«استهوته مهنة النبش فى الدفاتر القديمة»، هكذا يصف الكاتب مصطفى عبيد رحلة ترجمته السابقة لمذكرات توماس راسل حكمدار القاهرة بالفترة من ١٩٠٢ إلى ١٩٤٦، ومعايشته لوقائع الجريمة فى مصر، وحديثه عن كبار خبراء الطب الشرعى البريطانيين وزيارتهم لمصر ومن بينهم سيدنى سميث، مما دفع عبيد للبحث عن مذكرات سميث، حيث كانت جامعة لكل شهادات الطب الشرعى حول الجرائم فى مصر وأيرلندا واسكتلندا واستراليا وسيلان بالنصف الأول من القرن العشرين، وحملت عنوان «على الأرجح قُتِل» وصدرت عام 1959، لكن عبيد استشعر عنوانا آخر بعد قراءته حكايتها، حيث اختار لترجمته، الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية،عنوان «قارئ الجثث».
تضمنت مذكرات سميث العديد من القصص المثيرة المليئة بالغموض والإثارة، والتى لم يشأ توثيق حياته من خلالها بقدر ما أراد رصد الجرائم الجنائية بتعقيداتها الإنسانية والاجتماعية، وأراد مصطفى عبيد أن ينقل هذه المذكرات القيمة إلى اللغة العربية خاصة بعد أن توقفت طباعتها.أحد عشر عاما قضاها سميث فى مصر فى الفترة من 1917 إلى 1927، شارك خلالها بتأسيس مصلحة الطب الشرعى عام 1921 فى وزارة العدل، وطور معامل الطب الشرعى لتصبح كما نظيرتها فى الدول الكبرى. رحلة ثرية فى عالم الطب الشرعى، يقول سميث إن الطب الشرعى يرجع إلى العصور القديمة عندما كان المصرى أمحوتب يعمل قاضيا وعالما فيزيائيا قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة.
يبدأ سميث مذكراته بالحديث عن نشأته، بدءا من ميلاده، وعائلته، والبلدة الصغيرة الريفية التى نشأ فيها، ورحلة تعليمه، الغريب فى الأمر أن سميث الطبيب البارع فى حل ألغاز الجرائم الجنائية لم يكن ليسمع أبدا عن الطب الشرعى عندما قرر أن يصبح طبيبا شرعيا لكنه اختاره باعتباره وسيلة للهروب من قريته الصغيرة إلى عالم رحب. ويذكر أن من بين الطلاسم التى فك شفرتها قصة ثلاث عظام صغيرة لم يتضمن تقرير الشرطة عنها أى ملاحظات وجدت فى قاع بئر لم يستخدم منذ سنوات وكان أغلب ظن الشرطة أنها عظام حيوان، لكن سميث قدم للشرطة من خلالها خيطا للوصول إلى الجريمة كاملة.
تلك الجرائم التى توصل سميث للسر الكامن وراءها دفعته للمقاربة بين شيرلوك هولمز المخبر البوليسى ودكتور جوزيف بيل الذى كانت له حكايات غريبة بشأن الأمراض وتصرفات المريض، حيث وصل الأمر بالناس إلى أن أطلقوا على دكتور بيل شيرلوك هولمز، ويؤكد سميث أن الروائى العالمى الذى لم يحقق النجاح فى مجال الطب انتقل للكتابة وهكذا ولدت لديه فكرة المحقق الخيالى حيث اعترف كونان دويل شاكرا بأن مصدر استنباطاته يعود إلى الدكتور بيل.
أما عن الفترة التى قضاها فى مصر والتى شملت الجزء الأكبر من مذكراته حيث كان مسئولا عن قطاع الطب الشرعى بالقاهرة، فيوضح سميث أن العمل بهذا القطاع كان كثيفا حيث تقدر الجرائم بنحو ألف جريمة قتل وأكثر من عدة آلاف محاولة قتل كل عام، وكانت جرائم التسمم بالزرنيخ هى الأكثر شيوعا لأنها كانت الأصعب فى العلاج والأبعد عن الكشف، ويؤكد سميث أن أهم أسباب انتشار القتل فى مصر هى تعدد الزوجات وانتشار الطلاق وقوانين الميراث الصارمة.
يروى سميث حكاية أكثر القضايا إبهارا له خلال مشواره المهنى، والتى تم كشفها عن طريق عمال يحفرون مصرف مياه، وبين الركام لمح أحدهم عظمة بشرية ثم اكتشفوا أجزاء أخرى من هيكل عظمى، واتضح أنها قادمة من أسفل منزل مجاور، وكانت تلك بداية الكشف عن جرائم ريا وسكينة.
يتابع سميث حديثه عن الجرائم المتعددة التى تولى التحقيق فيها، وعن معاصرته لثورة 1919 وشخصية سعد زغلول، وحادث مقتل السردار ومسلسل الجرائم السياسية وصولا لرحيله عن مصر، معربا عن أسفه وحزنه لذلك، معتبرا أنها كانت أفضل أيامه وأكثرها تقديرا. وينفى صحة الانطباع الخاطئ عن المصريين بالتوحش والعنف نتيجة للعدد المهول من الجرائم، معتبرا غالبية المصريين طيبين وسمحاء، خاصة أبناء الريف والفلاحين البسطاء بما لديهم من حس الفكاهة، لكنهم يصبحون متعصبين عندما يغضبون ويمكن إثارتهم ودفعهم للتمرد بسهولة.
لا يكتفى مصطفى عبيد بترجمة المذكرات، بل يضيف لكل فصل هوامش تضمن تعليقا أو تفسيرا أو معلومة إضافية حول الحدث، ويعلق عبيد أن شهادة سميث عن المصريين شهادة نزيهة يدلى بها رجل مدنى يعمل ضمن منظومة الاحتلال البريطانى، وهى شهادة نادرة فى هذا الشأن وتشابه شهادة توماس راسل حكمدار القاهرة، لكنها تناقض شهادة اللورد كرومر عن المصريين التى حملت ازدراء واضحا.
رابط دائم: