حي السيدة والحسين في أول يومين من رمضان». ولكنه لم يكن مثل أي تحقيق ولكنه أقرب إلى « صورة قلمية» منسوجة بعناية ورقة ودقة لأحوال أسواق مصر القديمة وشوارعها وأهلها طوال يوم كامل في بدايات رمضان.

 


عسكرى مصرى يمارس مهامه فى نهار رمضان - تصوير يوسف سلليمان حيالى

وبما يليق بأحمد بهجت، كانت بداية تحقيقه مبهجة، وكأنها دفعة واحدة من «روايح» رمضان، ودفعة واحدة أيضا من النقد اللاذع الذكى لأحوال أهل رمضان. فيبدأ: «سكر كتير فى الشهر الحلو.. ضعف استهلاك السكر العادى فى رمضان و8000 كيلو من المشمش و340 طنا من الزبيب ونصف مليون فانوس للأطفال و1500 رأس تذبح فى اليوم من الخراف والجاموس والماعز وأمام المقاهى قلل مليئة وحوادث السرقة تقل ورائحة البخور تحنو على التمتمات المؤمنة والناس يمسكون المسابح وعلى كل لسان كلمة رمضان كريم. وأحمد بهجت، المحرر بالأهرام يعيش 24 ساعة فى أحياء القاهرة وهى تستقبل أول يومين لها فى الشهر الكريم الذى يصوم فيه الناس ويأكلون ضعف ما تعودوا أن يأكلوا».

ثم تبدأ جولة أحمد بهجت فى أنحاء حى «السيدة»، واصفا كيف غافل «رمضان» الناس أو غافلتهم التوقعات بشأن «الذين قالوا إن رمضان سيجيء فى الشتاء، كانوا يتحدثون عن رمضان آخر. فشوارع المدينة حر». ويكتب:

الصبح:

«.. الميدان يمتليء بالناس والعربات وبائعى الكنافة والقطايف والمشمش والفوانيس، والفلاحين الذين جاءوا للست.. وباعة السجاير الذين يحسون بالذنب.. والميدان كله يخلو من سيجارة مشتعلة. إن أعصاب الناس ضعيفة لأنهم صائمون .. وأى سيجارة تشتعل ستشعل مشاجرة، قد تنتهى فى القسم. وقسم السيدة يعرف جيدا هذه الحقيقة كما يعرفها حكمدار القاهرة . الحقيقة التى تؤكد أن السرقات تقل والمشاجرات تكثر. خلال اليومين الأولين فى رمضان وقعت فى قسم السيدة وحده 20 خناقة..» ومن أحوال «الخناق» إلى أحوال البيع والشراء، يكمل بهجت فى سرد وقائع يومه الرمضانى، فيقول:

الساعة 2 ظهرا:

«انتهت قافلة التموين التى يرأسها الأميرالاى محمد عبدالله، رئيس مباحث وزارة التموين من الطواف على المحال ومراقبة الأسعار. بدأ الرسم البيانى يشير لارتفاع استهلاك المواد التموينية. السكر زاد استهلاكه بنسبة 50% فى رمضان الماضى، ارتفع استهلاك الخضار من 6964 رطلا إلى 8000، كان يذبح من اللحم 1200 رأس يوميا، فذبحت 1500 رأس.

استعد مهندسو البلدية لزيادة استهلاك الماء. إن القاهرة تستهلك فى الصيف ضعف ما تستهلكه فى الشتاء من الماء. وقد أقبل رمضان يحمل معه الصيف.


أحمد بهجت

استعدت إدارة الغاز والكهرباء للمساء الذى يقترب وتقترب معه الزيادة فى استهلاك الكهرباء. فى رمضان الماضى استهلكت القاهرة أكثر من مليون كيلووات زيادة عن الشهر الذى سبقه..» ثم يكمل بهجت يومه وسرده للقاريء، فيكتب:

الساعة 3٫5 ظهرا:

«فرغ الناس من صلاة العصر، جلسوا فى المساجد، بدأت تلاوة القرآن الكريم. كل كلمة تولد من فم القاريء فيها ضياء شمعة لا تنطفى. الأيدى تمشى بالدعاء وتمسح الوجوه. الإحساس بالجوع يضعف فى النفوس إحساسها بالذنب. رائحة البخور حلوة. الوقت يتقدم. أحذية الناس تأخذ طريقها خارج المسجد فتدوس على الطريق وتذوب فى ترابه وهى فى طريقها لتأكل لقمة العيش بعد أن صنعتها بالعرق طيلة النهار..»

ويقترب أحمد بهجت أكثر فأكثر من أحدهم الذى أجاد فى صناعة «لقمة عيشه» بالعرق والكد طوال نهار رمضان، فيكتب: « وعسكرى الدورية محمد عبدالله يتسلم عمله فى ميدان الحسين، والميدان يموج بالناس والصدقات والشحاذين والمؤمنين والمصلين وبائعى الموز والعربات والمجاذيب والطلبة»

«سرب من الخادمات الصغيرات يضرب حصارا حول حسنى إسماعيل محمود، بائع الطرشى البلدى، وحسنى يبيع ويبتسم، الحالة فى رمضان رضا، فالشهر كريم وهو قد استعد له بتخليل اللفت والجزر والفلفل والخيار والليمون. أشياء تفتح شهية الصائمين ولا تخلو منها مائدة فى رمضان.. فلم يكن وحده هو الذى استعد. على الرصيف المقابل له يقف الحاج أبو العلا عبدالرحمن وأمامه 40 طبقا من قمر الدين المطبوخ تنتظر مدفع الإفطار. وكل واحد ينتظر مدفع الإفطار، الإذاعة انتهت من الحديث الدينى وبدأت تلاوة القرآن الذى يسبق المدفع. وشوارع القاهرة ينسحب منها الناس والعربات وتهمد الحركة وتتهيأ المواصلات والشوارع لإغفاءة...» ويكمل أستاذنا تدوين دقائق يومه الفريد، فيكتب:

الساعة 6 إلا عشرا:

المدينة تبدو مهجورة، المآذن تضاء، الأطفال لا يقربون الطعام حتى يأكلوا مع الصائمين. المفطرون وصلوا بيوتهم وجلسوا ينتظرون المدفع وهم يتحدثون عن قسوة الصوم وكيف يحتملونه صابرين لأن الله تعالى قال: ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لى وأنا أجزى به).

ويضرب المدفع وينزوى عسكرى الدورية محمد عبدالله فى ركن بميدان الحسين ليأكل. فأمامه نصف ساعة يستريح فيها من الأمن. وكل واحد فى الميدان يأكل. فرغل عبدالعال دفع أمامه عربة العيش والمش ووصل أخيرا إلى الحسين بعد أن تناقص عدد الأرغفة من مائة إلى 15.

- رمضان كريم

- اتفضل

- تعيش

ويأكلان معا.. أحدهما فرغل عبدالعال بائع المش وثانيهما ( النص) حارس العربات فى موقف الحسين.نفس الوقت والرجل الذى يقف على باب الهيلتون يفطر. إن الهيلتون فى رمضان يستهلك فى اليوم الواحد 100 كيلو دقيق ومثلها من السكر و200 كيلو من اللحم و200 فرخة و70 ديكا روميا...».


الأيادى تتسابق للحصول على الـ "طرشى" البلدى

لكن لا يكتمل سرد لأحوال رمضان بدون التمهل أمام ليله. فيكتب أحمد بهجت:

الليل فى رمضان:

«البمب يملأ الحسين الأطفال أكثر من الكبار. الفوانيس زرقاء وحمراء وصفراء الألوان تختلط بالصيحات الصغيرة الحلوة. العربات أكثر من الأطفال الناس يتدافعون كالموج. محمد المحلاوى ( أبو دراع) فنان شعبى على الأرغول. هكذا تقول اللافتة وراء ظهره. ومحمد المحلاوى غنى وحوله آلاف

اسمع لموال كلام بلدى وأنا بلدى

من المحلة جايب حلة حرير بلدى

والقطن من أرضنا والصبغة من بلدى

من حقى دلوقتى أروح سوريا وأقول بلدى

وأجيب من اليمن بن اليمن وأسقى شباب بلدى

وتعترضه آهات الاستحسان ليعيد فيشق صوته السكن رائعا حلوا ويكمل:

وفى الجزاير كفاحهم من كفاح بلدى

وجميلة فى السجن لكن موجودة فى بلدى

زرعوا الزتون عندهم رمز لسلام بلدى

ومن ليبيا صوف الغنم راح أغزله بلدى

ما ارضاش بصوف أجنبى وأرضى بخيش بلدى»

وكأن ما فات من روعة ومعايشة وتجسيد رائع لأحوال البلاد والعباد خلال يوم من أيام رمضان لا يكفى، فيزيد بهجت بإيراد ما كان كاملا، فيروى:

«والضجيج جزء من الشارع والشيخة نفيسة الرجلاتى «من داخل إحدى المقاهى» تقتبس من عبدالوهاب أغنية (خى .. خى) وتقوم بعملية تغيير سريعة لها، لتتحول الأغنية إلى دعاء دينى يناسب رمضان:

حى .. حى

أشكى لك أمرى يا حى

توب على وإصلح حالى يا حى

حى .. حى

نفس الحكاية تعملها مع أم كلثوم، وتغير أغانيها لأدعية تناسب الموقف:

رمضان فى الليل .. البسمات أوسع من الشفاه»

ثم يبلغ اليوم الذى قضاه بهجت بين «السيدة» و«الحسين» منتهاه، فيختم راويا: «المسحراتية يطوفون بالأحياء وداخلهم إحساس عميق بأنهم يوقظون ناسا مستيقظين تماما.. المنبهات والراديو والسهرات تأكل مهنتهم ولا تدع لهم مجالا للعمل.. نعس الأطفال ولم يبق ساهرا إلا صوت أم كلثوم:

ولد الهدى فالكائنات ضياء

وفم الزمان تبسم وثناء»...

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق