صرخات متتالية أطلقتها عواصم الدول الأوروبية وفى القلب منها بروكسل، تحذر من بدء نشوب «حرب تجارية» مع الولايات المتحدة الأمريكية على خلفية قيامها بإصدار «قانون خفض التضخم»، الذى بدأت الحكومة الأمريكية فى تطبيقه مع مطلع العام الحالى. هذه الحرب التجارية وصفتها أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية بـ«المدمرة»، كما حذر منها أيضا كريستيان ليندنر، وزير المالية الألمانى.
أما الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، فقد كان أكثر صراحة حينما قال فى كلمة ألقاها أمام الجالية الفرنسية بواشنطن مؤخرا، إن البرنامج الأمريكى سيؤدى حتما إلى «تفتيت الغرب»، محذرا من أن «أوروبا سوف تكون ضحية للتنافس التجارى الراهن بين واشنطن وبكين».
وإذا كان هناك اتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبى حول حتمية التصدى لروسيا بشتى السبل بسبب حربها ضد أوكرانيا، فإن هذا التقارب والتناغم السياسى على الجبهة الأوكرانية سوف ينقلب إلى عداء ومواجهة على الجبهة الصينية. فالصراع بين بكين وواشنطن دفع بالأخيرة إلى إصدار قوانين تجارية صارمة تهدف إلى الحد من التمدد الاقتصادى الصينى، غير أن هذه القوانين الصارمة ستلحق اقتصاديات الدول الأوروبية أيضا بخسائر مدمرة.
ونتيجة لذلك، فقد أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية، أن الاتحاد سوف يرد بقوة على الإجراءات التجارية الأمريكية التى لم تراع مصالح أصدقائها والتى ستؤدى إلى إلحاق خسائر ضخمة بالاقتصاد الأوروبى. كما أشار المراقبون إلى التصريحات «القوية» التى أطلقها الرئيس الفرنسى ماكرون مؤخرا محذرا خلالها من تداعيات برنامج المعونات الحكومية للشركات الأمريكية وأنها ستكون كارثية على الاستثمارات فى أوروبا، حيث ستتوقف جميع الشركات عن ضخ أموال فى أوروبا وسوف تتجه إلى أمريكا للاستفادة من البرنامج الأمريكى.
ولكن بطبيعة الحال، فإن الاقتصاد الألمانى سوف يتأثر أكثر من غيره بقانون «خفض التضخم» الذى أصدره الكونجرس الأمريكى بقيمة 700 مليار دولار ضمن خطة المناخ، منها مبلغ 420 مليار دولار فى شكل إعانات وتخفيضات ضريبية لاسيما على السيارات الكهربائية والبطاريات ومشاريع الطاقة المتجددة التى يتم تصنيعها وشراؤها من داخل الولايات المتحدة الأمريكية، مما سيدفع المصانع والشركات الكبرى إلى نقل نشاطها من أوروبا لأمريكا.
وفى تصريحات لصحيفة «فيلت أم زونتاج» الألمانية، قال كريستيان ليندنر، وزير المالية الألمانى إن الولايات المتحدة «شريكنا فى القيم»، ولكن فى نفس الوقت «يتعين على الحكومة الألمانية أن تدافع عن مصالحها». وأشار ليندنر إلى أن الاقتصاد الألمانى «يرتبط ارتباطا وثيقا بالسوق الأمريكية»، كما طالب إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن، بتطبيق مبادئ «دعم الأصدقاء» محذرا من نشوب حرب تجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وفى مقابلة مع تليفزيون وكالة أنباء بلومبرج، دعا ليندنر إلى ضرورة اللجوء إلى ما سماه بـ«الدبلوماسية التجارية» من أجل التوصل إلى حل. وقال السياسى الذى ينتمى للحزب الديمقراطى الحر: «تتمثل رؤيتى فى إقامة منطقة تجارة حرة للديمقراطيات الليبرالية فى العالم، ويمكن أن تكون تلك أولى الخطوات لتحسين العلاقة التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى».
وهنا أكد خبراء الاقتصاد أن ألمانيا ليس فى مصلحتها الدخول فى حرب تجارية مع أمريكا نظرا لما يجمع البلدين من مصالح تجارية ضخمة، ولكن عليها أن تعتمد على الدبلوماسية الاقتصادية. لكن وزير الاقتصاد الألمانى روبرت هابيك طالب برد قوى من قبل الاتحاد الأوروبى وأعلن التوجه بشكوى رسمية ضد واشنطن أمام منظمة التجاره العالمية. الدول الأوروبية منقسمة بالفعل بشأن سبل الرد على «قانون خفض التضخم» الأمريكي، ففيما طالب الرئيس الفرنسى ماكرون مثلا بتمويل أوروبى مشترك لخطة مماثلة، دعا المستشار الألمانى أولاف شولتس إلى مزيد من الحوار مع الولايات المتحدة. ويأتى ذلك فى ظل تحذير الخبراء من أن قانون خفض التضخم الأمريكى سوف يخلق منافسة غير عادلة، ويمكن أن يغلق الأسواق المستهلكة فى وجه الدول الأوروبية، حيث إن أسعار السيارات الكهربائية والشرائح الإلكترونية والألواح الشمسية داخل الولايات المتحدة الأمريكية سوف تكون أقل بكثير مقارنة بالدول الأوروبية.
ظاهر الأمر أن المتغيرات السياسية الإقليمية والدولية التى يشهدها العالم خلال الحرب الروسية -الأوكرانية، أوجدت تقاربا فى التوجهات الأمريكية الأوروبية، كما هو باد الآن، فالولايات المتحدة الأمريكية من خلال الحلف الأطلنطى، تريد أن تقود أوروبا. لكن ألمانيا، الدولة الأوروبية التى تريد أن تلعب دورا مستقلا عن الدور الأمريكي، تبدو غير منسجمة مع توجهات واشنطن، وتتخد مواقف سياسية بعيدا عن الاحتكار الأمريكى للسياسة الدولية.
فى هذا الصدد، كشف المراقبون أن المانيا رفضت الموافقة على الأسعار التى وضعتها أمريكا على صادراتها من الطاقة إلى أوروبا، حيث وصفتها بـ «الخيالية»، مستغلة الأزمة القائمة لتزيد من صادراتها من الغاز والنفط وبكميات كبيرة، لكن الخبراء أكدوا أن ألمانيا لن تسمح لأمريكا ببسط سيطرتها ونفوذها على أوروبا.
ليست الحرب التجارية أمرا مستجدا فى العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، فقد قامتا بتسوية خلافات كثيرة خلال السنوات الأخيرة بينهما ولو ظاهريا، واعتقد البعض أن بواعث التوترات التاريخية قد هدأت، لكن تلك الخلافات ظلت جاثمة على مجرى العلاقات القائمة، وتعود للظهور من فترة لأخرى. لكن هذه الخلافات اشتدت بضراوة هذه الأيام حينما دعمت واشنطن صناعتها للسيارات الكهربائية، وسنت قانونا يمنح بموجبه إعفاء ضريبيا لمشترى السيارات الكهربائية
رابط دائم: