دائما ما كانت الحضارة المصرية مصدر إلهام وشغف كرس من أجلها مئات الباحثين أوقاتهم، والمنقبين جهودهم، وقامت من أجلها الجميعات والمراكز البحثية شرقا وغربا. لكن إحدى هذه الجمعيات وأكثرها تأثيرا، كانت «جمعية استكشاف مصر» البريطانية. فهى من الأقدم فى هذا المضمار بتاريخ يقدر بـأكثر من 140 عاما، فالجمعية قامت أركانها فى العاصمة البريطانية لندن مطلع أبريل عام 1882على أيدى كاتبة الرحلات البريطانية إميليا إدواردز (1831- 1892) بعد زيارة قضتها فى أراضى مصر عام 1873.
تمثال «رمسيس الثانى» بين المعبودين آتون ورع .. من أهم كنوز «تل المسخوطة»
تلك الزيارة أحدثت تحولا تاريخيا بالنسبة إلى «علم المصريات». فقد تركت لدى إميليا انطباعا مؤثرا عن الحضارة المصرية وولدت لديها رغبة وشغفا بضرورة توثيق آثار تلك الحضارة، والحفاظ عليها من عمليات النهب والتنقيب العشوائى. وأدلت إميليا بتصريحها الشهير محذرة من «ذلك المصير الذى ينتظر كل قطعة آثار مصرية، كبيرة أو صغيرة، كل يوم، المزيد من المخطوطات يتم إفسادها، والمزيد من المقابر يتم حرقها، والمزيد من الرسومات والتماثيل يتم تشويهها». قالت إميليا هذه الكلمات التحذيرية عام 1877 تحديدا، وبعدها بدأت العمل من أجل قيام جمعيتها والتى بدأت بمسمى «صندوق استكشاف مصر» حتى تغير المسمى عام 1919.\
وعلى مدار أعوام طوال، قامت الجمعية، الصندوق سابقا، بتوظيف أدوات عدة لإجابة مخاوف إميليا إدواردز وتحقيق رغبتها. فسعت للحفاظ على التراث الحضارى المصرى، مدعومة بجهود علمائها وأرشيفها الضخم ومئات البعثات الأثرية.
ففيما يخص الأرشيف الخاص بالجمعية، فيضم أحد أكبر مجموعات أوراق البردى على مستوى العالم. وهى عبارة عن نحو نصف مليون لفافة كاملة وناقصة تتناول شئون الأدب والتوثيق. تتراوح أعمار هذه اللفائف بين القرن الثالث قبل الميلاد وحتى القرن السابع ميلاديا. نصوصها خطت بلغات عديدة من بينها اللغة الهيروغليفية واليونانية والقبطية. أغلب عناصر هذه المجموعة تنتمى إلى نتائج حفائر وتنقيب الثنائى بيرنارد جرينفيلد و أرثر هانت خلال الفترة بين عامى 1896 و1907. ركزت حفائر وتنقيب جرينفيلد وهانت فى نواحى مدينة الفيوم وغيرها.
كما تضم مجموعة البرديات المودعة لدى «جامعة أكسفورد»، نتاج عمل جون دى مونينس جونسون فى موقع مدينة « أنتينوبوليس» التى أسسها الأمبراطور الرومانى هادريان، جنوب «ملوى» بالمنيا. وقد جرت وقائع بعثة جونسون بين عامى 1913 و 1914.
ريكاردو كامينوس - فليندرز بيترى
أما المكتبة الخاصة بالجمعية، فتشمل حوالى 20ألف كتاب ودورية وملزمة، تتناول كلها شئون علم المصريات. والمكتبة العتيقة الثرية تشغل مقر الإقامة السابق لريكاردو كامينوس، أستاذ علم المصريات بجامعة براون الأمريكية، وأستاذ الخطوط فى « جمعية استكشاف مصر» حتى تقاعده عام1980. ومن وقتها باتت المكتبة تحمل اسم «كامينوس» تقديرا لدور عالم المصريات أرجنتينى الأصول والذى توفى فى لندن عام 1992.
وبالحديث عن المؤلفات لا يمكن إغفال 350 مؤلفا كانت نتاج مباشر للبعثات والجهود التى بذلتها الجمعية والعاملون فى مضمارها. هذه البعثات التى جرت على مدار أكثر من 140 عاما، استهدفت 150 موقعا فى مصر والسودان. ومن أقدم وأهم إصدارات الجمعية، كانت سلسلة المذكرات الصادرة عن المستكشفين ومسئولى البعثات والتى بدأها عالم المصريات الشهير إدوارد نافيل ( 1844-1926) فى ثمانينيات القرن التاسع عشر. وكذلك النشر الدورى لوثائق من البعثات المختلفة. والأهم، كان مجلة « علم الأثار المصرية» والصادرة بصفة نصف سنوية منذ عام 1914 وحتى اليوم.
وتواصل الجمعية نشاطها تحت مظلة واشراف وزارة السياحة والآثار، فضلا عن الحفاظ على سمتها «الاستقلالية» إذا تعتمد فى تمويلها بالكامل على رسوم العضوية الواردة من شتى أنحاء العالم، إلى جانب التبرعات والوقف الخيرى، والأموال التى أودعتها مؤسستها الكاتبة ايميليا ادواردز وأوصت بها لحساب الجمعية.
إدوارد نافيل
حول حاَضر الجمعية، كان يجب التوجه إلى عصام ناجى، المسئول عن مكتب الجمعية بالقاهرة، والذى يشغل مساحة محدودة داخل مقر «المجلس الثقافى البريطانى». وناجى، هو أثرى مصرى، تخرج فى كلية الآثار بجامعة سوهاج عام 2000. وعمل فى أكثر من موقع أثرى ضمن المشاريع الخاصة بوزارة السياحة والآثار، وبشكل رئيسى فى معابد الكرنك، فهو أساسا من «الأقصر». وكان هذا الانتماء وراء تأصيل ولعه بالأثار وبدراسة الحضارة المصرية. فمنذ طفولته المبكرة اكتسب ناجى خبرته من العمل مع العديد من البعثات المصرية والأجنبية فى مصر، وخاصة مع «مركز البحوث الأمريكى» فى منطقة البر الغربى ومشروع «تطوير منطقة القرنة القديمة». وذلك قبل أن تبدأ رحلته مع «جمعية استكشاف مصر» اعتبارا من عام 2013.
يقول ناجى: «فى بداية التحاقى بالجمعية، عملت مع كريس ناويتون، وهو أثرى بريطانى معروف، وله العديد من المؤلفات عن الأثار المصرية. وسبق أن درس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة لفترة طويلة كأستاذ زائر».ويوضح: «فى البداية كان مكتب القاهرة مجرد مقر للمعدات اللازمة للتنقيب، ومركزا لإعداد وارسال الأوراق المطلوبة إلى وزارة الآثار لتسهيل عمل البعثات المنتظرة».
لكن الأمور لم تظل هكذا على الدوام، فحسب رواية ناجى: «بدأ التوجه نحو الجوانب التعليمية، لرفع مهارات الأثريين ونقل الخبرات اللازمة، بين الجانبين المصرى والأجنبى فى هذا المجال. فكانت المحاضرات الشهرية لكبار الأثريين والمتخصصين سواء من المصريين أو الأجانب، وذلك لتناول الاكتشافات الأثرية، والحفائر الجديدة».
إميليا إدواردز
والمسألة لم تنته هنا، فيضيف ناجى «حرصت الجمعية ومازالت على إدارة برنامج متخصص يتناول المهارات الأثرية المختلفة، كالحفائر، وعلوم الفخار، والمسح والرسم الأثريين، وسبل استخدام الجديد من التقنيات المستحدثة كل فترة لإفادة العاملين فى هذا المجال». ومؤخرا بدأ التفكير فى تطوير البرنامج التعليمى ليشمل الشباب والأطفال لربطهم بتاريخ بلدهم، خاصة وأن مقر الجمعية فى لندن سبق أن قدم مثل هذا البرنامج التعريفى للحضارة المصرية للأطفال هناك، واستمر لفترة وبمشاركة مجموعة من شباب الأثريين كمدرسين وموجهين».
وهناك محور آخر لعمل الجمعية، وهو برنامج المنح للأثريين للدراسة فى بريطانيا. وقد استفاد منه حتى الآن ستة أثريين، حصل معظمهم على درجة الدكتوراة منذ بدء البرنامج عام 2014، وحتى توقفه مؤخرا بسبب نقص التمويل. ومن أكثر الأشياء التى استفاد منها هؤلاء المبعوثون، أنه أتيح لهم الاطلاع على الأرشيف الكامل للجمعية منذ عام 1882 وحتى الآن، ومقابلة كبار الأثريين. ويضم ذات النشاط، منحا خاصة بالأرشفة وفنونها وتطورها.
أما النشر العلمى فيحتل أهمية قصوى لدى الجمعية، خاصة أنها تصدر العديد من الدوريات، أهمها مجلة «علم الأثار المصرية» بالطبع. والخبر المبهج، أن الباحثين المصريين بدأوا النشر فى هذه الدوريات بشكل متزايد.
وتعتز الجمعية، وفقا لناجى، بدورها فى دعم قطاع علوم المتاحف، وهو ما ساهم بشكل كبير ومباشر فى إنشاء أقسام متخصصة له فى كليات الاثار، وبات لها رواد مصريون مثل الدكتور أسامة عبد الوارث، مدير متحف الطفل، والدكتور محمد جمال، رئيس قسم المتاحف بجامعة دمياط.
وهناك أيضا الشق العملى الخاص بتدريب أعضاء بعثات التنقيب فى المواقع، وعلى سبيل المثال تقوم الدكتورة بيلى ولسون وهى عضوة بالجمعية، وأستاذة بجامعة «دورهام» بإنجلترا بتولى مشروع الدلتا، وهو مشروع رائع يتمحور حول تسجيل وتوثيق آثار الدلتا. وتشارك بعثات الجمعية فى المؤتمر الدولى المهتم بآثار الدلتا والذى يعقد كل عامين فى مصر. وكان يعقد سابقا تحت مسمى «ورشة عمل الدلتا» ثم بدأ يتوسع نشاطه وإطاره بمشاركة وزارة السياحة والآثار، فعقد فى مدينة الإسكندرية، ثم مدينة المنصورة، أما المؤتمر السابق, فعقد افتراضيا بسبب أحكام «كوفيد 19». ومن المقرر أن يعقد المؤتمر الجديد فى مارس المقبل بمقر جامعة عين شمس.
والاهتمام بآثار الدلتا يعد أحدث حبات عقد ثرى من الجهود والبعثات التى شاركت بها الجمعية على مدار تاريخها وبلغت «معبد أبيدوس» و»معبد حتشبسوت، ومنطقة «تل العمارنة» بمحافظة المنيا ومنطقة «سقارة» حيث اكتشفت «جبانة الطيور»، وذلك فضلا عن دعمها جهود توثيق التراث المادى وغير المادى فى مصر.. حكاية ثرية عمرها تجاوز الـ 140 عاما.
أكثر من 140 عاما، تاريخ طويل، كانت بدايته مع عدد من البعثات المهمة فى مجال التنقيب عن الآثار، وأبرز ملامح تلك البدايات:
-
أول بعثة مولتها الجمعية والتى كانت تعرف وقتها بـ»صندوق اكتشاف مصر» كانت من نصيب عالم المصريات السويسرى إدوارد نافيل، الذى توجه فى يناير 1883 وبمباركة جاستون ماسبيرو، مدير مصلحة الأثار المصرية وقتها، إلى منطقة « تل المسخوطة» فى محافظة الإسماعيلية حاليا. تم نشر مذكرات نافيل عن هذه البعثة والاستكشافات التى شملتها. وتم توزيع نسخ هذه المذكرات على كل المشتركين بالجمعية.
-
ثانى البعثات كانت من نصيب من يعرف بلقب «أب علم المصريات وهو فلندرز بيترى، الذى توجه إلى «تانيس» أو « صان الحجر». درس بيترى وقتها أصول وركائز معمار المدن القديمة. وانتهت بعثته باكتشافات تفوق ما حققه نافيل. وبوضع أسس علمية أكثر صلابة لدراسة علم المصريات.
-
ثالث البعثات الأولى كانت مشتركة بين نافيل وبيترى وشارك معهما عالم المصريات الشاب وقتها فرانسيس جريفيس، وركزت على منطقة الدلتاوتحديدا «تل دفنة» الواقعة حاليا فى محافظة الإسماعيلية.
رابط دائم: