رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

المشردة «قمر»

حسام الزمبيلى
د.حسام الزمبيلى

اعتادت «البت دى» أن تلقى برأسها المتعب الأشعث على صخرتها الملساء المفضلة، استسلم قالب الطوب لرأسها منتظرًا قطرات العرق المالحة تخففها قطرات من الدموع العذبة.

لم تعرف أبدًا معنى كلمة حنان إلا أنه اسم «للبت دِكْها»، ولم يكن عقلها الصغير ليدرك أن الأم -جبرًا- حنونة، فإن لم تكن كذلك فهى ليست ذاك.

الثانية صباحًا أغلق مطعم السعادة الكائن عبر الشارع من صخرة «البت دى» الملساء أبوابه، وجاء عم عبده ليضع بجوارها «ساندوتش» مما تبقى من أكل الزبائن. لم تعرف فى حياتها للحزن معنى، فهذا الاسمُ يُستدل عليه بنقيضِه، ونقيضُه مجهولٌ لها.

حتى جاء ذلك اليوم، وأتتْ تلك الطفلة، كانت فى مثل عمرها تمامًا، ترتدى فستانًا أحمرَ منفوشًا قصيرًا، يقف أسفله فوق ركبتها. وفى شعرها الأسود اللامع شريطٌ بنفس لون القماش يربط شعرها على هيئة ذيل الكلب، هكذا تصورته «البت دى». وكانوا ينادونها «فرحة» لم يكن هذا الاسم ليعنى لها أكثر مما عنى اسم «حنان» بتاع «البت دكها».. كلها أسماءٌ.. أسماء بلا معنى.

أمسكت والدةُ فرحة ورقةَ نقدية زرقاء، وأعطتها لها ثم أشارت عليّ. فى تردد تقدمت «فرحة» ناحيتى، ومن بعيد مدت يدها بالورقة النقدية الزرقاء. نتشتُها وكرمشتُها ووضعتُها فى جيب بنطالى «ذى الرقعة الواحدة» كما سماه «بوكشة» الناضورجى، كنت أفخر بذلك البنطال. وما أن غابت «فرحة» عن بصرى حتى جاءنى الواد «بوكشة» ومد يده فى جيبى وخطف الورقة الزرقاء.. أما أنا فقد أخذت أبحث عن «فرحة» أخرى.

فى تلك الليلة تألمت الصخرة الملساء عندما لامستها بشرة «البت دى» لا لقطرات عرقها المالحة، ولا لذلك الألم التى تبثُه دموعُها العذبة، ولا حتى من ملوحة قطرات دمها التى تقطر من بعض الخربشات التى كانت تحدثها بها «البت دِكْها». اعتادت الصخرة الملساء أن تستمع إلى يوميات رفيقتها الأبدية، يوميات شفهية تحكيها «البت دى»، وهى تظن أنها تحدث نفسها. ولكنها لم تكن تعلم أن هناك «وعى» يستمع إليها.. ويتألم.

فى اليوم التالى.. كبست الحكومة وهبط من سيارة الشرطة الأمين محمد وكنا نسميه «حِنْجل» من كَثرة زهوه بنفسِه. أمسِكوهم.. ركضتُ أنا والبت دكها والواد بوكشة بأقصى ما تستطيعُ قدماى الصغيرتان. استلقيت متعبة -وقد جُرحت ركبتي- أمام العمارة المجاورة. اقترب منى حارس العقار المجاور لمطعم السعادة عم «فضيل» ومد كوبًا من الماء، ليغسل لى جرحى. وبعد قليل بدأت يداه تتحسسان أماكنَ من جسدى، لم يحذرنى أحد من قبل من هذه اللمسات، ولكنها غريزة الأنثى، أنبأتى بالخطر، فركضتُ.. وركضتُ.

ذلك الحلم العنيد الذى يراودنى مرة كل شهر على الأقل، ترانى واقفة وسط أناس كثيرين لا أعرفهم، كنت أبكى بحرقة، وأصرخ ماما.. ما.. ما. صورة باهتة لسيدةٍ شعرُها أسود قصير، ملامحها ممسوحة، صوتها حنونٌ به عيبٌ فى نطق الراء فتنطقه غَين فلقد كانت تنتحب قائلة: يا غَبْ.. يا غَبْ.. ثم تلتفت إلى رجلٍ قصير صارخة: البنت فين يا غَفِيقْ!؟ يد خشنة صلبة انتزعتنى وغابت بى.. وما زلت غائبة. وفى صباح ليلة الحلم، تلتمع مخدتها الصلبة الملساء بذاك المزيج من السوائل، كانت الصخرة الملساء تستحم بآلام الفتاة الصغيرة.. وتتألم.

المعلمة «زينات» هى أُمُنا جميعًا، لم نعرف أمًا لنا غيرها، كان مفهومُ كلمة الأم مجهولًا لى أو مشوشًا كشأن كثير من المفاهيم. كانت تدير فريق الناضورجية. يساعدها ويأتمر بأمرها زوج المعلمة «ضبع» الذى لم يكن أبدًا أبَانا. كان رجلًا ضخمًا، بشاربه الذى يشبه المقشة أم عصا بعد أن يلتصق بها شعر الكنس، وله رأس مبعجرة لا ينافسها غرابة إلا كرشه المبعجر بفعل فتاق سُرى قديم، بالرغم من شكله المرعب، إلا أن استسلامُه الكامل غير المشروط للمعلمة «زينات» أفقده الكثير من هيبة مظهره، وأكسبها هى هيبة مفزعة بالرغم من شكلها الذى حمل بذور جمال نضب منذ زمن ليس بالقليل.

كانت المعلمة «زينات» جالسة على الدكة وركبتها اليمنى مضمومةً إلى صدرِها بينما فردت رجلَها اليسرى على كرسيٍ صغير أمام الدكة وإلى جوارها جلس «ضبع»، همست المعلمة «زينات» لضبع ونادرًا ما تفعل وهى تنظر وتشير إلىْ لم أسمع سوى كلمة «البت دى» أو بالأحرى قرأتها على شَفَتَيها.

قرقعة هائلة لم أسمعها فى حياتى، دخان كثيف فى الجو، عيناى وأنفى يحرقانى بشدة، الكثير يركض، لم أعد أشاهد المعلمة «زينات»، ولكننى تعثرت برجل الدكة، بينما كنت أجرى، كان الجميع يركض، فكيف ألا أجرى وهذا الدخان اللعين يكوى عينى. بكيت كما لم أبك فى حياتى.. بكيت مجبرة. أصوات خشنة غير مميزة ثم يد قوية صلبة تمسك بى.. ثم غبت.. وغاب كل شىء.

استيقظت على وقع أصوات كثيرة، كنت نائمة على كيس ملىء بالقطن على ما اعتقد يسمونه المخدة كان طرى زيادة عن اللزوم، شعرت بالحنين لوسادتى الصلبة الملساء، أطل على وجه سيدة دامعة العينين، أسفلهما انتفاخات سهر وقلق واضطراب، وضعت يدها على جبهتى.. أنتِ صحيتى يا «قَمَغَ».. صوتها كان مألوفًا.. قصة الشعرِ مألوفة.. إنها سيدة «الحلم».. إنها.. ماما!

فى هذه الليلة تلقفت المخدة الطرية دموع الفتاة «قمر» أو «البت دى».. دموع السعادة وعرق السعادة، ولأول مرة منذ ست سنوات تنام فى حضن أمها.. كانت المخدةُ سعيدةَ. وهناك بعيدًا.. وعلى الجانب الآخرِ من الشارع فى مقابلةِ مطعم السعادة، كانت هناك صخرة ملساء حزينة باتت وحيدةً لأول مرة منذ ٦سنوات، وعلى سطحها ظهرت.. تشققات.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق