بعد ست سنوات من رئاسته، محاطا بالتكنوقراط اللامعين، أصبح إيمانويل ماكرون رئيسا فرنسيا تقليديا، تماما مثل الرؤساء السابقين نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند من قبله، يقوم بإصلاح فرنسا رغما عنها. فقد قال جاك روبنيك، أستاذ العلوم السياسية: «نجح ماكرون في إثارة عداوة الجميع من خلال التمسك برأيه. أخطأ ماكرون، حينما وعد باتباع نهج توافقي من القاعدة إلى القمة، يستبعد من خلاله المصالح الراسخة والتفكير المجمد للأحزاب السياسية والنقابات العمالية. لذلك انتهى به الأمر إلى فرض إصلاح متواضع إلى حد ما للمعاشات التقاعدية، رفضته الغالبية العظمى من الناخبين، وشوه بنجاح نقابات العمال وأحزاب المعارضة التي كان يأمل في تهميشها».
وبعد مرور شهرين من الاحتجاجات والإضرابات التي تسببت فى تكدس القمامة فى شوارع العاصمة باريس، يظل السؤال هو: هل كانت الإصلاحات قاسية كما يزعم قادة النقابات المعتدلون؟. واقعيا سيرتفع سن التقاعد الرسمي في فرنسا تدريجياً من 62 عاما إلى 64 عاما بحلول عام 2030، مع تمديد الاشتراكات للحصول على معاش تقاعدي كامل من أجل موازنة حسابات نظام المعاشات التقاعدية. بعبارة أخرى، سيظل الفرنسيون يتقاعدون في وقت مبكر خلال سبع سنوات، وهو ما يفعله معظم الأوروبيين حاليا.
وتعد هذه الإصلاحات حجر الزاوية في الولاية الثانية للرئيس الفرنسى، وسيكون للفشل في تمريرها تداعيات على الفترة المتبقية من ولايته، كما أن الجدل حول المعاشات التقاعدية، يعكس المشهد السياسي الممزق فى البلاد. فمنذ انهيار نظام اليسار واليمين القديم قبل عقد من الزمان، وهو الأمر الذي شجعه ماكرون نفسه واستفاد منه، أصبحت السياسة في فرنسا أكثر شدة واستقطابًا. ففي غضون 15 شهرًا من فوزه الانتخابي الأول في عام 2017 ، واجه ماكرون تمردًا غير مسبوق من قبل حركة السترات الصفراء على القرار الخاص بفرض الضرائب على البنزين والديزل في المناطق الريفية والضواحي الخارجية لفرنسا. والآن بعد مرور 11 شهرًا على إعادة انتخابه في أبريل من العام الماضى، يواجه ماكرون أكبر احتجاجات نقابية منذ عقدين. ومع ذلك، ففى عهد ماكرون أيضا، انخفضت البطالة من 9.4% إلى 7.2 %، وخاصة بين صفوف الشباب. كما زاد الإنفاق على الخدمات الصحية الحكومية بشكل كبير لأول مرة فى هذا القرن. واستطاع الشعب الفرنسي الخروج بسلام من جائحة كوفيد-19، وارتفعت أسعار الطاقة في العام الماضي بشكل كبير بفضل البرامج الضخمة للإنفاق الحكومي.
وتكمن الأزمة الحالية في فشل كل من ماكرون والشعب الفرنسي فى التوصل إلى نقطة اتفاق. ويعد الخلاف على نظام المعاشات خير مثال على ذلك، حيث يدافع معظم العمال الأكثر تشددًا في السكك الحديدية، ومترو باريس، ومحطات الطاقة الكهربائية، عن أنظمة التقاعد الخاصة التي تسمح لهم بالتقاعد في الخمسينيات من العمر. بينما تشكل هذه الأنظمة ضغطا على الحكومة الفرنسية، خاصة أن الدولة تقوم بتغطية العجز الذى تبلغ تكلفته ثلاثة مليارات يورو سنويًا لعمال السكك الحديدية وحدهم، الأمر الذى يتطلب إلغاء مثل هذه القوانين الخاصة تدريجيا كجزء من إصلاحات ماكرون. ترددت الحكومة الفرنسية بشكل كبير في استخدام مثل هذه الحجج المالية لدعم إلغاء هذه الأنظمة. ونتيجة لذلك، تم تصوير الإصلاح بنجاح من قبل اليسار واليمين المتطرف على أنه إصلاح «مصرفي» كما لو أن بلدًا به دين عام متراكم يبلغ 3 تريليونات يورو (114 % من الناتج المحلي الإجمالي) لا يحتاج إلى القلق بشأن دائنيه. من جانبها، تحاول رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن، استيعاب هذه الأزمة، لكن تظل الفترة المتبقية من ولاية ماكرون الثانية مظلمة بسبب الجدل حول المعاشات التقاعدية، خاصة بعد أن قررت الحكومة الفرنسية مؤخرا تفعيل المادة 49.3 من الدستور لتمرير التشريع بدون تصويت. فعلى الرغم من وعود ماكرون بتخفيض البطالة إلى 5.5% (أي التوظيف الكامل) بحلول نهاية ولايته الثانية، إلا أنه سيكون هناك صراع لأقلية من حكومته الوسطية لتمرير تغييرات قانون العمل التي يريدها.
وفوق كل شيء، ليست هناك سياسة واضحة لماكرون يستطيع العديد من السياسيين الوسطيين من خلالها السير على نهجها. لكن في كل الأحوال لن تستطيع السياسات التي تبناها ماكرون الفوز بشكل كبير في التصويت عام 2027، خاصة بعد خسارة حزب النهضة الذي يتزعمه ماكرون أغلبيته في الجمعية الوطنية في الانتخابات البرلمانية العام الماضى. علاوة على ذلك فقد واجه عدة اقتراحات بحجب الثقة في الأشهر الأخيرة. وفي إشارة إلى تفاقم الأزمة في فرنسا، فهذه هي المرة الأولى التي تتقدم فيها أحزاب المعارضة مجتمعة بمقترح لسحب الثقة.
-
جون ليتشفيلد ـ صحيفة «بوليتكو» الأمريكية
رابط دائم: