رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حادث اختطاف

عزالدين نجيب
عزالدين نجيب

شمس أغسطس تكوى المنتظرين على محطة مجمع التحرير، بعضهم يحاول أن يجد مكانا يحتمى به تحت مظلة خرسانية هنا أو هناك وسط المتزاحمين، أو يحتمى حتى بظل لوحة إعلانات. طال الانتظار للأتوبيس رقم 8 خط الهرم/نادى الرماية. موظفون عائدون إلى بيوتهم بعد انصرافهم من أعمالهم، سيدات ومُسِنٌُون يحملون أكياس مشترياتهم أو حاجياتهم، تلاميذ وتلميذات بالمرحلة الثانوية. لم يحتمل كبار السن مشقة الوقوف الطويل فجلسوا على الرصيف وهم يتقون لهيب الشمس بجريدة أو حافظة أوراق أو حتى بأحد أكياس حاجياتهم.

كنت واقفا ألوم نفسى لمجيئى فى هذه الساعة للذهاب بالأوتوبيس إلى محطة الطالبية تلبية لدعوة صديقى سامح فريد كاتب السيناريو المبتدئ للغداء عنده وقراءة السيناريو الجديد الذى كتبه. كان من الأفضل ان نقوم بهذه المهمة مساء فى إحدى مقاهى وسط البلد تجنبا لهذه الورطة، فكرت فى العودة إلى منزلى والاعتذار له، لكن كلما مر الوقت أقول لنفسى: هانت..لقد مضى الكثير ولم يبق إلا القليل، وبالفعل لم تمض خمس دقائق حتى جاءت الحافلة، كانت من النوع المفصلى المزود بمقطورة متصلة بالجزء الأمامى بواسطة محور مستدير محاط من الخارج بغطاء مضلع من الكاوتشوك كالمنفاخ بارتفاع الحافلة.

رغم الهجوم العشوائى من الواقفين للصعود حتى أوشكوا أن يدوسوا فوق بعضهم البعض، فقد نجحتُ فى احتلال مقعد بالجزء الأمامى بالقرب من السائق.

اكتظت العربتان بالركاب فى لمح البصر، وازدحم الممر الأوسط بين المقاعد بالواقفين، بل وقفوا فوق صينية الحركة التى تربط بين العربتين وتقوم بالدوران تحت أرجلهم فى الملفات. بعض التلاميذ اضطروا للتنازل عن مقاعدهم للسيدات وكبار السن، استجابة لنظرات الرجاء أو التأنيب الصامت منهم للشباب، أو بوازع داخلى إنسانى.




أخيرا صعد السائق واحتل مكانه خلف الحاجز الزجاجى الأزرق الذى يعزله عن الركاب فيما يشبه الكابينة. استطعت أن ألمحه أثناء صعوده، دهشت لأنه يلف رأسه بعمامة بيضاء كبيرة كأهل الصعيد فى مثل هذا اليوم القائظ، فوق سحنة عميقة السمرة منحوتة الملامح غائرة التجاويف كثيفة الشارب، ذو عينين جامدتين بنظرات صارمة لامبالية. اختفى سريعا خلف الحاجز فلم يعد بالإمكان رؤيته. أغلق الأبواب الأربعة للسيارة وأدار المحرك ثم انطلق يشق ميدان التحرير ويعبر كوبرى قصر النيل ويتجه يسارا إلى شارع مراد بالجيزة وسط زحام حركة المرور ساعة الذروة، كان يسير بسرعة أقل من المتوسطة، ويطيل الوقوف فى المحطات، ويتحرك متمهلا الى درجة البلادة، منتظرا ركوب أعداد جديدة من الركاب لا مكان حتى لوقوفهم، خاصة مع عدم نزول احد تقريبا من الركاب فى الجزء الأول من خط السير، وعندما وصلنا إلى ميدان الجيزة نزل عدد كبير وصعد مكانهم عدد أكبر، أغلبهم من التلاميذ، ما استدعى توقف الحافلة وقتا اطول، حتى ظننت أن السائق يريد أن يلملم كل الواقفين على رصيف المحطة ويشحنهم متلاحمين كالسردين. بدأت أشعر بالغيظ والحنق، ورحت أنظر فى الساعة قلقا وقد أوشكت على الرابعة، فيما كان موعدى عند صديقى هو الثانية.

أخيرا أُغلِقت الأبواب وبدأت الحافلة فى التحرك، لكنها توقفت فجأة بفرملة عنيفة أدت إلى ارتجاجها بكل ركابها، وعم صمت للحظات شعرتُ خلالها بأن شيئا هائلا غامضا قد حدث فى هذه اللحظة أدى إلى وقوفها، حاولت النظر من النافذة إلى الخارج كما فعل كثيرون غيرى لاستطلاع الأمر، فلم نلاحظ شيئا غير عادى، فحركة الميدان تسير سيرها المعتاد بكل زحامها وصخبها واختناقها المرورى، الذى ازداد بالنسبة لنا فى الحافلة بالحر والعرق. ناشد البعض السائق أن يكمل السير، فلديهم أعمال ومصالح، وبدا لنا أن السائق استجاب لرجائهم، فاندفع بأقصى ما سمح به زحام الطريق على عكس ما كان قبل الميدان، وتجدد الهواء فى الحافلة فشعرنا بالارتياح مع نسمات الهواء الناجمة عن السرعة، وما أن بلغ شارع الهرم الذى كان أخف ازدحاما حتى ضاعف سرعته لدرجة التهور والقيام بمناورات رعناء للمروق بين السيارات والشاحنات بحافلته ومقطورتها تتلوى كذيل التمساح، وكأنه تذكر فى التو موعدا تأخر عن اللحاق به، أو تلقى أمرا من جهة ما بالإسراع قبل حلول كارثة أو أمر جلل.

بدأ الركاب الذين اقتربت محطة نزولهم فى التحرك نحو الأبواب للنزول، فلم يهدئ السائق سرعته تمهيدا للوقوف أمام المحطة، ولم يفتح الابواب بالتالى، بل عبر المحطة وزاد من سرعته وسط صياح المتزاحمين أمام الأبواب، غير مبال بدقهم عليها بعنف وغضب مطالبين بالوقوف، أخيرا هدأوا أمام الأمر الواقع وأدركوا أنهم ليس أمامهم غير التسليم، وربما حسبوا أنه «أحرق» المحطة كى يعوض تأخيره فى الوقوف الطويل بالميدان، أو حتى لا يضطر إلى حمل أعداد جديدة من المنتظرين على المحطة ولا تسعهم الحافلة، فهيأوا أنفسهم مرغمين للنزول فى المحطة التالية بينما يعلنون سخطهم وغضبهم، بل إن سيدة خمسينية تبدو من حى شعبى دعت على السائق قائلة:

ـ روح يا شيخ ربنا ما يكسبك!

إلا أنه فعل عند المحطة التالية نفس ما فعله فى المحطة السابقة، هنا دبت حالة من الهياج الجماعى بين ركاب العربتين، حتى شملت بعض الجالسين ممن لم تأت محطة نزولهم بعد، فارتفعت صرخات بعض الفتيات والسيدات، وازدادت الخبطات بالأيدى على الجدران الصاج للحافلة، وتحرك البعض نحو كابينة قائدها المغلقة من الداخل، فاتجهوا إلى المحصل الشاب الجالس على منصته بجوار الباب الأوسط صارخين فيه أن يذهب إلى السائق ويوقفه، وكان يبدو فى البداية غير مهتم بما يكفى للقيام بذلك، لكن الانزعاج بدأ يظهر على وجهه بعد أن تخطى المحطة الأولى، ثم تصاعد الى حد الذهول عند «إحراق» المحطة الثانية، فقام متجها الى كابينة السائق وأخذ ينقر عليها فلم يفتح له، عندئذ نظر إلى الناس ومط شفتيه وهز كتفيه تعبيرا عن عجزه وعدم فهمه لما يحدث مثلهم، هنا صاح احد الركاب قائلا بهلع:

ـ إحنا مخطوفين يا اخواننا!

فصاح رجل آخر:

ـ اكسروا زجاج الكابينة!

أطلقت طالبة بالثانوى ترتدى الزى المدرسى صرخة هائلة، لحقت بها صرخات هستيرية من زميلاتها، ولم يحدث شىء، قال المحصل فى محاولة لتهدئتهم:

ـ ما تخافوش يا اخواننا، آخر الخط المحطة الجاية، حيقف غصب عنه فى الموقف العمومى.

هدّأت كلمات المحصل الركاب بعض الشىء، وراحوا يترقبون نهاية الخط بعد دقائق معدودة، وهم يتوعدون السائق بتقديم شكوى جماعية إلى رئيس الحركة فى آخر الخط فور وصولهم، بل أقسم أحدهم على أن يعمل محضرا ضده فى قسم الشرطة، وتحمس البعض للذهاب معه كشهود على ما حدث.

كنت أنظر إلى كابينة السائق وأحاول ان أتبين هيئته التى تبدو خلف العتمة الزرقاء غامضة لا تبدو منها إلا عمامته البيضاء الضخمة، تشملنى حالة من الاستثارة وأنا أحبس رغبة فى الضحك أمام الموقف العبثى واللامعقول، متلهفا على معرفة ما ستنتهى إليه تلك المغامرة الجنونية الأقرب إلى فيلم سريالى، ووجدت فيها نواة لسيناريو غرائبى سوف يفرح به صديقى سامح عندما أحكيه له، بأكثر من فرحه بفكرة السيناريو الذى سوف يقرأه لى بعد قليل.

وصلت الحافلة إلى نهاية الخط عند ميدان الرماية، وقد هدأ كل الركاب وتحولوا إلى حالة من الترقب والتحفز وهم يتعجلون الوصول، وكل منهم يتخيل الطريقة التى سيعاقب السائق بها بعد دقائق، فإذا به يتجاوز المحطة مواصلا الانطلاق بأقصى سرعة السيارة فى طريق الفيوم، هنا انفجر فجأة مرجل الغضب المكتوم وكشف عن رعب هائل تجلى فى صراخ جماعى زلزل أركان الحافلة وترددت أصداؤه فى الصحراء الممتدة التى يخوضونها الآن، وأطل الجميع من نوافذ الحافلة يستنجدون بالسيارات القادمة من الاتجاه المقابل فى الطريق الشاسع:

ـ إلحقونا!.. مخطوفين!.. إلحقونا!..مخطوفين!

لم يفهم قائدو السيارات المقابلة الذين رأوا المشهد أو سمعوا الاستغاثة حقيقة الموقف، بل بدا لهم الأمر أعجب من أن يؤخذ مأخذ الجد؛ فكيف يعقل خطف سيارة نقل عام بركابها؟.. ومن قام به، ولماذا، وكيف؟!.. خاصة وأن سماعهم للاستغاثة لا يستغرق ثوان أثناء اندفاعهم بسياراتهم فى الطريق العكسى، فيما تندفع الحافلة بأقصى سرعتها.

انهارت جميع الفتيات والسيدات، حتى سقط بعضهن مغشيا عليهن، وانخرط البعض الآخر فى البكاء والعويل، حتى تحول الصراخ الهستيرى إلى رعب يشل الألسن ويحبس الأنفاس فيعم صمت كالموت، أعقب لحظات الرعب أن انخرط الرجال والشباب يضربون بأيديهم وبأقصى قوتهم جدران السيارة حتى صارت كتلة من الجحيم، وحاول أحدهم كسر زجاج الكابينة بجسم صلب فتبين أنها ليست زجاجية بل من البلاستك السميك غير القابل للكسر.

اقتربت أنا حتى ألصقت وجهى بالكابينة محاولا النفاذ ببصرى من خلال عتامة البلاستك الأزرق، ولذهولى رأيت وجه السائق متحجرا كتمثال وثنى لا ينم عن أى تعبير، بل ينظر أمامه بتركيز وثبات وإصرار ينبع من قوة مجهولة، فهو لا يسمع شيئا مما يدور خارج الكابينة ولا يعنيه فى شىء.

رأيت الطريق الأسفلتى أمامى يضيق وتتضاءل حركة السيارات فيه من الاتجاه المقابل حتى تنقطع، وتزحف الرمال عليه من الصحراء التى يشقها، وفى لحظة رأيت الرمال قد امتدت فيما يشبه الكثيب الرملى حتى أوشك أن يسد الطريق، وكان لابد أن ينحرف السائق يمينا إلى الحرم الرملى للطريق حتى لا يصطدم بالكثيب الرملى الذى ربما نجم عن عاصفة أو عن حمولة شاحنة للرمل سقطت هنا فى ظروف غامضة.

غير أن الانحراف المفاجئ لحافلتنا دفعها بعيدا عن حرم الطريق فاصبحت فى جسد الصحراء، ما أدى إلى أن تنغرز عجلاتها الأمامية فى الرمال، فتوقفت عن الحركة فى الحال.

فتح السائق الأبواب، فاندفع الركاب إلى الخارج مهرولين كانهمار السيل، متخبطين فى بعضهم البعض كأنهم غير مصدقين انهم نجوا أخيرا بحياتهم، لكنهم ما ان استردوا إحساسهم بالنجاة حتى صعد مجموعة منهم إلى كابينة السائق، حيث كان منكفئا برأسه وعمامته فوق عجلة القيادة حتى ظنوا انه مات او راح فى غيبوبة، فتوقفوا عن ان ينهالوا عليه بالضرب كما كانوا يريدون، وما ان رأوه قد أفاق حتى جروه بعنف وغل إلى خارج الحافلة. تدخل رجل عجوز من الركاب بلحية صغيرة بيضاء يبدو عليه وقار الحكمة، وحال بين الغاضبين وإلحاق الأذى به وقال:

ـ سيبوه يا اخواننا، خلينا نعرف منه أولا هو جابنا هنا ليه وازاى حيرجعنا «ثم وجه السؤال إليه» جبتنا هنا ليه يا ريس؟

نظر السائق إليه مطبقا فمه، ودار بعينين ذاهلتين بين الوجوه المتحلقة حوله فى تحفز للفتك به، وإزاء الإلحاح العنيف عليه للإجابة قال بصوت هامس متحشرج وكأنه يكلم نفسه:

ـ ما لحقتوش!

ـ هو مين اللى مالحقتوش؟

سدد الرجل بصره نحو نهاية الطريق الضبابى فى غبشة الغروب الزاحف المصبوغ بحمرة الشفق، واطبق شفتيه كقفل حديدى، وفى غمرة الهياج المتنمر للتنكيل به، ووسط سيل السباب المنهال عليه، كان يلح علىٌَ سؤال: ماذا حدث عندما أوقف الحافلة فجأة فى ميدان الجيزة قبل أن يندفع بعد ذلك كالمجنون يسابق الشياطين حتى أودى بنا إلى هذا المصير؟.. أى نداء تلقاه فمضى يلبيه كالمسحور؟

قال العجوز ذو اللحية البيضاء:

ـ يا جماعة، دلوقت لازم نشوف حنرجع ازاى، واول حاجة تعالوا نطلٌَع الأتوبيس من الغَرزة فى الرمل.

تبادلوا النظرات، واستداروا نحو العجلات العملاقة الغائصة فى الرمال، وراحوايبحثون عن وسيلة يحفرون بها أسفل كل عجلة كى تسمح بوضع أحجار تحتها فلم يجدوا، واتفقوا أخيرا على أنه ليس أمامهم غير السائق نفسه لإحضار الأدوات اللازمة للحفر، ثم إدارة محرك السيارة، واشتراك الجميع فى الدفع بها للصعود فوق الأحجار والعودة إلى طريق الأسفلت.

 

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق