الملعب ممتلئ لآخره. الجماهير الساخنة ما بين سكران ونصف سكران ومتلهف على الانقضاض الجنسى أو هو آت منتشيا من ممارستها، حشود تحوى المتألم من ظُلم ومن يشتهى الظُلم. ينتظرون الجولة الأولى فى شغف. ودخل الثور الحلبة مندفعا. كتلة عضلية هائجة مشرعة قرنين رهيبين. مساحة متسعة جديدة عليه تماما. صيحات الجماهير المشتعلة أربكته. هدأت خطواته وبدأ ينظر هنا وهناك ليفهم ما هو فيه فلم يفهم. كل ما أدركه أنه فى حظيرة شاسعة محددة بسور غريب. يتحرك الثور العضلى خائفا من كل هذا الصياح الهادر. يرفع رأسه ليرى.. ما كل هذه الأعداد من الحيوانات البشرية المتكتلة؟! لم يدرك الثور ما الأمر! عاد وصال عدوا هنا وهناك وقد تحول خوفه لغضب نارى.
دخل الحلبة المصارع ممسكا بالعلم الأحمر، فارتفعت صيحات الجماهير أكثر وأكثر مما زاد الثور ارتباكا. المصارع يرتدى ملابس أنيقة لصيقة بجسده النحيف الرشيق. أمسك بقبعته المتغطرسة يلوح بها وهو ينحنى للجماهير فى أركان الملعب المتخم بالحضور المشتعل. العارفون بهذه المصارعة الدموية، وبأحوال المصارعين، أحسوا بأن هذا المصارع مهزوز مضطرب.
الثور رأى هذا المخلوق الضئيل الذى دخل الحظيرة المتسعة نفسها! أخذ ينفث غضبه وهو يضرب بقدمه الخلفية فى الأرض وينثر ترابها خلفه، ثائراً متوتراً متجهماً ولا يفهم ما يجرى، ولم يفهم لماذا يقترب منه هذا المخلوق ويشيح له بالقماشة الواسعة! عينا الثورة لا تقلان بثا للرعب من جسده الضخم المدمج المعضل العفى. المصارع المهزوز عيناه الضيقتان تلاقتا مع عينى الثور، فاختلجت عينا المصارع واتسعت عينا الثور وقد وجدتا هدفا تفرغ فيه الغضب المكبوت. المصارع تخلخلت ركبتاه وقال لنفسه.. سيقتلنى هذا الثور الشرس. يتمنى أن ينسحب من تلك المصارعة المميتة. لكن تحت صيحات الجماهير التى تحثه على تحريض الثور للقتال، تقدم خطوات وهو يلوح برايته الحمراء المرتعشة. همهمات خيبة أمل من نفوس العارفين بالمصارعين وباللعبة وبالثيران.
الثور هاجم الكائن الذى مازال يلوح بالقماشة متحديا. فى اندفاعه طعن القماشة ومن يمسك بها طعنة هائلة فوجد نفسه يطعن الفراغ فاحتار وهو يستكمل اندفاعة خطواته المسرعة. التف ليرى ما هذا؟! الكائن حامل القماشة يقف فى مكانه. المصارع يرتعد بعد أن أفلت فى آخر لحظة من قرنى الثور. تكرر هجوم الثور على القماشة المراوغة المحيرة، فلا يجد القماشة ولا المخلوق! صيحات الجماهير تصيح بصيحة جماعية.. أوليييييه. أوليييييه. أوليييييه.
الصيحة تشجع المصارع وهو يتجنب طعنات الثور العفى الغبى. الحشود فى كل مراوغة من المصارع تشعر باهتزازه وبخوفه المتزايدين. زادت من صياح أوليييييه لتدفعه على الثبات والشراسة فى مواجهة الثور. هجمة من الثور ومراوغة غير متقنة من المصارع. المصارع ساقاه زادتا فى الارتعاد. نفسه أحست بأن الموت آت له حالا. أن قرن الثور أو قرنى الثور معا ستمزقانه تمزيقا. يشعر بأن الباقى له دقائق يتنسمها وهو على قيد الحياة، وستنتهى تلك الدقائق بتمزق صدره بالقرنين. وقف مذهولا وقد ارتخت يمناه حاملة الراية، لا يريد إثارة الثور الذى أرهقته هجماته الفاشلة فوقف يلهث على بُعد منه. لا يفهم الثور كيف وقد طعن هذا المخلوق بقماشة عدّة مرات فلم يصبهم؟! عدوه الضئيل يقف ثابتا يعلن توقف القتال، فبقى هو واقفا يلهث وقد قرر ألا جدوى من الهجوم، قرر التوقف عن القتال.
صيحات الجماهير تنطلق فى أمواج منغمة أوليييييه. أوليييييه. أوليييييه، لتشجيع المصارع وحضه على مواصلة النزال. لقد أتوا ودفعوا أموالا سينال المصارع أغلبها، إذن لماذا لا يقدم لهم مقابل ما دفعوه؟ فرض عليه مواصلة القتال، فهذا هو ثمن مادفعوه وما احتشدوا من أجله. عليه إمتاع الحشود ببراعة إنسانية يبديها فهى تخصهم، عليه نيابة عنهم أن يبدى شجاعة فى مجابه الخطوب تنتمى لهم كلهم. يجب عليه أن يؤكد لهم قدرتهم على مجابهة الخطوب، والخطوب هنا متجسد فى جسد هذا الثور البشع. لقد قدم نفسه رمزا بطلا لا يأبه بالموت فيشبع لهفتهم على القتل والتقتيل، يروى تشوقهم لمتعة الذبح وإسالة الدماء. فَلِم يقف هذا المصارع الجبان وقفة صنم؟ لماذا يخذلهم هذا المصارع الحقير؟
سكون. توقفت صيحات أوليييييه. الثور ثابت فى مكانه وقرر ألا يهاجم. والمصارع يقف على مبعدة منكس الراية مرعوبا ولن يهاجم. الجماهير صامتة مصدومة، ثم انكسر الصمت فدوت صيحات الغضب فى مدرجات الملعب تلعن المصارع بمئات المئات من الحناجر، لكن لا شىء يتحرك فى الحلبة! إذن حَيث العارفين بأن هذا المصارع مهزوز، كان حسا فى محله. صاحوا لاعنين المصارع آمرين له بالتقدم للقتال فتستمر اللعبة الدموية. لا المصارع تحرك ولا الثور ترك مكانه!
الحشود المتحفزة خاب أملها فى مشاهدة نزيف الدم ومقتل ثور هائج، أو مصرع مُصارع شجاع لم يهب الموت! الحشود المتشوقة للدماء ثارت رافضة أن يتم التغرير بها، واستبدال عرض سخيف بارد مقرف بعرض قتال دموى.
البداية شابان متهوران وثبا فى الحلبة ولم يهاجما الثور، بل هاجما المصارع مغتاظين. أولهما أطاح بالمصارع أرضا بلكمة غل، ثم هو والثانى أخذا فى ركله وهو ملقى بركلات انتقام. أدرك المصارع أنه لن يموت بقرنى الثور كما كان يتوقع، بل بقبضات وركلات البشر.
وثب فى الحلبة مئات من المتهورين. لم يكتفوا بالهجوم على المصارع الذى تحلقت حوله عشرات تركله وهو ملقى أرضا ولن تتركه حتى يصير جثة مشوهة.
مئات الحشود تركز هجومها على الثور الذى هاجمهم هو بدوره وتمكن من إصابة ثلاثة من الكائنات التى تندفع عليه. صيحات المهاجمين مستمرة وهجومهم مستمر.
وثبوا على ظهر الثور وأمسكوا بقرنيه وتكالبوا عليه ضربا بالأقدام حتى أسقطوه أرضا، وانهالوا عليه بالركلات ولم يتركوا مكانا فى جسده القوى إلا وركلوه حتى صارت عضلاته ممزقة ووجهه مهشما. استمروا فى الركل اثنان انحنيا على ركبتيهما وقاما بعضه فى بطنه، والثالث ركع ليعضه فى زوره.
الثور يخور مستسلما حتى لفظ أنفاسه مع الرغاء الدموى المنبعث من منخريه وفمه. وهنا تم ما أرادته الحشود. تم الصراع الدموى الذى يشبع النفس البشرية.
تصاعدت صيحات فرحة.. منتشية.. أوليييييه.. أوليييييه.. أوليييييه.
رابط دائم: