فى الوقت الذى كادت فيه الخلافات السياسية تصل إلى ذروتها بين أبرز وجهين لثورة 23 يوليو حتى فرقت بينهما فى النهاية، إلا أن الشىء الوحيد الذى جمعهما كان هو فن كوكب الشرق.. كان ذلك فى الخميس الأول من شهر يناير 1954 عندما غنت أم كلثوم فى حضور الرئيس محمد نجيب وجمال عبدالناصر وزملائه من أعضاء مجلس قيادة الثورة، قبل أن تعصف أزمة مارس «بعد نحو شهرين» بين من كان رئيسا «نجيب» وبين من سيكون رئيسا «ناصر»، وكانت حالة الغريمين فى حفل أم كلثوم دالة على شخصيتهما، فنجيب حسب وصف كاتب الحفل قد «أغمض عينيه ومال برأسه إلى الوراء»، أما عبدالناصر فقد كان «يسبح بنظره فى الفضاء البعيد»، وهو ما يعنى أن نجيب كان يعيش اللحظة، وعبدالناصر كان يفكر فى المستقبل، ولذلك كان نجيب ضحية حاضره الذى أوهمه أنه يسيطر على الجماهير التى تصفق له، فاكتفى بها دون أن تكون له سيطرة على الحكم، بينما كان عبدالناصر يحكم سيطرته على الحكم، ومن ثم كسب الجولة الأخيرة، وأهمية هذا الحفل لأم كلثوم أنه يرصد لنا لأول مرة انفعالات أعضاء مجلس الثورة الذين وحدتهم كوكب الشرق على حبها وتقدير فنها، رغم اختلافهم السياسى الذى فرقهم وباعد بينهم، بينما جمعتهم «الست» وقربت بينهم.. وهو ما يعيد تذكيرنا بأهمية القوى الناعمة فى تذويب الفوارق وإلغاء الحدود والحواجز.
............
كانت مجلة «آخر ساعة» هناك ترصد الحدث الذى التقى فيه الخصمان الكبيران، لم تشأ المجلة التى كان يرأس تحريرها آنذاك محمد حسنين هيكل أن تسجل وقائع الحفل لأهميته باسم محرر معين، ليكون ذلك الشرف باسم المجلة كلها، وإن لم نستبعد أن يكون هيكل نفسه هو الذى تابع الحفل بتفاصيله التى لا يعرفها إلا من كان قريبا جدا من ضيوف الحفل الكبار، وهذا نص ما نشر فى 13 يناير 1954:
«عادت أم كلثوم تواجه الجماهير فى الأسبوع الماضى من جديد، وانطلق الصوت الذى غاب عن الميكروفون عاما كاملا، يملأ جنبات مسرح «ريفولى» ويتجاوب مع تصفيق الجماهير، وقد استمر هذا التصفيق أكثر من ثلاث دقائق كاملة حينما رفع الستار فى الساعة العاشرة والربع، وظهرت أم كلثوم».
ثوب أسود قطيفة
وكانت ترتدى ثوبا من القطيفة السوداء، ووضعت على صدرها وردة صفراء، وتمسك فى يدها منديلا أصفر اللون، وتلبس سوارا من الماس وقرطا من اللؤلؤ وخاتما ماسيا فى يدها اليمنى، أما حذاء أم كلثوم فقد كان ذهبى اللون أيضا. وكان على المسرح حول أم كلثوم ثمانى طاقات كبيرة من الزهر، أرسلها إليها المعجبون.. وقبل أن يرفع الستار عنها صعد الصاغ صلاح سالم إلى المسرح ودخل خلف الكواليس، وهنأ أم كلثوم بعودتها، ثم خرج إلى الميكروفون وشكرها على مساهمتها بهذه الحفلات فى رفع مستوى برامج الإذاعة.
كيف كانوا يسمعون؟
وبدأت أم كلثوم تغنى «جددت حبك ليه؟».. وبدأت مختلف التعبيرات والانفعالات ترتسم على وجوه الجالسين.. وفى الصف الأول كان يجلس اللواء محمد نجيب وضباط قيادة الثورة والوزراء، وعلى وجوههم ظهرت الأحاسيس المختلفة.
أم كلثوم فى حوار باسم مع محمد نجيب
مثلا كان الرئيس محمد نجيب يستمع إلى أم كلثوم، وقد أغمض عينيه ومال برأسه إلى الوراء.. بينما انكمشت يده على أطراف غليونه، وأخذ ينفث دخانه فى هدوء.
أعضاء مجلس قيادة الثورة يتابعون الحفل
«نجيب» يستمع مغمض العينين و«ناصر» عاقدا يديه على صدره و«عامر» يصفق بحرارة و«البغدادى» يشعل 5 سجائر و«صلاح سالم» يتابع كل التفاصيل
وكان البكباشى جمال عبدالناصر يسبح بنظره فى الفضاء البعيد، فى نفس الوقت الذى تماسكت فيه أصابع يديه وعقدهما على صدره.
وكان قائد الجناح عبداللطيف البغدادى يتابع كلمات أغنية أم كلثوم فى ورقة صغيرة أمسكها بيده.. بينما أخذ يتنقل بعينيه بين أم كلثوم والورقة المكتوبة، ودخن فى الوصلة الأولى خمس سجائر فقط، وفى كل مرة كان يقوم من مقعده لكى يطفئها فى «الطقطوقة» التى أمامه!.
مع الميكروفون
أما الصاغ صلاح سالم فقد كان يستمع إلى أم كلثوم وأذنه مع ميكروفون الإذاعة.. وكل خمس دقائق كان يقوم من مكانه ويميل على المذيعين الذين جلسوا أمامه مباشرة ويسألهم: ازاى الحال.. الصوت كويس! وهكذا.
وكان اللواء عبدالحكيم عامر يغمض عينيه كلما ازداد الهدوء والانفعال، ثم يميل على البكباشى حسين الشافعى الذى يجلس بجانبه، ويهمس إليه بكلمات إعجاب خافتة، ثم يصفق بحماسة لأم كلثوم وهو يطلب منها أن تعيد بعض فقرات الأغنية.. كل هذا وأصابعه لا تتخلى عن السيجارة المشتعلة!.
بذلة سوداء رمادية
وكان جميع ضباط الثورة الذين حضروا الحفلة يرتدون الملابس العسكرية، ما عدا صلاح سالم الذى ارتدى بذلة سوداء، وزكريا محيى الدين الذى ارتدى بذلة رمادية اللون.. والوزيران المدنيان اللذان حضرا الحفلة هما عبدالرزاق صدقى وزير الزراعة، وكان يستمع إلى أم كلثوم وقد لبس نظارته الطبية، والدكتور وليم سليم وزير الشئون البلدية الذى كان يفتح فمه ويتمتم ببعض كلمات الأغانى!.
مفاجأة من أم كلثوم
وقد غنت أم كلثوم فى الوصلة الأولى «جددت حبك ليه»، وفى الوصلة الثانية «رباعيات الخيام»، وكان المفروض أن تغنى فى الوصلة الثالثة «أنشودة الأمل».. ولكن الذى حدث أن أم كلثوم نزلت إلى الصالة بعد انتهاء الوصلة الثانية وقالت إنها قد أعدت مفاجأة للحاضرين.. وابتسم صلاح سالم وكان الوحيد الذى يعرف سر المفاجأة وأخذ يراجع بعض الكلمات المكتوبة على ظهر علبة السجائر.. وحينما جاء القصبجى ليسأل أم كلثوم عن الأغنية الثالثة قامت معه، ثم رفع الستار ووقفت أم كلثوم تقول: «إلى إخوانى فى السودان.. أقدم أجمل التهانى وأطيب تمنيات شعب مصر بمناسبة تشكيل أول وزارة سودانية.. ألف مبروك»، وسكتت أم كلثوم وانطلقت الموسيقى بأنغام أغنية السودان، وهنا فقط عرف الجميع لماذا ابتسم صلاح سالم؟.
وحدث فى أثناء أغنية السودان شىء مهم.. فما أن وصلت أم كلثوم إلى الشطر الذى يقول: «ولكن على الجيش تبنى البلاد»، حتى أخذت الجماهير تصفق بحماسة عجيبة، وأعادت أم كلثوم هذا الشطر وحده ثلاث مرات، وكان أول من صفق لها حينما أعادت هذا الشطر هو اللواء عبدالحكيم عامر نفسه.
ترددوا معى؟
وبعد أن انتهت أغنية السودان.. تمهلت أم كلثوم قليلا، وأخذت الجماهير تطالب بنشيد «صوت الوطن»، وازدادت الحماسة فاقتربت أم كلثوم من الميكروفون وقالت لهم: ترددوا معى؟، وتجاوب الحاضرون معها وقالوا فى صوت واحد: نعم..
وبدأت تغنى نشيد «صوت الوطن».. واستمر وحده نصف ساعة كاملة، وبعد أن انتهت وأسدل الستار على أم كلثوم، فوجئ الحاضرون بأم كلثوم تخرج مرة أخرى وتعيد ترديد الشطر الأخير من النشيد.. وهنا فقط التهب شعور الحاضرين بعد أن رفع الستار من جديد، وأخذوا يرددون:
«نحبها من روحنا.. ونفتديها بالعزيز الأكرم» أكثر من مرة.. وانتقلت الحماسة من الجماهير إلى عبدالحكيم عامر وحسين الشافعى، وانطلقت أصواتهما مع أم كلثوم تردد النشيد.
الصف الأول فى حفلة أم كلثوم.. كان يجلس فيه جمال عبدالناصر ومحمد نجيب وعبدالحكيم عامر وعبداللطيف بغدادى وزكريا محيى الدين وصلاح سالم قبل الوصلة الثالثة، وقالت أم كلثوم: ألف مبروك من مصر إلى السودان.. وبحماسة عجيبة صفق الصف الأول ومن بعده الصالة كلها.
رابط دائم: