فى كثير من قصص الأدب والحياة، يقف المكان بطلا محوريا تدور حوله الفكرة، ومن مركزه تنطلق الشخصيات وتتصاعد الأحداث. ولن يعثر التاريخ على أفضل من أرض مخيم جنين شاهدا على مشوار أمة تقاتل رياح الظلم وتكسر شوكة الاحتلال.
وصدَّرت هذه المنطقة الجغرافية الفلسطينية “صداعا مزمنا” فى رأس قيادات إسرائيل على مر العقود نظرا لأنها احتضنت براعم المقاومة من مختلف الأعمار. فقد كشف الكاتب الإسرائيلى يارون فريدمان فى مقال له على موقع “زمن إسرائيل” حجم مخاوف الصقور والحمائم فى تل أبيب من مدينة المقاومة شمال الضفة الغربية. وأوضح أن أدهى السياسيين اليهود أقروا بأن جنين تحولت فعليا إلى الراعى الرسمى لكل أشكال ورموز النضال ضد ممارسات الجيش الإسرائيلى القمعية. واستطاع المخيم الصامد أن يُولِّد من “دينامو المقاومة” مئات العناصر والكوادر التى وحدت صفوفها. ومنذ عام ١٧٩٩، تصدى سكان جنين للقوات الفرنسية الزاحفة بقيادة نابليون بونابرت على أراضيهم. لتسارع القوات الفرنسية بإشعال المدينة ونهبها لكسر شعبها. وفى أثناء الحرب العالمية الأولى، عندما وقعت جنين تحت الاحتلال البريطانى كسائر الأراضى الفلسطينية فى سبتمبر ١٩١٨، رفعت المدينة شعار البقاء حتى آخر قطرة دم، حتى نظَّمت أول مقاومة مسلحة عام ١٩٣٥ بقيادة عز الدين القسام ومعه مجموعات فدائية من الفلاحين. فصارت المنطقة منذ ذلك الحين مركزا رئيسيا للمقاومة الفلسطينية، ويحمل فرحان السعدى “إرث القسام”، ويتوجه بأبرز عمليات المدينة ضد الاحتلال بقتل قائد بريطانى كبير فى مكتبه بجنين عام ١٩٣٨. وارتبط اسم “جنين” داخل أروقة المجتمع الدولى ومنظماته الكبرى بمجزرة أبريل ٢٠٠٢، لتصبح أحد أبرز الأحداث التى فضحت بشاعة الاحتلال وبسالة المقاومة فى المخيم. فبعد حصار دام ١٠ أيام بلا مياه وكهرباء وطعام وعلاج، قصف الاحتلال المخيم بطائرات “إف - ١٦”وبالمدفعية مما أدى إلى استشهاد ٥٢ فلسطينيا، وتدمير ١٥٠ بناية بالكامل، مقابل مقتل ٢٣ جنديا إسرائيليا على أيدى رجال المقاومة، الأمر الذى استنفر العدو الإسرائيلى للبحث عن أية وسيلة لاختراق “أسوار جنين”. وتكتسب جنين خصوصية من ٤٠ ألف نسمة يقطنونها، معظمهم مسلمون مع أقلية مسيحية، فضلا عن قرار أهالى المدينة بالإنفاق على التسليح من أموالهم الحرة دون الاعتماد على مصادر التنظيمات الفلسطينية. وبشهادة الأعداء، لم تركع جنين يوما لآلة الحرب الإسرائيلية، حيث أكد الصحفيان الإسرائيليان جدعون ليفى وأليكس ليفاك بصحيفة “هآرتس” فى مقال شهير عام ٢٠١٦ بعنوان “جنين تلوح بالراية البيضاء”، أن المخيم كان خارج نطاق الخدمة بضع سنوات لتتوهم الحكومة الإسرائيلية أن الكابوس قد زال، إلا أن باطن جنين لاينضب من معادن النضال النفيسة. وبينما حجارة أطفال غزة تملأ شوارع وميادين القطاع المحتل، يتأهب دائما “مخيم الشجاعة” بتصويب سلاحه النارى نحو صدور الجنود الإسرائيليين، ليبث الرعب فى نفوس عائلات تل أبيب. ولايتوقف نهر العطاء فى “جنين” عن الفيضان بروافد المقاومة من كل مكان وبؤرة داخل الأراضى الفلسطينية، بل يوفر التربة الخصبة لنمو العمليات الاستشهادية وتحصينها ضد التصفية والجفاف.
رابط دائم: