رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

بية النسا

جلاء الطيرى
جلاء الطيرى


تستقبلهم عند سكون الليل ونوم الكلاب التى غلبها السكون، فما من صوت ولا مشاء تخيفه بنباحها، حتى الذئاب نامت بعد أن عزّت فرائسها، وحده هو وجاره رست عليهما نوبتجية الليل التى تبدأ مع آذان العصر وتنتهى فى الثانية ليلا، زميله وجاره أعطى لرئيسه فى العمل، فطيرتين غارقتين فى السمن البلدى ودقيق القمح الذى كانت تدّخره أمه من التصييف فى أرض الناظر، كانت تنقى القمح المتساقط وسط شقوق الأرض والسبل الذى لم يهتم عبدالعال الخرافى بجمعه لضربه وتدريته عند هبوب الرياح، طحنته بيديها على الرحى، وادخرت زجاجة سمن لم تبعها فى السوق، وقطعتين من الجبن المعتق فى المش، أعطاهما له راجيا منه أن يعفيه من نوبتجية الليل، لم يكن يملك سليمان ما يرشو به رئيسه فى شركة السكر، ليغير مواعيد عمله، لم يملك سوى حجرتين من الطين اللبن، وماعز عجوز يتركها تأكل فى أرض الله، بيته على أطراف القرية بجانب المشروع، يطيب له النظر من شق فى الجدار على بنات شمّرن جلابيبهن لملء الجرار، أو غسل الأوانى والملابس، قد تتهور إحداهن قرب مغيب الشمس فتتخفف من ملابسها، وتغطس فى الماء، ترشه على صويحباتها، يتلفتن يمينا ويسارا وحين يتيقنّ من بابى الموصد، ومن خلو الطريق من الرجال، يخلعن ملابسهن ولا يبقين إلا على ما يجعل بئره المعطلة تفيض بمائها حتى ليحسبه لن ينضب أبدا، يعود بعد أن يطفئ وهجه متعبا منهكا من الطيران وراء بنات يدارين أنوثتهن تحت ملابس لا تشى بما تخبئه من فتنة الله، التى تجعله يرتمى على مصطبة من الطين وحصير من نبات الحلفاء، يجعل ظهره كلوحة تنطبع عليها خطوط بالعرض والطول وأحيانا دوائر إذا انفلتت إحدى خصل الحصير والتفت حول نفسها، أليست المرأة مخلوقا من الطين؟! وتلك المصطبة من الطين، يلف حصيره ويلقيه بعيدا وينام متوسدا وملتحفا.

المسافة ما بين المدينة التى بها مصنع السكر وبين القرية التى يسكن فى أطرافها كبيرة، يقطعها الراكب لبغلته فى نصف ساعة، أما الماشى فيقطعها فى ساعة، انتهت مناوبته فى الثانية ليلا حين رنّ جرس يعلن انتهاء المناوبة وبداية أخرى، هى المرة الأولى التى سيمر على بيه النسا وحيدا من غير ونيس يشجعه على عبور كوبرى عبدالرجال الذى تمر عليه قطارات من وإلى الوجه البحرى.

قطاران فقط يمران كل أسبوع واحد قادم من القاهرة وأخر فى نهاية الأسبوع للعودة، أحدهما داس رأسها، فجعلت القطارات تنقلب أو تأكل رجلا نهاية كل سنة عندما يحين موعد قتلها، وكأنها تنتقم من قاتليها، أترانى سأكون رجلها المنتظر؟ فتلقى برأسى تحت عجلات القطار، أو ستسحبنى إلى البحر وتغرقني؟ أو ربما ستعصرنى مع عيدان القصب، وتصهرنى تحت غلايات العسل الأسود، هذه موتة بشعة، أنا راض بأن تسحبنى هى وجنيات البحر.

جــــــــاءت بعد سبعة ذكور أخذوا من أبيهم سمرته ومن أمهم أنفا غليظا اشتهرت به عائلتها، فهو كميراث أزلى يتوارثونه جيلا بعد جيل، الجيران يقولون لها: اشكرى الله أن خلفتك كلها ذكور.

فى حملها الثامن لم تشعر بما شعرت به من قبل وكأن أنفها قد صغر قليلا وبياضها الذى تشوبه صفرة صار مشرّبًا بحمرة جعلت خديها يستديران كتفاحة.

أحست بضرباتها وحركتها من الشهر الرابع، تجلس أمام بيتها بعد أن أتمت مهام البيت فهذا هو الوقت الذى تجتمع فيه النسوة على عتباتهن،لتناقل أخبار النجع عن التى ضربها زوجها، وعن التى سحرت له فصار كالدجاجة تصيح فيه فلا ينطق، نظرت إليها إحدى الجارت قائلة: شكلك حبلى يا حزينة فـ بت، أصل البت بتحلى أمها، ربنا يسترها وما تطلعش شبه اخواتها الولاد.

تذكرت حلما رأته بالأمس وقامت بعده منقبضة الصدر. لم تعد كما كانت صبية تحمل وتُرضع، وأيضا تشعر بالخجل فهى وزوجة ابنها البكرى قد حملتا معا. بينما زوجها يمشى متباهيا بفحولته، جاءتها بديعة الحلبية حاملة صرتها بها مناديل ملونة وعطور، وبِنَس وزيوت لإطالة الشعر، لم تكن نساء القرية يدخلنها بيوتهن، كن يخفن على رجالهن من تلك الحلبية التى تخطف الكحل من العين، ألم تغرِ أمُّها من قبل ابن العمدة الذى صار يهيم على وجهه من مولد لآخر ومن بلد لأخر وراءها؟ وعندما فشل العمدة فى ردع ابنه الذى صار سيرة تُحكى؛ قتل الحلبية وأبناءها ولم يبق منهم سوى بديعة، وجدها أحدهم، وسط أعواد القصب ترضعها كلبة مع جرائها، كانت عيناها فى خضرة أعواد الذرة ولشعرها، نعومة شواشيه.

زوجته فى البداية، رفضتها ولكنها وجدت اللبن ينساب من ثدييها رغم أنها لم تنجب، رقت لها ربتها حتى ماتا وورثت حجرتهما.

- خطى لى يا بديعة.

- هاتى سبع بلحات أخط بيهم.

ساوت بديعة الأرض المتربة بيديها وفركت نوى البلح:

- ارمى حسنتك وشوفى هتقول إٍيه ودعتك.

ألقت بسبع حبات من النوى فكن مقلوبات على ظهورهن، أعادت رمى النوى مرة ثانية وثالثة، وكان نوى البلح على نفس الشاكلة، بان الخوف فى عينى بديعة:

- خير إن شاء الله ربنا هيرزقك ببنت جمالها يتحاكوا به.

صرخت صرخة جعلت من فى البيت يهرولون، جاءها الطلق وهى فى شهرها السابع، تحاملت على بديعة ولكنها تهاوت هناك بجانب شجرة التوت فى باحة البيت، انفجر الرحم عن دم وماء ورأس تطل تنتظر من يتلقفها، كانت يد بديعة هى الأقرب من الكل أقرب من القابلة التى لم تأتِ، تعالت صرخات النسوة عن التى ماتت وتركت بنتا كالقمر.

البنت رفضت أثداء نساء القرية، تعالى صراخها من الجوع، البنت التقمت ثدى بديعة الحلبية، وراحت ترضع فى نهم.

ولأن البنت كانت كالقمر أسماها أبوها: بيه النسا.

«بيه النسا» أول كلمة نطقتها هى «أمى» قالتها لبديعة الحلبية، اعترض أخوتها الذكور، ألا يكفى أن تكون أختهم الوحيدة نمت عظامها من لبن حلبية، ضربوها فكانت تجرى وتحتمى ببديعة،كبرت بيه النسا، وكبرت الغيرة فى قلب زوجة أخيها الأكبر الذى أمسك بزمام البيت بعد وفاة أبيه، كحكايات الليل التى تتناقلها الجدات عن بنت كالقمر جعلت العرسان يدقون بابها ليل نهار، ويتغافلون عن ابنة زوجة أخيها الدميمة، كانت هكذا حكاية بيه النسا، جعلت قلوب شباب القرية تدق ليل نهار، عندما ينساب شعرها من تحت طرحتها السوداء، عندما تذهب لملء جرتها، متغافلين عن ابنة أخيها التى ورثت منه سمرة وجهه وأنفه الكبيرة، زوجة أخيها الأكبر تدبّر الخطط الى تجعل بيه النسا تكره البيت ومن فيه، تجد فى بديعة الحلبية وعوالمها جزيرتها المأهولة وبرها الآمن، فزوجة أخيها تعاملها معاملة زوجة الأب، لا تترك فرصة إلا وتخوض فى سلوكها وتقول إنها ربيبة حلبية.

تستقبل بيه النسا الليل بفارغ الصبر؛ لتسمع غناء ورقص الحلبيات اللاتى دققن خيامهن بالقرب من دار بديعة وكأنهن وجدن فى بيت بديعة وطنا يأوين إليه، يأتى موعد مولد الشيخ البهنساوى متزامنا مع مولد «العدرا»، تتشابه الطقوس، فيأتى مَحْمَل الشيخ البهنساوى على جمل، ويرتدى مريدوه عمائم خضراء يسيرون خلفه يدقون بالدفوف، تقام الحضرة، وصورة كبيرة للعذراء مريم تأتى محمّلة على عربة نصف نقل يجرى وراءها عيال المسلمين قبل عيال النصارى، ترانيم هنا وحضرة هناك، والحلب فى عالمهم الخاص يدقون الطبول، ترقص نساؤهم وتغنى، وحواة وبائعون للألعاب وضاربات للودع، وبيه النسا تستقبل الليل الذى يفتح لها أبواب السهر والتخفى وراء أخرى ليست هى، تتخفف من أحزانها عندما يأتيها صوت المغنى الذى أسكره ضرب الدف، وتلك الحلبية تتمايل.

لم يكن بوسعها الذهاب، ولكنها تقف على أطراف أصابعها ترهف السمع من شرفتها تتخيل نفسها كمثلهن تتمايل على ضرب الدفوف وتغنى معهم، لم تستطع صبرا تحايلت على بديعة الحلبية أن تأخذها معها ولكنها رفضت وحذرتها من الذهاب ففى ذلك موتهما معا.

تخرج متسللة فى الليل ترتدى جلباب أبيها الذى غادر عالمها مع أمها بعد مولدها بقليل، تلف شاله، تخبئ وجهها وتذهب إلى خيام الحلب، تستمتع بغنائهم ورقصهم، يسكرها الحشيش المتصاعد مع أنفاس السكارى والمترنحين، تهم بخلع شالها تلمحها بديعة تجذبها من يديها، تدخلها البيت:

- إيه اللى جابك؟ لو حد لمحك.. يقتلوكى.

لكن بيه النسا كانت مستمتعة وخائضة فى قدرها، أخذتها بديعة من يديها إلى البيت دعت الله ان يكون أخوها نائما وإلا قتلها.

أغلقت الباب عليها ومضت وهى تتذكر نوى البلح المقلوب لا أحد قادر على تغيير القدر.

فى طيش مقدر لها، وكأن نداهة تناديها، تخفّت وذهبت لخيامهم، وكأن لبن الحلبية يسيرها، مرة وراء مرة تخلت عن حذرها، انزاح شال أبيها عن شعر بلون الشمس، وعيون بلون الفتنة، فغر المجتمعون حول الراقصة أفواههم مولين وجوههم شطر بيه النسا،.. لم تأبه لصياح بديعة، ولم تستسلم ليدها التى تشدها خارج الخيمة، أخذت تصفق وتغنى، فى الصباح شاع الخبر عن شال تدنس بالطين تحت أقدام السكارى والراقصين، تحت شرفتها لم يفيقوا بعد من سحرها، وهى غارقة فى نومها تحسب ماعاشته حلما، همت بشد بصرها لتروى حلما صعب عليها تأويله، رأت نفسها مشقوقة الصدر ودم يسيل من جِوال عُبئ فيه جسدها ورأسها تتدلى من يد أخيها الأكبر..

وصافرة قطار فى جوف الليل..

وهى على كوبرى عبدالرجال

تستقبل المارين

تأخذهم معها إلى خيام الحلب.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق