بريطانيا تتحول بسرعة لمجتمع فقير به نخبة من الأغنياء.
هذا التحول متسارع لدرجة أنه خلال السنوات العشر المقبلة ستصبح أوضاع الطبقات الفقيرة وشرائح الطبقة الوسطى فى بريطانيا أسوأ حالا من نظيرتيها فى بولندا وسلوفينيا.
التحذيرات من تحول المجتمع البريطانى لمجتمع فقير تأتى من اليمين واليسار على حد السواء. فالمراكز البحثية الاقتصادية المحسوبة على التيار اليمينى، وتلك المحسوبة على اليسار تحذر من مخاطر الأداء الاقتصادى الضعيف على «الجيل الضائع فى بريطانيا»، أى البريطانيين العالقين فى حلقة مفرغة من الأداء الاقتصادى السيئ من 2010 إلى 2020، وسط مخاوف من أن العقد الحالى 2020 إلى 2030 سيكون بنفس سوء العقد الماضى. لكن المفارقة أن الحلول التى يقدمها كل تيار تختلف بشكل جذرى عن الآخر.
مؤسسة «ريزليوشن فاونديشن»، وهى مؤسسة بحثية اقتصادية بريطانية مستقلة، وضعت صورة قاتمة للأوضاع الاقتصادية فى البلاد، موضحة فى تقرير أخير لها أن متوسط الدخل الحقيقى للأسرة البريطانية انخفض بنسبة 7% منذ العام الماضى. وأن هذا الانخفاض هو استكمال للانخفاض الحقيقى لدخول الأسر البريطانية منذ الأزمة المالية 2008، وإجراءات التقشف الحكومية القاسية خلال العقد الماضى، والتداعيات الاقتصادية الكارثية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، وتراكم الديون والركود الاقتصادى بسبب جائحة كوفيد 19.
وفى حكم دامغ، يخلص التقرير إلى أن الدخل الحقيقى للأسر البريطانية لم يزد منذ 15 عاما.
وبكل المعايير هذه خلاصة قاتلة بالنسبة لحزب المحافظين الذى يحكم البلاد منذ 2010. فمنذ عام 1948، زاد الدخل الحقيقى للبريطانيين والقوة الشرائية بشكل مطرد وتضاعفتا كل 30 عاما تقريبا. فالدخل والقوة الشرائية ارتفعتا بمقدار الضعف من 1948 إلى 1978. ومن 1978 إلى 2008 كانت فى طريقهما للتضاعف إلى أن حدثت الأزمة المالية العالمية التى أتت على الكثير من المكاسب الاقتصادية للطبقة الوسطى البريطانية. وبدون الأزمة المالية 2008، وتداعيات البريكست، وجائحة كوفيد 19، والحرب الروسية ـ الأوكرانية كان متوسط الدخل الفردى فى بريطانيا سيكون أعلى 40% مقارنة بما هو عليه اليوم.
بريطانيا تتراجع أمام سلوفينيا وبولندا
ولأن هذا لم يحدث، فإن حال الطبقات الوسطى والفقراء فى بريطانيا يتراجع مقارنة بالاقتصاديات الأوروبية الأخرى. ففى دراسة نشرها المحلل الاقتصادى جون بيرن مردوخ فى صحيفة «فايننشال تايمز» أوضح أن متوسط الدخل فى بريطانيا أقل بكثير من متوسط الدخل فى أماكن مثل النرويج أو السويد أو أيسلندا أوألمانيا. وأن دخل الفقراء فى بريطانيا بات أقل حتى من نظرائهم فى بولندا وسلوفينيا.
فى المقابل، فإن الأغنياء فى بريطانيا هم من بين الأغنى على مستوى العالم. فإذا كنت ثريا فى بريطانيا فأنت على الأرجح ضمن قائمة أغنى 10% على مستوى العالم. لكن هذه الصورة الوردية تختفى كلما نزلت من التسلسل الهرمى الطبقى.
فمثلا تحتل الأسرة النرويجية، سواء الثرية أو الوسطى أو الفقيرة، قائمة الأعلى دخلا فى أوروبا. وهذا يعنى أن أفقر 5% فى النرويج هم الأكثر ازدهارا وسط المصنفين فقراء فى العالم. بعبارة أخرى النرويج مكان جيد للعيش فيه، سواء كنت غنيا أو فقيرا كما يخلص جون بيرن مردوخ.
هذا لا ينطبق على بريطانيا بأى حال لأنه بينما يحتل أصحاب الدخول الأعلى المرتبة الخامسة وسط الأغنى على مستوى أوروبا، تحتل أسر الطبقة الوسطى البريطانية المرتبة 12، بينما يحتل أفقر 5% من البريطانيين المرتبة 15 وسط فقراء أوروبا. والأرقام لا تكذب، ففى 2022 كان مستوى المعيشة للفئات الأقل دخلاً بين الأسر البريطانية أقل بنحو 20% من الفئات الأقل دخلا فى سلوفينيا.
ووفقا للاتجاهات الحالية، سيكون دخل فئات الطبقة الوسطى فى سلوفينيا أفضل حالا من فئات الطبقة الوسطى البريطانية بحلول عام 2024. أيضا ستكون الطبقة الوسطى البولندية أفضل حالا من الطبقة الوسطى البريطانية خلال العقد الحالى إذا ظلت الأوضاع الاقتصادية فى بريطانيا كما هى عليه اليوم: أى انكماش اقتصادى وجمود فى الأجور الحقيقية.
الجمود الحقيقى للدخول والأجور فى بريطانيا تترتب عليه نتائج تشمل الاقتصاد الكلى، مثل نسب النمو وإيجاد الوظائف والادخار. لكن جمود الأجور تترتب عليه نتائج أخرى تتعلق بالتداعيات الاجتماعية والنفسية لضعف القدرة الشرائية.
ووجدت دراسة استقصائية أجرتها مؤسسة «ريزليوشن فاونديشن» فى نهاية العام الماضى، أن نحو 25% من الأشخاص الذين استطلعت رأيهم قالوا إنهم لا يستطيعون توفير مدخرات ثابتة تبلغ 10 جنيهات إسترلينى فى الشهر، ولا يستطيعون تحمل تكلفة تشغيل التدفئة فى الشتاء، ولا يمكنهم تحمل إنفاق مبالغ صغيرة على أنفسهم مثل شراء ملابس جديدة أو تناول الطعام خارج المنزل، ولا يمكنهم استبدال الأدوات الكهربائية التى تعطلت، ولا يمكنهم السفر فى الإجازة الصيفية، ناهيك عن حضور مسرح أو سينما. فكل هذه تصبح رفاهيات باهظة إذا لم تستطع الوفاء بالأساسيات. بينما قال نحو 10% ممن تم استطلاع رأيهم إنه فى بعض الأيام خلال الشهر عانوا من الجوع لأنه لم يكن لديهم المال لشراء طعام.
هذه النسب مرتفعة بشكل لافت مقارنة بالسنوات الماضية. فقبل ثلاثة أعوام أجرت «ريزليوشن فاونديشن « بحثا مماثلاً وكانت نسبة من لديهم مخاوف دائمة بشأن الانفاق على التدفئة، أو الادخار الشهرى الثابت، أو شراء أجهزة كهربائية جديدة عند الحاجة، بين 2% إلى 8% فقط. وبالتالى وصولها اليوم إلى 25% يعكس التدهور السريع فى أوضاع الفقراء وشرائح الطبقة الوسطى.
الوجوه العديدة للفقر
طبعا قياس الفقر والأداء الاقتصادى لا يكون بالأرقام فقط، أى الدخول والأجور، بل بأداء الخدمات العامة، أى جهاز الرعاية الصحية، ونظام الرعاية الاجتماعية، والنظام التعليمى، والبنية التحتية، وشبكة المواصلات، والاتصالات.
فالتقشف أدى إلى تدهور حاد فى الخدمات العامة. فقد تقلص نصيب الفرد من التمويل الحكومى لنظام الرعاية الصحية، والخدمة الاجتماعية، والمدارس الحكومية، وجهاز الشرطة، ومراكز خدمات الشباب والرياضة، والمكتبات العامة، وشبكات المواصلات والاتصالات والانترنت فى الريف. والفئات الأكثر تضررا من ضعف أداء الخدمات العامة هم الفقراء وشرائح الطبقى الوسطى. فالأغنياء لا ينتظرون فى قوائم انتظار المستشفيات أو يستخدمون المواصلات العامة أو يرسلون أبناءهم للمدارس الحكومية. وبالتالى فإن الفجوة الطبقية الحقيقية فى بريطانيا لا تقتصر على الدخول والأجور، بل تمتد إلى الخدمات العامة التى يتراجع أداؤها بشكل مثير للقلق بسبب نقص التمويل الحكومى.
طبعا نظام الرعاية الصحية، وهو نظام مجانى يخدم 66 مليون بريطانى، أكثر نظام خدمة عامة فى وجه العاصفة. فإضرابات الممرضين والمسعفين والأطباء تتواصل منذ أسابيع طلبا لرفع الأجور بنفس نسبة التضخم، الذى يبلغ نحو 11% فى بريطانيا.
حتى الآن لا يبدو أن الحكومة بصدد رفع الأجور بنفس نسبة التضخم بسبب المخاوف من تأثير ذلك على عجز الموازنة العامة وزيادة التضخم أكثر.
وعوضا عن رفع الأجور، بات المزيد من الأصوات، خاصة فى حزب المحافظين الحاكم، تتحدث عن أفكار لإنقاذ نظام الرعاية الصحية من بينها إلغاء كونه مجانيا. ومن ضمن الأفكار المطروحة مقترح لوزير الخزانة والصحة السابق ساجد جاويد، أن يدفع كل بريطانى مبلغا رمزيا صغيرًا عند كل زيارة للطبيب، بالرغم من أن الضرائب على الدخول فى بريطانيا تشمل ضرائب لتمويل نظام الرعاية الصحية. أيضا بين المقترحات ألا يكون نظام الرعاية الصحية مجانيا للجميع، وأن أغنى 10% من المواطنين يمكن ان يدفعوا مقابل علاجهم فى المستشفيات الحكومية.
هذه المقترحات لم يبدأ التعامل معها بجدية بعد لعدة أسباب. أولا لأن بريطانيا مقبلة على انتخابات عامة بنهاية العام الحالى أو مطلع 2024، ولا يريد أى من الحزبين الكبيرين، العمال والمحافظين، الحديث عن «الدفع مقابل الخدمة الصحية» لأن هذا سيكون «رصاصة الرحمة» لأى حزب طامح فى السلطة. فنظام الرعاية الصحية هو المنجز الأهم لدولة الرفاه التى أسس قواعدها رئيس الوزراء العمالى الراحل كليمنت أتلى بعد الحرب العالمية الثانية. هذا النظام الصحى المجانى هو «بقرة بريطانيا المقدسة» التى لا يمكن المساس بها بالنسبة لملايين البريطانيين، خاصة أنه منذ البريكست سعت شركات صحية أمريكية لدخول السوق البريطانية وأخذ استثمارات فى القطاع الصحى البريطانى. وكان من ضمن عقبات اتفاق التجارة الحرة بين أمريكا وبريطانيا خلال عهد الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، أنه اشترط دخول القطاع الصحى الأمريكى للسوق البريطانية ما يعنى عمليا خصخصة جزء من عمليات النظام الصحى البريطانى. كان هذا، ومازال، خطا أحمر لملايين البريطانيين الذين يدعمون إصلاح النظام الصحى المجانى تحت إشراف وسيطرة الدولة، ويرفضون كليا فكرة خصخصته أو حتى خصخصة جزء من عملياته، أخذا فى الاعتبار أن تجارب رأس المال الخاص، مثلا خلال جائحة كوفيد 19، كانت مكللة بالعار بعدما تم كشف تلاعب ضخم من قبل شركات طبية خاصة كلفت دافع الضرائب مليارات الجنيهات الإسترلينية.
البقاء للأغنى
الانكماش الاقتصادى والفجوة الطبقية المتزايدة تضع بريطانيا اليوم فى مفترق طرق، لأن الوضع الحالى غير قابل للاستدامة. فأغنى 1٪ فى بريطانيا تبلغ ثرواتهم حاليا نحو 2.8 تريليون جنيه إسترلينى، مما يجعلهم أكثر ثراء من 70٪ من السكان مجتمعين. أى أن أقل من 700 ألف شخص، يملكون ثروة أكبر مما يملكه 48 مليون شخص فى بريطانيا. ففى تقرير أصدرته «منظمة أوكسفام» الخيرية الأسبوع الماضى تحت عنوان «البقاء للأغنى»، أظهر التقرير عدة حقائق من بينها أن الفقر المدقع والثراء الخيالى قد ازدادا جنبا إلى جنب خلال العامين الماضيين لمستويات قياسية غير مسبوقة ليس فى بريطانيا وحدها، لكن على مستوى العالم.
فقد أظهر التقرير أنه خلال عامى 2021 و2022، حقق أغنى 1٪ حول العالم أرباحا قدرت بـ 63٪ من ثروة العالم خلال العامين الماضيين. فقد أخذ أغنى 1% نحو 26 تريليون دولار من الثروة المكتسبة خلال هذين العامين، بينما ذهب 16 تريليون دولار (37 %) إلى 99 % من سكان العالم. فى الوقت نفسه، يعيش الآن ما لا يقل عن 1.7 مليار شخص فى بلاد يرتفع فيها مستوى التضخم عن مستوى الأجور. بينما يعانى أكثر من 820 مليون شخص، أى واحد من كل عشرة فى العالم، من الجوع يوميا لأنهم لا يملكون ما يكفى من المال لشراء طعام.
ويُظهر تقرير أوكسفام حجم المكاسب غير الطبيعية لأغنى 1% على مستوى العالم. فمقابل كل دولار واحد من الثروة العالمية الجديدة التى حصل عليه شخص ضمن فئة الـ 99% من سكان العالم، حصل كل ملياردير على 1.7 مليون دولار تقريبا يوميا.
ويقول دانى سريسكاندراجاه، الرئيس التنفيذى لمنظمة أوكسفام: «الواقع الاقتصادى الحالى هو إهانة للقيم الإنسانية الأساسية. يتزايد الفقر المدقع لأول مرة منذ 25 عاما ويعانى ما يقرب من مليار شخص من الجوع، لكن بالنسبة إلى أصحاب المليارات، فإن كل يوم يمثل ثروة كبيرة».
أيضا، فى جميع أنحاء العالم، يأتى الآن أربعة سنتات فقط من كل دولار ضريبى من الضرائب على الثروة. بعبارة أخرى، الضرائب حول العالم تفرض على الأجور، بينما الثروات محمية إلى حد كبير من الضرائب ما يعنى توريث المليارات من جيل إلى آخر. ولتقريب الصورة فإنه بينما تبلغ ضريبة الدخل نحو 40% فى المتوسط، فإن ضرائب الثروة تبلغ نحو 3% فقط. أى أن الفقراء ومتوسطى الدخل يدفعون ضرائب أعلى بكثير من الأغنياء. وبحسب أوكسفام فإن نحو 5 تريليونات دولار سوف يتم توريثها من جيل لجيل خلال السنوات المقبلة دون ضرائب، هذا أكثر من الناتج المحلى الإجمالى لإفريقيا. وبالتالى تدعو منظمة أوكسفام إلى فرض ضريبة ثروة تصل إلى 5٪ على أغنى الأغنياء لجمع 1.4 تريليون جنيه إسترلينى كل عام، وهو ما تقول المنظمة الخيرية إنه يكفى لانتشال مليارى شخص من براثن الفقر.
وبينما المشكلة السياسية والاقتصادية والأخلاقية لهذا التفاوت الطبقى الحاد واضحة للعيان حول العالم، فإن الحلول أقل وضوحا بسبب الاستقطاب الأيديولوجى الحاد بين اليمين واليسار. فاليمين البريطانى مثلا يقول إن الحل هو تخفيض الضرائب أكثر والتخلص من القيود الاقتصادية والضوابط المتعلقة بحقوق العمال والتنظيم النقابى لجلب رأس المال الدولى للاستثمار وبالتالى إيجاد وظائف وثروات. لكن اليسار البريطانى يعطى النصيحة العكسية، فالحل يبدأ بزيادة الضرائب على أغنى 1% من السكان الذين يملكون ثروات تعادل ثروة 70% من السكان مجتمعين. ما هو على المحك ليس فقط مستويات الفقر والغنى وسط السكان، بل أخطر من ذلك بكثير مع تحول الكثير من المجتمعات الغربية لمجتمعات فقيرة بها جيوب من الأغنياء.
رابط دائم: