يظل عبد الحميد باشا بدوى من الشخصيات الوطنية العظيمة التى شرفت مصر فى الداخل والخارج ، إذ رفع اسمها عاليا وكان له شأن كبير فى المحافل الدولية، فى إطار الأمم المتحدة ومنظماتها وعلى وجه الخصوص محكمة العدل الدولية . هذا فضلا عن دوره داخل مصر فى مرحلة هامة جدا من تاريخها ومسيرتها بعد حصولها على استقلالها (الشكلي) فى عام 1922، فكان تألقه فى إدارة هيئة قضايا الحكومة ، ثم كان دوره التاريخى على رأس وزارة الخارجية وأمام مجلسى النواب والشيوخ لإقناع نواب الأمة بضرورة مشاركة مصر فى مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945، ووضع ميثاق الأمم المتحدة والإشتراك فى عضويتها، فكلها أدوار تؤكد أننا إزاء عقلية نادرة تفيض بالموهبة والعلم والخبرة والحس الوطنى ، تجسَد شخصية متفردة نعتز بتاريخها وأدوارها مصريا ودوليا.
................
وما أقوله وأسجله لا أعبر فيه عن نفسى فقط ، وإنما عن كل من اقترب من بدوى باشا أو عمل معه أو سمع عنه ، أو قرأ ما كان يكتبه من تقارير ومذكرات قانونية، أو طالع أحكامه وأراءه المنفردة التى كان يرفقها مع أحكام محكمة العدل الدولية ، وكل هذا موثق فى مستندات رسمية ويؤكد أن ما أقوله مجرد جزء يسير من انجازات كثيرة لهذا الرجل العظيم .
أما عن معرفتى الشخصية به، فبدأت عندما كنت طالباً بكلية الحقوق بجامعة الإسكندرية، حيث كنت وقتها أسمع عن ما بذله من جهد فى اقناع نواب البرلمان المصرى بمجلسيه بأهمية موافقتهم على انضمام مصر إلى المنظمة الدولية الجديدة (الأمم المتحدة)، وأن الاعتراض والاحجام عن المشاركة يفقد مصر تأييد المجتمع الدولى لمطالبها باستكمال استقلالها وجلاء قوات الاحتلال البريطانى عن أراضيها ، كنت أسمع هذه الأخبار عن الرجل وأتابعها ، إلى أن كنت فى باريس كطالب بعثة للحصول على درجة الدكتوراة فى القانون الدولى ، وتصادف أننى كنت متوجها لأحد الفنادق فى العاصمة الفرنسية لمقابلة أستاذى الجليل د. حامد سلطان ، رئيس قسم القانون الدولى العام بكلية الحقوق(جامعة القاهرة) وهو القسم الذى كنت قد عُينت معيداً به ، فكان من الطبيعى أن أتوجه إليه لأقابله وأسمع منه النصح والتوجيه.
يوقع باسم مصر على ميثاق الأمم المتحدة
ووجدت د. حامد سلطان فى بهو الفندق وبصحبته عبد الحميد باشا بدوى القاضى المرموق وقتها بمحكمة العدل الدولية ، وقدمنى إليه الدكتور حامد سلطان بصفتى معيداً فى كلية الحقوق بجامعة القاهرة وعضو بعثة للحصول على الدكتوراة فى القانون الدولى، وإذا ببدوى باشا يقترب منى فى مودة ويفتح معى حوارا ويسألنى عن دراستى واهتماماتى وفى أى موضوعات القانون الدولى أنوى إعداد رسالتى، ويبادر فورا بعرض مساعدته ويطرح عليّ مجموعة من الأفكار، ويقدم لى مجموعة من النصائح والارشادات، كان من أهمها أن طالب البعثة يجب ألا يُقصر اهتمامه على إعداد رسالة الدكتوراة ، بل يجب عليه أن ينهل من الثقافة الفرنسية ويتعرف على تلك الحضارة الإنسانية ويختلط بالمجتمع الفرنسى ويتعايش معه .
أعطانى الرجل مجموعة قيمة من النصائح الثمينة التى يمكن لطالب بعثة مثلى ــ عمره وقتها 23 سنة ـ أن يهتدى بها فى تجربته وغربته ومعيشته، إلى أن سألنى عن درجة الماجستير التى حصلت عليها، فأجبته وشرحت له باننى أعددت دبلوما فى جامعة الإسكندرية اعترفوا به فى جامعة باريس، وأعددت دبلوما آخر فى باريس ، فأصبح معى دبلومتين تعادلان درجة الماجستير، ويمكننى الآن أن أبدأ فى الإعداد لرسالة الدكتوراة ، وعندى بالفعل عدد من الأفكار عن موضوعها ولم استقر بعد على الموضوع النهائى ، فإذا به يقترح عليّ : «وما رأيك فى أن يكون الموضوع عن محكمة العدل الدولية وعن دورها فى تفسير القانون الدولى وسد النقص فيه» ، وراح يشرح لى : هذا موضوع هام لأن هذه محكمة حديثة ظهرت مع قيام الأمم المتحدة عام 1945 فما رأيك أن تكتب أنت فى هذا الموضوع..وأنا بصفتى قاضيا فى هذه المحكمة وموجود معظم وقتى فى مقرها بلاهاى (العاصمة الهولندية) أستطيع أن أساعدك، فى مراجعة الخطة على أن تأتى إلى لاهاى فى إجازتك الصيفية وتتردد على مقر المحكمة ومكتبتها «.
وتحمست فورا للموضوع الذى اقترحه بدوى باشا ، والذى لاحظ فرحتى فأخرج ورقة من حقيبته وكتب عليها بقلمه عنوان الرسالة : «دور محكمة العدل الدولية فى تفسير وخلق القانون الدولي»، واستوقنى تعبير «خلق القانون» وسألته عن معناه والفرق بين التفسير والخلق ، فشرح لى ببساطة العالم: ستكون مهمتك الأولى أن تحصل على الأحكام والفتاوى التى أصدرتها المحكمة وترى التفسيرات التى بنت عليها أحكامها «..قلت: هذا سهل ومفهوم وله مراجع، إنما خلق القانون هو ما لا أفهمه، فمعلوماتى أنه لا المحكمة و لا القاضى يمكنهما خلق قواعد للقانون ، فهما يفسران فقط ، والذى يخلق القواعد ويسن القوانين هى السلطة التشريعية (البرلمان) فى القانون الداخلى، والإتفاقيات الدولية والجمعية العامة للأمم المتحدة فى القانون الدولى .
قال بدوى باشا : هنا مربط الفرس يا مفيد ( وكانت المرة الأولى التى ينادينى باسمى) ، أريدك أن تركز على أن المحكمة هذه لأنها نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ، وقت أن كان القانون الدولى فى أضعف حالاته وهى تريد تقويته وتدعيمه ، فإنها كانت تفاجأ فى قضايا معينة بأنه لا توجد قواعد مستقرة لتطبقها، فكانت تجتهد فى خلق تلك القواعد، ولكن لا تستطيع أن نقول أنها قد خلقت قواعد أو سدت نقصا، فهى لا تملك هذا، وإلا تكون قد نصّبت من نفسها سلطة تشريعية دولية ولم تقتصر على كونها سلطة قضائية فقط ، وهنا عليك أن تجتهد فى رسالتك وتكتشف نواحى النقص الموجودة فى القانون الدولى والتى حاولت محكمة العدل فى أحكامها وفتاواها أن تسدها ، فخلقت قواعد للقانون الدولى دون أن تقول ذلك صراحة ، لأنها لا تملك ، ولا تستطيع أن تدعى لنفسها سلطة التشريع ».
ولم يكتف بدوى باشا بالشرح النظرى البليغ ، بل ضرب لى مثلا عمليا بفتوى خاصة بالوضع القانونى للأمم المتحدة ، وهل هى شخصية قانونية دولية فى ذاتها ، أم أن تلك الشخصية تنسحب على أعضائها فقط ؟..وراح يسألنى فى قضايا معقدة فى القانون الدولى فشعرت لحظتها بالضعف الشديد وبالخجل من نفسى أمام هذا العملاق ، وأمام تلك العقلية القانونية الفذة للقاضى الدولى الكبير ، وبأبوة حانية راح يربت على كتفى مشجعا : أنت تفكيرك سليم جدا ، وعندما ستقرأ الاحكام التى سأجهزها لك ستدرك من نفسك أين كان يكمن هذا النقص وكيف سدته المحكمة وما هى الوسائل التى اتبعتها دون أن تفصح عنها صراحة .
وتشجعت جدا للموضوع ، ودخلت معه فى تفاصيل عديدة وتشعب حوارنا وطال ، لدرجة أن أستاذى الدكتور حامد سلطان اضطر للتدخل : « هيا بنا يا عبدالحميد باشا قبل أن نتأخر على موعد العشاء مع الأصدقاء الفرنسيين» ، فقال له الباشا وهو يشير لى بابتسامة ودودة : «أنا استمتعت بالحديث مع هذا الشاب يا دكتور ومستبشر به خيرا واسمح لى أن أراجعه من وقت لأخر وأتصل به من لاهاى لأدعوه لزيارتى هناك» !.
وبعد نحو سنة على هذا اللقاء وكنت قد قطعت شوطا لا بأس به فى الرسالة ، اتصلت به تليفونيا واستقبل مكالمتى مرحبا ولما علم بما أنجزته فى الرسالة قال: «على خيرة الله ، كويس قوى ما وصلت إليه ، خلاص أنت تقدر تيجى لاهاى فى الإجازة الصيفية فى أغسطس المقبل» ، «وتوفيرا لنفقات المعيشة سأدبر لك الاقامة فى غرفة عند أسرة هولندية ، تقدر تقعد عندهم لمدة شهرين وتتفرغ للتردد على المكتبة وسأكون موجودا وأقدم لك ما أستطيع من تسهيلات».
وقد كان، سافرت إلى لاهاى ، وفى اليوم التالى لوصولى ذهبت إليه فى مكتبه واستقبلنى بحفاوة وقدمنى بنفسه إلى أمين المكتبة فى محكمة العدل الدولية وقال له : «هذا شاب مصرى يعد رسالة دكتوراة عن المحكمة فأرجو مساعدته فيما يطلبه من كتب ووثائق» .. وبتواضع شديد قام ليرافقنى بنفسه فى جولة بالمحكمة ليعرفنى على مبانيها وقاعاتها ، وسألنى باهتمام أبوى : «هل أنت مستريح فى اقامتك مع الأسرة الهولندية التى نزلت عندها ؟ «، أجبته فى امتنان حقيقى : «مستريح جدا ، يعاملونى كأنى فرد منهم ، وسعداء أن شابا مصريا فى ضيافتهم «، علق بارتياح : «هؤلاء أصدقاء أعزاء يحبون مصر وأنا أدعوهم لزيارتى فى القاهرة من وقت لأخر» ..
وفد المملكة المصرية للأنضمام إلى عصبة الأمم 1936
وأمضيت شهرين فى لاهاى أتردد يوميا على المحكمة ومكتبتها ، وأتيح لى مقابلة بدوى باشا حوالى 8 مرات رغم مشاغله ، وفى كل مرة كان يستقبلنى بترحاب فى مكتبه ويفتح معى حوارا عن قضية مختلفة من القضايا التى نظرتها المحكمة ، يسألنى عن رأيى فيها ويسمع لى بانصات ويناقشنى ويشرح لى ما استشكل عليّ بسمات العالم الذى يعرف كيف يوجه تلامذته ، وبروح الأب فى حنوه على شاب مغترب بعيدا عن أهله ووطنه ، والحق أقول إن عبد الحميد باشا لعب دورا كبيرا ومحوريا فى حياتى ومستقبلى، وكان له أثره الواضح والملموس فى شخصيتى، وخاصة فيما يتعلق بكسر حواجز الخوف والتردد ، فقد كان تشجيعه الدائم ودعمه المتواصل وطريقته الحانية فى مناقشة أرائى والثناء عليها أو تعديلها برفق من الأسباب الرئيسية فى إنجاز رسالتى .
وعدت إلى باريس بعد شهرين فارقين نعمت فيهما بالقرب من بدوى باشا فى لاهاى ، وفى العاصمة الفرنسية قضيت بعدها 4 سنوات فى استكمال البعثة والرسالة ، وظللت على اتصال دائم به لأوافيه بما أكتبه ولأتلقى منه النصح والتوجيه، وأذكر أننى قلت مرة للمشرف الفرنسى على رسالتى : أريد أن أخبرك أننى على اتصال بقاض مصرى فى محكمة العدل الدولية وأستأذنك أن أبقى على تواصل معه اسمه عبد الحميد باشا بدوى ، ففوجئت به يجيبنى بسعادة : «طبعا أعرفه جيدا ومن الذى لا يعرف مسيو بدوى فكلنا نستفيد ونتعلم من أرائه وأحكامه» ..وكان أستاذى يشير إلى تلك الأراء التى كان بدوى باشا يسجل فيها آراءه المعارضة لبعض أحكام المحكمة ، حيث ان لوائح المحكمة تجيز للقاضى أن يُصدر بعد الحكم وجهة نظره الشخصية المخالفة..وكان لبدوى باشا العديد من تلك الأراء المخالفة والمنفردة التى استفدت منها فى دراستى إلى حد بعيد .
وبعد أن أوشكت على إكمال كتابة رسالتى أخذت مسودة منها وسافرت إليه فى لاهاى ، فقرأها باهتمام واقترح بعض التعديلات بين حذف واضافات ، وبالفعل كانت ملاحظاته مهمة وقيمة ، وسألنى يومها عن موعد مناقشة الرسالة ، فأخبرته أنها ستكون بعد حوالى 7 شهور وأننى سأتصل به تليفونيا من باريس عندما يتحدد الموعد النهائى وقد كان، ولا أنسى أبدا أنه فى مساء يوم المناقشة اتصل بى بدوى باشا فى محل اقامتى بباريس، وسألنى بلهفة وبمشاعر أبوية : هل ناقشت الرسالة ؟..وماذا كانت النتيجة ؟..وما التقدير الذى حصلت عليه ؟..قلت له : يا باشا اطمئن، فبفضل دعمك وتوجيهاتك حصلت على تقدير ممتاز مع مرتبة الشرف وحجز الرسالة لجائزة أفضل الرسائل ..فكان سعيدا للغاية، وأذكر أنه قال لى بفرح : على خيرة الله ..أنت ترجع بلدك عشان تستفيد منك ..أنا أكلمك من القاهرة بعد أن أنهيت عملى بمحكمة العدل، وأرجوك بعد رجوعك إلى مصر عليك أن تأتى لمقابلتى فى مقر الجمعية المصرية للإقتصاد السياسى والتشريع، وهى الجمعية التى تولى رئاستها بعد عودته إلى القاهرة.
وبالفعل، وبعد عودتى بأيام قليلة قضيتها مع أسرتى بالإسكندرية توجهت إلى القاهرة، وكان أول ما فعلته بعد وصولى أننى توجهت إلى مكتب بدوى باشا فى الجمعية، وكان يتردد عليه يوميا ، وكانت له طقوس خاصة، حيث لا يبدأ فى مقابلة ضيوفه وزائريه إلا بعد أن يشرب فنجان القهوة، واستقبلنى بترحاب اعتدته منه، وتكلمنا فى أمور كثيرة تخص مستقبلى العلمى والعملى، وراح ينصحنى ويوجهنى بخبرته وحكمته، وقبل أن ينتهى اللقاء قال لى: تعلم أن الجمعية هنا تنظم موسما ثقافيا وأنا أريد منك المشاركة فيه ..صحيح أنك لازلت شابا صغيرا و المشاركين كلهم من الأساتذة الكبار ولكنك لست أقل منهم علما وفهما.. وأتصور أن تكون محاضرتك عبارة عن ملخص للأفكار التى كتبتها فى رسالتك للدكتوراة ..وسأمنحك شهرا كمهلة لتجهيز المحاضرة وإعدادها ..وسأجلس بنفسى فى صفوف الحاضرين لأستمع إليك .
وقد كان، فبعد شهر ألقيت أول محاضرة لى وأنا ما زلت مدرسا فى كلية الحقوق وعمرى لا يتجاوز 28 عاما، ويومها قدمنى السفير المرحوم عبدالله العريان وكان عضوا بالجمعية، وفى الصف الأول بين الحضور كان يجلس بدوى باشا كما وعد وبجواره أستاذى الجليل د. حامد سلطان، وكان بدوى باشا أول من شّد على يدى مهنئا بعد انتهاء المحاضرة والحوار الذى أعقبها..
وتوزعت حياتى بعدها بين الإسكندرية حيث الأهل والإقامة ، وبين القاهرة حيث العمل بالتدريس، واستمرت علاقتى متواصلة مع بدوى باشا ، كنت أزوره باستمرار وأجد منه دائما التشجيع والتوجيه والدعم ، وكان يدفعنى دائما للمشاركة فى محاضرات الجمعية والكتابة فى مجلتها
ربما كان أخر لقاء لى به فى منتصف عام 1965 ، وبعد شهور قليلة توفاه الله فى بيته بالإسكندرية، وصدمنى رحيله المفاجئ، ولكنى لا أزال بعد كل تلك السنوات الطويلة أذكره بكل خير : فدوره الوطنى وكمفكر قانونى وقاض دولى ودبلوماسى عظيم أشادت به كل الهيئات الدولية ، وعلى المستوى الشخصى سأظل أدين له بفضل كبير.
رابط دائم: