-
800 ألف طن مخلفات النخيل تهدر سنويا ويمكن الاستفادة منها فى 65 صناعة
-
الجريد موصوم بأنه خشـب الفقـراء مع أن كفاءته تـوازى خشـب الزان
ما إن تطأ قدمك كلية الهندسة جامعة عين شمس، لا تتردد فى أن تسأل عن مكتب الدكتور حامد الموصلى الأستاذ المتفرغ بقسم ميكانيكا الإنتاج، أو «سفير المخلوقات المهملة» كما يلقبه تلاميذه ومريدوه. فعلى مدى 50 عاما أو يزيد ركز الدكتور حامد جهوده البحثية على تعظيم الاستفادة من مخلفات النخيل أو منتجاتها الثانوية والتى يتخلص منها المزارع بالحرق بعد مراحل التقليم. الجريد والعرجون والخوص وغيرها من القطع المهملة بالنخل بعد قطعها حولها الدكتور حامد من خلال دراسته إلى قطع نفيسة ومواد خام يمكن الاستفادة بها فى أكثر من 65 صناعة إنتاجية فمن تلك المنتجات الثانوية نجح الدكتور حامد فى تحويلها بدائل للأخشاب
كما رصد سبل الاستفادة منها كمخصبات للتربة وأعلاف للمواشى والدواجن كما نجح تلاميذه فى إنتاج ألياف نسيجية وعوازل للحرارة والصوت من جريد النخيل. حسب الموعد المتفق، ذهبت للقائه، تخطينا نباتات الغاب التى تزين مدخل المبنى وصعدنا إلى الدور الأول لمكتبه لنجده وسط تلاميذه ومساعديه يتحدثون عن مشاريع بحثية مختلفة، والحلول الممكنة للقرى الأكثر فقرا ولدعم صناعات شتى خاصة فى ظل ارتفاع سعر الدولار والحاجة الملحة لتوفير خامات وبدائل صديقة للبيئة ومستدامة وهو ما يمكن تحقيقه بالالتفات لمخلفات مئات الآلاف من المنتجات الثانوية للنخل.
المحرر أثناء لقائه الدكتور الموصلى وفريقه البحثى
فى البداية تحدث الدكتور حامد الموصلى عن مشروع كتابه الجديد والذى ستنشره إحدى الدور العالمية عن الصناعات التى يمكن إقامتها من منتجات النخيل من واقع أبحاثه هو وفريقه البحثى طوال تلك السنوات الماضية وتجاربه الميدانية فى قرية القايات بالمنيا والواحات الجديدة بتصنيع نماذج بسيطة من الأجهزة اليدوية لإنتاج بدائل الأخشاب من الجريد ونجاحه بالتعاون مع عدد كبير من المصممين المصريين فى إنتاج قطع أثاث من المنتجات الثانوية للنخل وباركيه للأرضيات.
يقول د. حامد هناك حاجة لإنصاف الخامات المحلية وإعادة القيمة ليها أمام المستهلك المصرى. وللأسف فنحن نفضل دائما الخامات المستوردة ونتعامل بسلبية شديدة مع الخامات المحلية، وكثيرا ما يتم النظر للجريد باعتباره خشب الفقراء، فى حين أن تلك الخامات ثروة قومية مهدرة. ووفقا للدراسات التى أجريناها فإن ألياف الجريد أثبتت جودتها العالية وكفاءتها فى تنفيذ كل قطع الأثاث بذات الجودة التى يتحلى بها خشب الزان.
ولعله من إيجابيات الأزمة الاقتصادية الراهنة أنها ستدفعنا للتفكير وتعظيم الاستفادة من الخامات المحلية ومنها بالتأكيد المنتجات الثانوية للأشجار والنخيل كمصادر مهمة لعدة صناعات، وأن نغير تلك الأفكار المغلوطة والوصم للجريد بأنه خشب الفقراء كما يدعى البعض. خاصة أن تلك الخامات تمثل توجها بيئيا ومستداما ومتوافقا مع الدعوى بعدم قطع الأشجار والبحث عن بدائل للخامات المستوردة أسوة بما يتم فى كثير من دول العالم باللجوء للخشب الحبيبى والذى هو فى حقيقة الأمر عبارة عن خليط من حطب الذرة الرفيعة ومصاصة القصبة والتى تستفيد منها شركات الأثاث العالمية. لذلك نحتاج أن نستعيد ثقتنا فى خاماتنا المحلية.
65 منتجا من النخيل
وعن الكتاب الجديد يقول د. حامد الموصلى إنه بمثابة إعادة اكتشاف لموارد النخلة. وبخلاف بيع التمور فإن مزارع النخيل فى مصر تنتج سنويا 800 ألف طن من المنتجات الثانوية منها 200 ألف طن من الجريد. هذه المنتجات الثانوية تعد كنزا «مستداما» ورؤية متفائلة للتعامل مع المنتجات الثانوية لنخيل التمر كقاعدة مستدامة لعشرات الصناعات التى يمكن أن تقام فى الريف والحضر وتوفر ملايين فرص العمل المستدامة فى مجالات متنوعة تبدأ بتسميد الأرض والأعلاف الداجنة والسمكية والحيوانية إضافة إلى بدائل للأخشاب، والورق وعجينة الورق والكيماويات الخضراء حتى الشمع الطبيعى للاستخدامات الصيدلانية والطبية والغذائية وصولا لعلاج تجاعيد الجلد ومستحضرات التجميل.
ويضيف د. الموصلى إن نخيل التمر فى بلادنا العربية والتى تتركز بها 80% من نخيل العالم تفتح مجالا لشعوبنا العربية للخروج من التبعية للغرب وبناء القدرات العلمية والتكنولوجية الذاتية حيث تتوافر هذه الموارد بشكل كبير ومستدام. إضافة إلى ذلك فالنخيل متوافر بأكثر من 38 دولة بمختلف قارات العالم مثل نخيل الزينة أو المنتجة للزيت ويمكن تعظيم الاستفادة من كل تلك المواد الثانوية بدلا من حرقها والتعامل معها باعتبارها قمامة ملوثة للبيئة.
حائط وأقمشة من الجريد
تلاميذ الموصلى
ويقول د. محمد هداية الأستاذ المساعد بقسم هندسة التصميم والإنتاج بهندسة عين شمس إن رؤية الدكتور حامد فى اللجوء للجريد بديلا للأخشاب دفعته لتصميم ماكينة يدوية تساعد المزارعين على إنتاج قطع من السدابات بديلة للأخشاب ومطابقة لمواصفات تصنيع الأثاث. ورغم نجاح تلك الماكينات البسيطة إلا أنها غير مناسبة للعمالة غير المدربة وتتسبب فى هدر الكثير من الجريد. لذلك قمت بتطوير الماكينة لتعمل بضغط الهواء والكهرباء وتنتج بدائل الخشب بجودة أفضل وبالمواصفات المطلوبة. ويضيف الدكتور هداية أنه وفقا للتجارب فقد نجحنا فى تجميع بدائل الخشب وتوفير الألواح بالقياسات المطلوبة بحيث يمكن من ذات المواد الخام عمل مشغولات مثل الأرابيسك أو طاولات وكل قطع الموبيليا.
ويؤكد أن التصميم الجديد للماكينة سيسهم فى إقامة مراكز تصنيع أولى لبدائل الخشب بالقرى والمحافظات بحيث يتم تجميع المنتجات الثانوية للنخيل وإنتاج الأخشاب ثم نقلها للمصانع وورش الموبيليا لإتمام المراحل التالية. هذا التوجه إذا ما دعمته الشركات وقطاعات الدولة سيسهم فى فتح أبواب عمل بالريف وإقامة صناعات لبدائل الأخشاب. اللافت فى الأمر، أنه خلال السنوات الأخيرة أدرك المزارعون أن هناك عائدا من مخلفات النخل لذلك تحرص المزارع الكبيرة على بيعه اليوم بدلا من حرقه. ولعل التحدى الراهن هو تحويل تلك التجارب الناجحة إلى صناعة قائمة وإنتاج مستدام لبدائل الأخشاب خاصة فى ظل الارتفاع الكبير فى أسعار الأخشاب. إلى جانب ذلك فإن تلك البدائل من الجريد الذى يتم تقليمه سنويا أفضل بيئيا من قطع الأشجار للحصول على الأخشاب.
وفى ذات السياق أوضح د. حامد الموصلى أنه يمكن تكرار ذات الأمر مع المنتجات الثانوية للأشجار المثمرة هذه التوجهات لا تعنى بالتبعية التوقف عن استيراد الأخشاب لكنها فى ذات الوقت ستتيح بدائل محلية تتميز بذات الجودة والكفاءة وأكثر توافرا واستدامة وأفضل للبيئة من قطع الأشجار.
مراحل إعداد ألياف نسيجية من الجريد
بدائل الأخشاب
وعن فرص ربط القرى بالمصانع، يحكى المهندس عمر عبدالمنعم المدرس المساعد بقسم تصميم وهندسة الإنتاج بهندسة عين شمس عن مشروعه البحثى لتصنيع ألواح خشبية MDF من الجريد حيث تواصل فى بادئ الأمر مع أحد المصانع بنجع حمادى والتى كانت تنتج تلك الألواح الخشبية اعتمادا على مصاصة القصب وفى ظل عدم توافر المواد الخام بشكل مستمر طوال العام وظهور منتجات مستوردة بالأسواق وبأسعار تنافسية تراجع إنتاج المصنع حتى توقف عن الإنتاج عام 2018. لكل ما سبق، تعاونا بالكلية مع المصنع بهدف طرح مخلفات النخل كبديل للمواد الخام وبعد شهور من التجارب والأبحاث تمكنا من إنتاج ألواح MDF من الجريد كما أضفنا لها مواد لاصقة صديقة للبيئة لتكون بذلك المنتجات مطابقة المواصفات التصنيع ومعايير التصدير لأوروبا ومختلف دول العال.
وتعليقا على تلك الدراسة يضيف د. حامد الموصلى إنه خلال مراحل تنفيذ المنتج قمنا بعمل عدة اختبارات سواء بالاعتماد على خامات الجريد فقط أو العرجون أو كل مخلفات التقليم. ووجدنا أن كل النتائج رائعة أسوة بالمنتج المستورد لذلك اقترحنا الاستفادة من مخلفات التقليم لتقليل نفقات الفرز والتصنيع. ويؤكد المهندس عمر أنه بعد نجاح تلك التجارب عاد المصنع للعمل من جديد اعتمادا على تنويع مصادر المواد الخام وهو ما حقق استدامة الإنتاج طوال العام.
ألياف بديلة للبوليستر
ومن الصناعات الخشبية إلى المنسوجات، حيث تحدث د. محمد الميدانى الأستاذ المساعد بقسم هندسة المواد بالجامعة الألمانية والباحث بكلية المنسوجات بجامعة نورث كارولينا بالولايات المتحدة الأمريكية عن تأثره بأفكار د.حامد الموصلى ومحاولته الاستفادة من ألياف الجريد فى قطاع المنسوجات وهى فكرة لم يتم التطرق لها من قبل. وعلى مدى 7 سنوات عمل د. الميدانى والفريق البحثى المشارك معه على تحويل الجريد لألياف مشابهة للكتان وتصلح للغزل والنسيج كما يمكن خلطها مع الكتان والقطن بدلا من البوليستر المصنع من المواد البتروكيماوية. لذلك فهم حاليا فى مرحلة بناء مصنع نصف صناعى فى مصر لإنتاج ألياف مخلفات النخل، كما تم تسجيل تلك التقنية كبراءة اختراع بالمملكة المتحدة.
على الجانب الآخر يوضح الدكتور محمد الميدانى أن قطاع صناعة النسيج والملابس يعد من أكثر القطاعات الملوثة للبيئة فـ 50% من الألياف المستخدمة فى صناعة النسيج والملابس من البوليستر، لذلك تسعى الدول للبحث عن بدائل أكثر استدامة لألياف المنسوجات وهى بشكل عام محدودة جدا كما أن الاستثمار الزراعى لإنتاج الألياف يؤثر سلبا على الإنتاج الغذائى ويعيد الجدل الدائم ما بين الزراعة لإنتاج الغذاء أم لتوفير ألياف المنسوجات، وبالتالى فإن الخبراء يرون أن الألياف المثلى هى التى يمكن الحصول عليها من المخلفات الزراعية. هذا التوجه العالمى يتم حاليا فى مجال صناعة الملابس والمنسوجات، حيث تجرى حاليا دراسات للاستفادة من مخلفات زراعة الموز والأناناس وغيرها من المنتجات الثانوية للنباتات لإنتاج ألياف لصناعة الملابس.
ماكيت لمظلة من الجريد
عوازل للصوت والحرارة
أما آخر الابتكارات، فكانت تلك التى عرضتها د. إيمان عاطف المدرس بقسم الهندسة المعمارية حيث استثمرت أفكار د. حامد الموصلى فى قطاع الإنشاءات بدراسة إمكانية تصميم أكشاك ومنشآت خفيفة ومظلات من جريد النخل ووجدت أن مقومات الجريد المتمثلة فى مرونة وكفاءة الخامات أسهمت فى الوصول لنماذج عالية الكفاء وغير مكلفة كما أنها لا تتأثر بالرياح أو هزات الزلازل. على الجانب الآخر وجدت د. إيمان أنه يمكن الاستفادة من ألياف الجريد فى تصميم خامات للعزل الصوتى أو الحرارى. وبمقارنتها بالخامات المستخدمة لذات الغرض وجد أن ألياف الجريد تحقق ذات الغرض وبتكلفة أقل بكثير من الخامات المستوردة. وتوضح د. إيمان أن هذا المشروع بالغ الأهمية خاصة أن البيوت فى مصر غير مصممة لعزل الحرارة وإذا ما تم اعتماد تلك التقنية وتطبيقها فمن الممكن أن تسهم فى خفض فواتير الكهرباء خلال شهور الصيف.
دعم الدولة والمجتمع
وتعليقا على كل تلك الدراسات يقول الدكتور حامد الموصلى إنه حتى ترى كل تلك المشروعات للنور ويشعر بجدواها المواطن فيجب أن تدعم الدول المزيد من الدراسات والبحوث فى هذا المجال لتعظيم الاستفادة وتوسيع قاعدة التصنيع، كما يجب أن يكون لدينا كمجتمع وقطاع خاص إيمان كاف بخاماتنا المحلية والمنتجات المصنوعة بتلك الخامات وهو أمر يحتاج لتغيير الوعى وربما كانت التحديات الاقتصادية العالمية فرصة للاستفادة من خاماتنا المحلية وتعظيم الاستفادة بها فى شتى مجالات التنمية.
رابط دائم: