رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

صلاح جاهين موهبة لا تتكرر إلا كل ألف عام
بهــاء جـاهــين: كتابى«الملك والمالك» كتب نفسـه!

أسامة الرحيمى
بهاء جاهين

  • عندما زرت  فؤاد حداد انتزعنى من الفصحى إلى العامية
  • كتابة الفصحى كانت تمردا لا شعوريا على هيمنة أبى
  • صداقتى بأبى بدأت على أعتاب المراهقة وتولى تثقيفى وأحياناً كنت أراه فى مثل عمرى حين يحكى لى أسرارا لا يقولها الآباء عادة لأبنائهم وذلك جعلنى أحبه أكثر
  • صلاح جاهين علمنى أن الشاعر الناضج هو الذى يتوصل إلى صوته الخاص
  • طلبت من أمى أن تكون هدية نجاحى أعمال محمود درويش
  • عصر أبى شهد توهجا نادرا وذروة نهضة قومية بدأت مع ثورة 1919 ونهضة دول العالم الثالث المتحرر من إرث الاستعمار

 

 


لا أنسى، مرّةً. كان لى حوار كبير نسبيا، وله مقالة.

وهو رئيس القسم! والمساحة محدودة. لا تسع الاثنين مع بقية الشغل!

وما اعتدناه، تأجيل كل شىء إلّا ابتكارات رؤساء الأقسام.

فأى شىء يمكن التضحية به لأجلها!

لكن «بهاء جاهين» بادر من فوره، لتأجيل مقالته، ليمنح مساحته لحوارى بأريحية عفوية.

أرجِّح أنه لا يتذكر تلك الواقعة

ليس لأنه فقط يفهم معنى الأنيّة الصحفية.

ولا لأن عدم نشر الحوار سيجرده من ضرورته المهنية، وينزله إلى درجة «فات أوانه»!

بل، لأنه كان ممن يؤمنون بأولوية العمل، وأهمية الموضوعات. فإذا فاز أديب بجائزة مثلا، فحواره أولى.

ليس هذا وحده. فقد اكتشفت طوال الوقت، أنه لا يقدم ذاته أبدا على أحد

ولا ينادى أى شخص باسمه مجردا، وإن كان أصغر منه بعشرين سنة

فلا ينطق الاسم هكذا إلا إذا أراد الإفصاح عن حبّه لمن يناديه

ولا يكلّف أحدا بعمل إلا من يطلبه ويكون قادرا عليه

ويساند من يطلب عونه

قلت له: أريد محاورة نجيب محفوظ، ومهاتفتك أنت له ستوفر عليّ جهدا كبيرا

فرفع السمّاعة من فوره وطلبه. فحضرت ستة مجالس متتالية لأديب نوبل

واستضفت عشرة أدباء فى ندوة واحدة لنشرها بصفحتنا، فحضر ليرحب بهم، وأخبرهم أنها فكرتى وأسئلتى، وأنه ضيف مثلهم

ولست عشرة سنة. كنت أجد أمامى جده الأكبر المناضل الصحفى «أحمد حلمى» مرة!

أو جده بهجت، القاضى العادل، مرة ثانية ورئيس نيابة المنصورة، الذى أخرج فلاحى قرية بهوت المظلومين، من حجز قسم الشرطة، لأن الإقطاعى أمر بحبسهم بمزاجه لأنهم طلبوا جزءا من أجرهم!!

وكانت صرخته لمأمور القسم: «بلاش كلام فارغ» سبب قصيدة: «..القمح زى الفلاحين..»

أو أرى صلاح جاهين نفسه أحيانا!

ثم أيقنت لاحقا. أنهم جميعا تجسدوا فى «بهاء جاهين»

ولفرط إعجابى بنزاهته وأشعاره، طلبت محاورته فى صفحتنا أكثر من مرة

وما زلت أعتقد أنه لو تم لكان مثالا لحسن استغلال النفوذ فى الصحافة

رفض بلطفٍ وإصرار، خشية اتهامنا باستخدام الصفحة لصالحنا

لم تكفه حُججى، ولا ثقته، بأننا بعيدون عن الشبهات

وأخيرا اجتمعت لنا الأسباب:

صدور كتابه البديع «المُلك والمالك» الفائز بجائزة ساويرس.

واختيار والده عنوانا لدورة معرض الكتاب 54

واسترجاعا للحوار المُعلّق!!


مع أننى عملت معك لسنوات فى القسم الثقافى، لم أعرف شيئا عن بداياتك الشعرية، متى وكيف كانت؟ وهل بدأت بالعامية أم الفصحى؟

كانت بدايتى مع الشعر قصيدة عامية كتبتها فى الفصل مع زميل لى «سنّيد أو مُشجِّع، فلم يكررها فيما أعلم»، وأنا فى «ستة ابتدائى» عام 1968، وكان عمرى وقتها 12 سنة، تحت تأثير النكسة وحرب الاستنزاف. وكان مطلعها: «علشانك يا وطنى ح اموت/ وح اسيب لك أشجار التوت». ثم مر عام أو يزيد، ومع بداية المراهقة صار فعل الكتابة من عاداتى، واستمرت لغتى عامية حتى اكتشفت شعراء الخمسينيات والستينيات المصريين من كُتاب الفصحى فى مكتبة أبى: صلاح عبدالصبور وحجازى وأمل دنقل أضف إليهم محمود درويش. وأتذكر أنى حين نجحت فى الإعدادية سألتنى أمى: أجيب لك إيه هدية نجاحك؟ فقلت لها دون تردد أو تفكير: الأعمال الكاملة لمحمود درويش. ومع بلوغى الخامسة عشرة صرت أكتب بالفصحى، واستمر ذلك ــ مع استثناءات قليلة ــ طوال عقد السبعينيات تقريباً، حتى زرت فؤاد حداد فى بيته فانتزعتنى العامية من تمردى عليها حتى أنفى.

الآن وأنا أسترجع الماضى أرى بسهولة ويقين أن اختيارى للفصحى لغة لقصائدى كان تمرداً لا شعورياً على هيمنة أبى الشعرية. لم يكن قراراً عمدياً، لكن من الواضح أنه كان ولو جزئياً هروباً من تأثير أبى الطاغى كشاعر. وبالطبع كنت أعرض نماذجى الأولى «العامية ثم الفصحى» عليه وأستفيد من ملاحظاته؛ لكنى لاحظت، مع توغلى فى المراهقة وما يصحبها من ميلودراما، أن أبى كان يحزن من نبرة الموت والسوداوية المتكررة فيما كنت أكتبه آنذاك، فتوقفت عن عرض قصائدى عليه حتى بلغت العشرين وشفيت إلى حد ما من داء الميلودراما. وبين العشرين والثلاثين عرضت عليه مشروع ديوانى الأول عدة مرات، لكنه فى كل مرة كان ينصحنى بالانتظار قليلاً، ويضيف: رغم جودة القصائد كل واحدة فى حد ذاتها فإن مجموع قصائدك لا يطرح رؤية متكاملة ولا يقول للناس شيئاً محدداً. وضرب لى مثلاً بديوانه الأول «كلمة سلام» الذى كانت قصائده تقول فى مجملها المغزى الذى يحمله عنوان القصيدة الأخيرة فى الديوان: بكره أجمل م النهارده. فامتثلت لنصيحته وصبرت حتى بلغت الثلاثين، وعرضت عليه مسودات ديوانى الأول «الرقص فى زحمة المرور» وكان يحوى ما ظننته أفضل تجاربى الفصحى والعامية، فقال لى: الآن انشُر.

ومن كان يضيف للآخر، أو يأخذ منه، أم أنها دائرة طبيعية وحتمية؟

تعلمت من أبى الكثير، كشاعر وكإنسان، واستفدت كثيراً من تجربته، الجمالية والإنسانية. وكان هو فيما يبدو لى الآن يؤمن أن كل جيل عليه أن ينقل تجاربه وخبراته ومعارفه وذائقته للجيل الذى يليه؛ فلم يكن يكف عن الحكى معى ولى عما عايشه وقرأه أو استخلصه من الحياة والكتابة والمعرفة، من خلاصة خبرات جمالية وحياتية وفلسفية. ومع أنّى قرأت كثيراً، فللآن وبعد رحيله بعشرات السنين أحس أنّى تعلمت شفاهياً منه ما هو أنفَس وأقيَم وربما أكثر مما تعلمته من قراءاتى وكتاباتى وتجاربى الحياتية. كان الأساس الذى عليه بنيتُ خبراتى الخاصة، وفى ضوئه رأيت الحياة والشعر والفن والمعرفة.

أمّا التلقى، والتحدى الهائل الذى يواجهه ابن فنان عظيم حين يجد نفسه وقد انتمى لنفس المضمار الذى شهد عظمة أبيه، فهذه مسألة أخرى، ومأزق يزداد إحكاماً كلما زادت عبقرية النبع الأصلى الذى أنت رافد منه.

ومتى شعرت أنك وصلت إلى عالمك الشعرى الخاص المنفصل عن أية مخاوف، ولماذا تبدو مسألة «المبدع ابن المبدع» على هذه الدرجة من الحساسية «الإبداعية» لدى البعض؟

وجدت صوتى الخاص فى شعر الفصحى بسرعة فاقت بكثير ما حققته تجاربى الأولى بالعامية. فبينما كان عدد لا بأس به من قصائد الفصحى التى كتبتها بين السادسة عشرة والسادسة والعشرين له مذاق يختلف عن إبداعات آبائى الشعريين الذين ذكرتهم فى إجابة السؤال الأول تأخر تحررى من تأثير صلاح جاهين وفؤاد حداد، فلم أجد صوتى الخاص فى العامية إلا وأنا أقترب من الثلاثين.

أما فيما يخص حكاية المبدع ابن المبدع وحساسية البعض المفرطة إزاءها، فلقد كنت أتضايق مما ظننته فى الماضى رفضاً مسبقاً لى ونفوراً مما أكتب، ربما من قبل أن يقرأه الناس، فى ضوء فكرة سابقة التجهيز: إنى مجرد مقلد وظل شاحب لأبى، ونصف موهبة فرضها على الناس نفوذ أبى العظيم وعلاقاته فى الوسط الأدبى والصحفى. كنت أرى، وما زلت، أن هذا ينطوى على بعض الظلم؛ لكنه لم يعد يضايقنى بل أتفهمه، حين ضبطت نفسى أفعل نفس الشىء مع فنانين موهوبين يرتبط اسمهم مع فنانين آخرين أكبر سناً أو شهرة أو مقاماً، بِصِلَة دم أو نسب، فأشعر بنفور فورى تجاه ممثل ما مثلاً أو ممثلة بمجرد أن أجده فى عمل ينتمى للزوج أو الأب، ويملؤنى إحساس بأن ذلك الابن أو تلك الزوجة قد تم فرضها علينا نحن المشاهدين، مع العلم بأنه فى كثير من الأحيان يكون ذلك الفنان الذى نرفضه ونحسه عبئاً علينا على درجة كبيرة من الموهبة!.




وكيف تعامل الشاعر والأب صلاح جاهين مع كل هذه المراحل؟ وأيهما كان أكثر تفهما لمحاولتك الانفصال الإبداعى، الأب أم الشاعر؟

أبى علمنى أن الشاعر الناضج هو من يتوصل إلى صوته الخاص الذى يميزه عن باقى الشعراء. وكان معجباً بما أكتبه فى الفصحى منذ سنواتى الأولى شاعراً، ويرى أن قصائدى العامية ليست بنفس النضج، حتى توصلت بعد اجتهاد وجهاد إلى صوتى الخاص فى العامية، كما ذكرت.

سألتك ذات مرة: «هل والدك كان لطيفا مثلك»، فقلت لى بيقين: «كان ألطف بكتير»، فما تجليات ذلك اللطف؟ وقد ظهرت جينات الجمال الإنسانى والإبداعى منذ جد والدك الصحفى الكبير المعروف «أحمد حلمى»، وجدك المباشر، بهجت، القاضى، فهل للشعر دور فيه بجانب الوراثة. ولماذا لم أسمعك مرة تُفاخر بأصولك، هل التواضع جزء من جيناتكم أيضا؟.

كان أبى إنساناً رقيقاً مرهف الشعور؛ بسيطاً متواضعاً؛ خفيف الظل ووقوراً فى الوقت نفسه؛ يجمع بين الطفولة والحكمة؛ بين البراءة والرزانة؛ خفيف الروح لكن بعيداً كل البعد عن خِفّة العقل؛ ويقدس العمل، ويتمتع بقدرة خارقة على الصبر واحتمال الشدائد والتفانى فى أداء الواجب. وحباه الله شفافية وقدرة على معرفة الناس من نظرة واحدة، واستشفاف طبيعتهم وأحياناً مستقبلهم. كان فى شخْصه يجسِّد لى القِيَم دون أن يحتاج للوعظ والنصح. وهو حتى الآن مثلى الأعلى والمثال الذى أطمح أن أحتذيه. وكذلك جدى وجده. وقد يكون للجينات أيضاً دور فى هذا. وأشكرك يا صديقى العزيز على أنك وضعتنى مع هؤلاء الرجال فى جملة مفيدة.




لك صورة رائعة شهيرة، ووالدك يحملك على ظهره فى المصيف، تبدوان فيها سعيدين جدا؟ فكيف كانت علاقتكما؟

الصورة لحظةٌ تحولت إلى أبد. وجمال بعض الصور يكمن فى أن الهناء العابر يمتلك حق الوجود الأزلى. وأنا لا أتذكر علاقتى بأبى حين كنت صغيراً جداً إلا من خلال الصور. لكن صداقتنا بدأت وأنا على أعتاب المراهقة، وتولى هو تثقيفى، وأحياناً كنت أراه فى مثل عمرى، حين يحكى لى أسراراً لا يقولها الآباء عادة لأبنائهم، بل يتبادلها الأصحاب، وذلك ما جعلنى أحبه أكثر.




هل يخايلك طيفه أحيانا فى مواقف معينة، أو تسمع صوته. وهل يزورك فى أحلام مثلا المنام ويبلغك أنه راض عنك؟ هل ما زلت تفتقده بعدما صرت جداً؟

أحياناً وأنا أجلس وحدى، بالذات عند انتصاف الليل أو بعد ذلك، أشعر بوجود أبى، كأنه يقف صامتاً بجوارى، رأسه قرب رأسى. يحدث هذا فى بعض المواقف التى أشعر فيها بالحاجة إلى تأييد، أو إلى نُصح. ولا أدرى هل يأتى حقاً أم أننى أخترعه.




هل أسعدك إطلاق عنوان قصيدة صلاح جاهين «على اسم مصر» وصورته شعارا للدورة 54 من معرض القاهرة للكتاب؟ وكذا، إعادة طباعة أعماله الكاملة، ودواوينه مفردة؟

أسعدنى جدا أن يكون صلاح جاهين عنوانا لهذه الدورة من معرض الكتاب، فهو من أهم وأكبر المبدعين، ولن أقول تذكير به لأنه لم يغب، فإبداعاته موجودة طوال الوقت، واحتفال الشعب المصرى به لم ينقطع، وزاد بعد رحيله، وبشكل ما هو تقدير لفنان كبير متعدد المواهب، بذل جهودا مشهودة من أجل وطنه، وإحياء لجديته وإدراكه أهمية الأحدث التاريخية التى عاصرها، وتفاعله معها كما ينبغى للمبدع.

أما عن كتبه، فكانت له ستة دواوين من 1955 إلى 1984، وطُبعت معا فى الجزء الأول من الأعمال التى أصدرتها هيئة الكتاب فى سبعة أجزاء قبل سنوات. والجديد فى معرض هذا العام إضافة للنسخة المجمعة القديمة، هو إعادة نشر نفس الدواوين مُفردة، وأشير فى بطن الغلاف إلى تاريخ الطبعة الأولى.

وكان أول الدواوين «كلمة سلام» «55»، و»موال عشان القنال» «57»، و «عن القمر والطين» «61»، والرباعيات الأولى كتبت ونشرت تباعا فى مجلة «صباح الخير» أسبوعيا من 59 إلى 1962، وبعدها ترك المجلة إلى الأهرام، ثم نشرت الرباعيات فى كتاب سنة 1963، ولم يكتب رباعيات ثانية إلّا بعد عودته لرئاسة تحرير «صباح الخير» «66/67»، ولم يحتمل العبء الإدارى للمجلة. وفى التوقيت نفسه جاءت نكسة يونيو 67. فغادر المجلة إلى الأهرام مرة أخرى. وقبل ذلك الوقت فى 1965 صدر له الديوان الخامس، وكان يعد لنشر ديوانين، يريد تسمية أولهما «أشعار فكاهية»، وتغلب عليه أزجال فكاهية خفيفة، وديوان آخر تتسم قصائده بكثافة شعرية وبعضها بالقتامة وكان ينوى تسميته «غنوة برمهات»، ولكن حين طلب منه الكتاب الذهبى ديوانا عام 1965 فرش قصائد الديوانين أمامه على المكتب، وكانت حوالى 70 قصيدة، فبدت كأنها ليست لشاعر واحد، فمزجهما معا، لإبراز عنصر والتنوع، ولهذا أسمى الديوان «قصاقيص ورق»، ونشر فى 1965، ونفد فى يومين فقط، وصدرت له طبعة ثانية بعدها بقليل.

وكانت النكسة سببا فى توقفه عن كتابة الشعر، أو تقليلها، فلم يعد إلى الشعر إلا مع الأحداث الوطنية التى هزته بشدة من نهاية الستينيات إلى منتصف الثمانينيات, مثل معركة شدوان، وضرب مدرسة بحر البقر، ومصنع أبو زعبل، و وعودة اسم مصر رسميا بعدما كانت الجمهورية العربية المتحدة. واتجه بعدها للدراما، والأوبريتات، وأغانى الأطفال، وغيرها. وفى 1984 طلبت مكتبة مدبولى نشر ديوان له، بعد عشرين سنة تقريبا من توقفه عن النشر، فجمع ما كتبه من شعر وبعض أعماله الغنائية منذ صدور ديوان «قصاقيص ورق» وإلى منتصف الثمانينيات، وكان أهم ما بينها ملحمة «على اسم مصر» التى كتبها فى مستشفى بموسكو ولم يكملها، والقصائد الأولى التى كان يتذكر بها عبدالناصر كل عام فى ذكرى وفاته، والقصائد التى نشرها فى مربعه الشهير فى الأهرام أثناء حربى الاستنزاف، وأكتوبر 1973، فى متابعة يومية لمعارك العبور، طوال فترة الحرب، وضمّنها أيضا الرباعيات التى كتبها من قبل 66 إلى 67، ونشرت كلها تحت عنوان «أنغام سبتمبرية» تعبيرا عن الروح العامة للديوان، ولارتباط العنوان بوفاة عبدالناصر فى سبتمبر 1970.


جاهين مع المحرر


أصبحت شاعرا كبيرا لك بصمتك الإبداعية، وكتبت الغناء، ومثّلت أيضا، ودراستك كانت أكثر تخصصا من أبيك، فلماذا يبدو هو وجيله أكثر توهجا ونجومية منك ومن جيلك؟ هل لذلك علاقة بعصره وقوة طلوع كل الأشياء لأعلى وقتها؟ أم عيب فى حاضرنا ونزول كل شىء؟

لن أتحدث عن جيلى وجيله، لأن التعميم هنا سيكون غير دقيق، وإن كان لا يخلو من دلالة. أما إن تحدثت عن نفسى مقارنة بأبى، فلا شك أنه أكبر موهبة مني؛ فهو عبقرية لا تتكرر إلا كل ألف عام. ومما لا شك فيه أيضاً أن عصره عصر توهج نادر، وذروة نهضة قومية بدأت مع ثورة 1919، ونهضة عالمية شملت عدداً كبيراً من دول العالم الثالث المتحرر وقتها حديثاً من إرث الاستعمار. ومما لا شك فيه ثالثاً أن الجيل الذى أنتمى إليه، والأجيال التى تلته، يحتشد بالمواهب، وأن المتابعة النقدية هى القاصرة عن ملاحقة الزخم الإبداعى، وأن الشعر بالأخص لم يَعُد يُحتفى به كما كان الحال قديماً.

درست اللغة الانجليزية، وحزت درجة الماجستير فى الأدب الإنجليزى، فلأى مدى كانت الدراسة ظهيرا لإبداعك الشعرى، وهل أفادتك فى الصحافة ورئاستك للقسم الثقافى لأكثر من 15 سنة؟

اخترت دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها فى الجامعة، لتوسيع آفاقى الجمالية، وتمكينى من الاطلاع على ما لا يتاح لى مترجماً، سواءً كان مكتوباً أصلاً بالإنجليزية أم منقولاً من لغة أوروبية أخرى. ولم أندم على هذا الاختيار، حتى لو كانت الدراسة إلى حد ما «مٌتحَفِيّة» كما رآها أبى عند مناقشة الأمر بعد حصولى على الثانوية العامة. يكفى أننى استطعت أن أقرأ شكسبير بلغته، وأدخلنى فى حال من النشوة، بعدما كنتُ أتساءل قبلها حين أقرأه مترجماً إلى العربية: لابأس به. لكن ما سر تلك الضجة المثارة حوله

أمّا فى عملى الصحفى والنقدى، فلا شك أنى استفدتُ بعض الشىء من خلاصة ما تعلمته من تنظير أدبى، وإن كنت أرى أن الخضوع لنظريات الأدب والنقد يضر أكثر مما ينفع.

وانشغلت بالصحافة لعقود، وانهمكت فى مسئوليات إدارة قسم لسنوات ممتدة، فكيف ترى أثر الصحافة على المبدع ووقته ومخيلته؟ وهل كان تأثيرها عليك بالخصم أم الإضافة؟

قليل من الشعراء استطاع التكسب من موهبته والاعتماد عليها فى رزقه. وتحقق لى ذلك لبعض الوقت لكنه لم يدُم. والعمل الصحفى، كغيره من الأعمال، يقتطع من وقت الإنسان وجهده الكثير؛ لكنه لا يختلف فى هذا عن الطب والهندسة وغيرهما من المهن. وإذا كان الإشراف على صفحات الأدب مرهقاً، فهناك أعمال تستهلك المرء أكثر بكثير. ولا شك أن الصحافة الأدبية تفيد المبدع لأنها تتيح له الاطلاع على كثير من نصوص الأدب التى ربما ما كان لينتبه إليها لو كان عمله فى مجالات أخرى.

قدمت للواقع الثقافى إبداعات عديدة، عدد كبير من دواوين شعر العامية، أعجبتنى كلها، وقدمت أيضا الغناء، واستوقفتنى أغانى «بوجى وطمطم»، وأحسست أن بداخلك طفلا صغيرا طيبا طوال الوقت، فلأى مدى تدخل فى أعمالك، وهل كنت تتركه حرا أثناء الكتابة، يضفى عليها من براءته، أم كنت يقظاً له وتتحكم فى دوره وظهوره؟

الإبداع كله ــ لا الكتابة للطفل فقط ــ يرتبط بالطفولة؛ لأنه فى جوهره نوع من اللعب، مهما بلغت جديته أو حتى قتامته. وكلما ترك المبدعُ الطفلَ اللاشعورى اللاهى داخله حراً، ولم يسمح للناقد المسيطر على وعيه أن تكون وصايته على اللاوعى المبدع مستبدة، كان هذا أفضل لعملية الإبداع، خاصة أثناء الكتابة الأولي؛ فهيمنة الوعى النقدى بآرائه المسبقة يمكن أن تخنق العمل أثناء تخلّقه. لكنّ القراءة النقدية للعمل من جانب الكاتب تكون مطلوبة وضرورية بعد الكتابة الأولى.

ديوانك الأخير «الملك والمالك» من أول لمحة أعطانى إيحاءات متعددة، مثل «مُلك ومنظمه سيده»، و»دع الملك للمالك»، وكلها تعنى أن العنوان أعمق من ظاهره بكثير، وأن الدنيا أوسع مما نتخيل، أو أن الحياة أعقد وأكثر تركيبا من اعتقادنا؟ فهل ابتعدت تصوراتى كثيرا عن عنوانك الجميل؟

أفضل كلمة «كتاب» لا «ديوان» فى الإشارة لذلك العمل؛ لأنه يستعصى على أى تصنيف آخر. أمّا العنوان، فأنت محق تماماً فى إحساسك: فالواقع أن هذا الكتاب كتب نفسه منذ البداية؛ البداية البعيدة؛ وبإيقاعه الخاص الذى لا يأبه لى، ولا يعترف بتصوراتى. فلم يكن بوسعى إلا أن أدع المُلك للمالك، وأعترف بمحدودية ذاتى القاصرة، خاصةً حين يكون الطموح هو وصف ما لا يوصف، ورسْم ما انطبع فى وجدانى من ذلك الكائن شديد التعقيد الذى هو الكون نفسه؛ ظاهرة الوجود بكل ما فيها، ومن فيها.

يبدو لى من كلامك، وكتابك أنك فى حالة وجدانية واضحة، بإيحاءات دينية لطيفة، فهل هى قديمة لديك، أم تزايدت تدريجيا مع تقدم العمر؟

بدأ هذا التوجه الوجدانى منذ كنت فى الرابعة والعشرين من عمرى، وظهر متفرقا فى بعض كتاباتى، لكن ظهوره فى كتاب «الملك والمالك» هو التعبير الأعمق عن التوجه الوجدانى.

أهديت الديوان إلى «روح الشر فى العالم» فكيف يعقلها من يعرفون طيبتك وطفولتك، فأنى لإنسان رقيق مثلك أن يهدى شيئا للشرّ إلّا من باب الاستخفاف به أو السخرية منه، أو لمهاجمة القبح بالجمال؟

سؤالك يتضمّن إجابته. فالحقيقة أن الإهداء استخفاف بالشر وسخرية منه، ومهاجمة للقبح بالجمال.

فى الديوان أيضا تمثّلت أكثر من شخصية، كأنها أجزاء شاردة منك أردت لملمتها وتأملها إذا اجتمعت، أو تصور: «ماذا لو كنت أنا كل هؤلاء»، أو أنها تقلبات الإنسان بين حالات تبدو متناقضة فى مُراوحاته الاعتيادية بين الصح والخطأ، فهل هذا تلق صحيح لبعض إبداعك فى الكتاب؟

هذه قراءة ثاقبة للنص، تنفذ إلى صميمه: فحالة الانفجار الكونى العظيم التى أدت إلى نشوء الكون فى النهاية، وكانت موضوع الفصل الثانى «مشروع ملحمة» من الكتاب الأول «عذولك قلبك»، توازيها حالة التشظى إلى عدة ذوات «شادي/ شهاب/ الشيطان» التى أدت إلى نشوء النص، منذ الكتاب الأول وحتى نهاية العمل. والواقع أن التوازى بين الظواهر الكونية وبين الشخصيات يتكرر خلال العمل: فمثلاً فى الكتاب التاسع «التوائم» شخصية البنتين التوءم «منتهَى ومشتهَى» المتطابقتين شكلاً والمتضادتان روحاً هما انعكاس لبعض مكتشفات علم الفيزياء عن المادة والمادة المضادة، حيث الأخيرة صورة طبق الأصل للأولى، ولكن الشحنة الكهربائية متضادة، وفى المادة البروتون إيجابى الشحنة والإلكترون سلبى الشحنة، بينما العكس صحيح فيما يُسمَّى «ضد المادة».

وحيَّرنى «شادى» كثيرا، الذى يُعدّ بطل الكتاب، أو النص الملتبس، فكيف يكون البطل مسلوباً، أو مغلوباً، ألم نعتد انتصار البطل. هل تقصد هذا، أم كان عفو لحظة الإبداع واستحسنته لسبب ما؟

ليس من الضرورى أن يكون بطل العمل فارساً مغواراً كأبطال الملاحم؛ ورغم ذلك فشادى المهزوم ينتصر بمواصلة الوجود بعد موته، ومواصلة الكتابة حتى وهو جثة، وينتصر على جنونه بالتواصل مع العقل الكونى ومنبع الحب فيه أو هكذا يظن ونهاية العمل مفتوحة لتصديق المجنون أو الهزء بأفكاره.

وهل يتقاطع «شادى» بمختلف تفاصيله مع «بهاء جاهين» على أى نحو، سلبا أو إيجابا، فى الواقع أو التخييل؟ أم أنها محض تجربة إبداعية، حاولت وضعها على الأرض لترى نتائجها فى ردود الفعل؟

شادى فيه بعض الشبه منى، وكذلك شهاب، والشيطان الذى يجرى من الإنسان مجرَى الدماء كما قال الرسول الكريم. وبلغة علم نفس القرن التاسع عشر وأوائل العشرين هذا الثلاثى يمكن ترجمته إلى: الأنا و الأنا العليا والهُوَ. لكن يجب أن نتذكر أن هناك مسافة تفصل بين الكاتب وشخصياته الدرامية.




لماذا شعرت أن «الملك والمالك» ليس مغامرة إبداعية فقط، بل رهان كبير على المستوى الشعرى، ومغامرة إنسانية أخيرة لنصرة بطل يبدو مغلوبا أو مهزوما إن لم أكن مخطئاً؟ وأتمنى أن أكون مخطئاً؟

الرهان نوع من المقامرة. وأنت محق: فبالفعل هذا العمل يتخطى المغامرة إلى المقامرة الكبرى. فكل المسلمات والقواعد والتقاليد الإبداعية تمت الإطاحة بها. وحتى إن لم أفز بالمجد، فقد ربحت المتعة. لقد استمتعت جدَّا بالحرية الفنية التى منحتُها لكتابى أو منحها هو لى، وهو الأصح. لأنى ما زلت أعتقد، بل وأجزم أن الملك والمالك كتب نفسه.

 

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق