رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

يعيش فى المنفى منذ 74 عامًا..
المفكر الكبير جبار ياسين: العالم يمر بوعـكة حضـارية

عاطف محمد عبدالمجيد

  • سأكمل حياتى كأنى غريب أبدى قدماه فى أوروبا وأحلامه على نهر الفرات
  • كنت داخل خراب دائرى عندما رأيت أنقاض العراق
  • أن تولد  فى إفريقيا وتموت جوعا هذا ليس خطأ الطبيعة بل خطأ البشر

وأنا أترجم هذا الحوار سألت جبار ياسين: هل لديك معلومات جديدة عنك أضيفها إلى مقدمة هذا الحوار؟ فقال لى: نعم..استقبلتُ ليلة أمس طفلين من إفريقيا، من بلاد مالى، لقضاء ليلة رأس السنة. أقمتُ لهم عشاءً فاخرًا، وحصلوا على هدايا جميلة من زوجتى ومنى. هما من عائلة فقيرة. أعتقد أنهما قضا أجمل الأوقات، كانا فرحين ولعبتُ معهما كثيرًا، وفرحت لفرحهما. هذا هو جبار ياسين الإنسان، قبل أن يكون الكاتب المعروف عالميًّا، الذى تفيض طيبته ومحبته حتى يشملا الجميع، دون تفرقة من أى نوع. رغم أنه عانى كثيرًا فى حياته وترك وطنه فارًّا بروحه، ليقيم فى المنفى منذ عشرات السنين، ورغم كل هذه السنوات، فإنه لا يزال يعشق مسقط رأسه، ويحب كل البشر.

يكتب جبار ياسين القصة والرواية والمسرحية والشعر، ينشر كتاباته فى كبرى الصحف العالمية، وترجمت أعماله إلى لغات عديدة، وحصلت أعماله على العديد من الجوائز الأدبية رفيعة المستوى، من أعماله: وداعًا أيها الطفل، حلم الضابط الأمريكى، كتاب الصداقات، طرق يونس، أرض للنسيان، القارئ البغدادى، على ضفاف الجنون، وسر الهدهد.

أجرى معه هذا الحوار الشاعر والناشر الإيطالى جوسيبه جوفريدو وهو من أهم شعراء جيله. يعيش فى إقليم بوليا فى الجنوب الإيطالى، وهو من المدافعين عن ثقافة البحر المتوسط كثقافة مؤسسية وحضارية، مثلما يدافع بقوة عن حقوق الفلسطينيين. له العديد من الكتب عن فلسطين والعراق.

لقد سقط صدام حسين فى أيدى الأمريكان فى مايو 2003، وأنت عدت إلى العراق بعد سبعة وعشرين عامًا من المنفى..بماذا تحتفظ ذاكرتك من هذه الرحلة؟

لنكن متفائلين خاصة حين يكون الموقف مأساويًّا. عدت فى شهر مايو بعد النهاية الرسمية للعمليات الحربية للغزو. كانت عودتى كهدية عيد الميلاد إذ ولدتُ فى مايو من العام 1954 فى بغداد. لقد غيّرنى الغياب طيلة تلك السنوات، وكذلك تغير البلد فى غضون ذلك.

إنها لصدمة أن تعود مرة أخرى إلى مدينة نصف مُهدّمة. لقد بكيت حريتى التى فقدتها مثلما بكيت حريتى التى حصلت عليها مجددًا. كان علىّ أن أنتظر كل هذه السنوات المفعمة بأحلام المستقبل كى أرى تلك الأنقاض المادية والنفسية. لقد كنت داخل «خراب دائرى» على حد تعبير بورخيس.

كان عليّ أن أواجه ذاكرتى فى كل لحظة من أجل كل شىء وكل كائن. وكان عليّ أن أتجول فى مدينة كانت تشبه مدينة الكابوس، مدينة كانت تُذكّرنى بمدينة أخرى لم تعد توجد سوى فى خيالى. هذا على الصعيد الشخصى، أما على الصعيد السياسى، فهناك أمران: كان قد سقط لتوه النظام الذى جعل العراقيين يعانون، ما منح العراقيين فرحة غامرة، أتفَهّمُ ذلك. لكن بجانب هذا، كان الاحتلال يُشعر العراقيين بالخزى. لقد حوّل الاحتلال، فى الواقع، الكابوس إلى أسلوب حياة. ولو نظرنا جيدًّا، فى الحقيقة، لا نجد أن العراق قد اُحتلّ أو دُمر ماديًّا وروحيًّا فى التاسع من أبريل، يوم سقوط بغداد، بل سقط البلد فى حالة الخراب والاحتلال فى اللحظة التى استولى فيها صدام على السلطة فى يوليو 1979، وبدقة فى اللحظة التى دخل فيها الحرب مع إيران. حرب استمرت لثمانى سنوات خلفت وراءها مليونًا من القتلى، وثلاثة أضعاف هذا العدد من المصابين والمعاقين، إلى جانب الصدمة النفسية التى انتابت كل الشعب. لقد فقد البلد استقلاله، وعانى من الحصار لثلاثة عشر عامًا خارت فيها قوى السكان، وقد تجاوز عدد ضحايا ذلك الحصار المليون، خاصة فى الطبقات المُعدمة.

هل تتذكر يا عزيزى صور الأطفال الذين نخرت أجسادهم سوء التغذية ومرض السرطان الذى سببهما اليورانيوم المخصب الذى كان يستخدمه الأمريكان والبريطانيون أثناء حرب الخليج عام 1991؟

لقد فقد العراق، دولة وشعبًا، خلال كل تلك السنوات هويته وكرامته وحداثته التى اقتضاها قرن من عمل أجيال قبل وصول حزب البعث إلى السلطة. ليست هذه مسألة فخر، لكن عليَّ أن أوضح أن العراق بلد مؤسس للبشرية. بلد عريق ومبدع لكل العلوم التى أسهمت فى ثورة العالم الإنسانى. إنه بلد إبداع، بلد طاقة نادرة فى المنطقة وفى كل المجالات. لقد أصبح هذا البلد، فى عقدين من الزمن، بقعة للخراب، مقبرة كبيرة للناجين من الحروب. حين كنت أسير فى شوارع بغداد، كنت أفكر فى كل هذا، بكل حسرة ومرارة.

لماذا تركتَ العراق؟

هناك أسطورة فى أمريكا الوسطى تعطينا ثلاثة أسباب لترك مسقط الرأس.. مواطن أصلى قابل غريبًا على حدود الغابة المدارية، وسأله:

أيها الغريب.. لماذا جئتَ إلى هنا؟ هل أنت جائع؟

كلا.. رد الغريب.

هل أنت ظمآن؟ كلا.

أأنت مُطارد فى مسقط رأسك؟

كلا.. قالها الغريب.

إذن عُد إلى بلدك لأنك ستندم، وستفسد حياتك. عد إلى بلدك.

لم أكن جائعًا ولا ظمآنًا فى بلدى، بلد القمح والنهرين، دجلة والفرات. لكنى كنتُ مُطاردًا، وكانت حياتى فى خطر. وأنا اخترت الحرية بديلًا لفقدان مسقط الرأس. لقد تورط كل جيلى فى السياسة. كانت لدينا أحلام أدبية رسمت حريتنا. وصول البعثيين بدأ شيئًا فشيئًا، وبطريقة عنيفة، يهيمن على الفضاء العام، الأحلام الأدبية، الأحلام السياسية، الأمل فى ديمقراطية وشيكة. وفى وقت وجيز، سيطر البعثيون على السماء والأرض، بل على ماء النهرين. السجن، التعذيب، الخوف، حلوا محل هذه الأحلام. أنا شخصيًّا عانيت كل هذا مبكرًا جدًّا. فى نهاية مرحلة المراهقة، وبسرعة وجدتنى محاطًا بالألم. طُردتُ من الجامعة، ومن عملى كصحفى شاب، فى الشهر نفسه، شهر مايو من العام 1976، وكان عمرى يومها 21 عامًا. أخبرنى بعض الأصدقاء أن رجال الأمن يبحثون عنى، وأننى على وشَك الاعتقال. أدركتُ أن هذا هو المقال الأخير، وأننى لن أرى ضوء النهار.

حينئذ وخلال عدة أيام، وبمساعدة بعض أقاربى، تهيأت للرحيل بأوراق مزورة، وبأسماء مزورة، وتاريخ ميلاد مزور. خلاصة القول أننى صرت شخصًا آخر، ربما هو الآخر، الشاب جبار ظل هناك فى العراق، أما جبار الذى أكونه الآن، فلا أدرى أهو الأصل أم الصورة. وقع الحادث المؤسف، وفى المستقبل يصبح الجُرح عميقًا وأبديًّا. حين قرر أبى وأمى إنجابى، كان ذلك لأعيش فى العراق بلدى، وربما لأموت فيه أيضًا. الآن أنا أعيش فى مكان آخر منذ سبعة وأربعين عامًا، ولا أعرف أين سأموت. هذا، وبكل بساطة، ما يُسمونه المنفى.

فى العراق تركت خلفك عائلة وأصدقاء.. كيف هو العراق الآن؟

البعثيون آفة أهلكت كل ما صادفته فى طريقها. فى مكانها ظلت العائلة، غير أنها، شيئًا فشيئًا، راحت تتمزق. بعد رحيلى بأربعة أعوام، أخذ أخى نبيل الشاعر طريق المنفى متجهًا إلى باريس أولًا، ثم برلين، فبيروت، بعدها بودابست، ثم لندن، ومعه زوجته وطفلاه الاثنان.

بعد ذلك بعدة أعوام، تركت أختى الصغرى الطبيبة العراق للأسباب نفسها. ولكى يكتمل الأمر، هاجر الأخ الأكبر إلى انجلترا، حتى اغتال الحزن والمرارة والديَّ. حين عدت إلى العراق فى مايو من العام 2003، لم أجد بيت العائلة. لم يعد إخوتى الثلاثة الذين ظلوا فى العراق يسكنون فى ذلك العنوان القديم. كانت العائلة تنتمى إلى الماضى. أما ما يخص الأصدقاء، فكثيرون منهم غادروا إلى المنفى عقب رحيلى بسنوات. أقاموا فى جهات الكوكب الأربع، ما بين أستراليا وأمريكا الجنوبية. والذين لم يتمكنوا منهم من النجاة من طوفان القمع، افترستهم الحروب المتعاقبة. أعتقد أنهم كانوا هم الأفضل. الآن، لديَّ القليل من الأصدقاء من أبناء جيلى، فيما لديّ الكثير من الذكريات مع المفقودين منهم. وبشكل متناقض، حين عدت إلى بلدى فى العام 2003، قابلت أشخاصًا كانوا يعتقدون أننى متُّ منذ أمد بعيد فى أحد سجون العراق التى لا تُحصى. وإلى حد كبير كان البلد مغلقًا وراء ستارة من حديد، لدرجة أن الناس لم تكن تستطيع أن تتابع مصير بعضها. كان دخول المقابر مجانيًّا فى العراق، فى الغالب كانت العائلة تدفع ثمن الرصاص الذى يُطلق على المحكوم عليهم. لم يكن غريبًا بعد سقوط النظام أن نجد عشرات المقابر الجماعية. يا له من مصير لهذا الشعب! ليس سهلًا بالنسبة لى أن تكون غريبًا فى وطنك. فى الوقت نفسه، كنت أتعلق بهذا الوطن، لكنى أصبحتْ لديّ ذاكرة أخرى. الباقى هو زمن استعادة الأحداث، وإعطاؤها معنًى فى تاريخ الكفاح من أجل الحرية.




هل فكرتَ، من قبل، فى أن تعود إلى العيش فى بغداد مرة أخرى؟

نعم..هذا حلم استغرق سبعة وعشرين عامًا من عمرى، أعوام منفايَ الإجبارى. حين عدتُ إلى بغداد فى مايو 2003، كنت أول كاتب عراقى يضع قدميه من جديد على أرض العراق، وفى تلك الظروف الصعبة شعرتُ أننى غريب وسط غرباء. لقد قضيتُ شهرًا أبحث عن آثار ماضى، جارًّا قدمىَّ ما بين الخرائب والأنقاض. وعلى الرغم من ذلك، ظل حلمى يسكن رأسى، غير أنه كان هناك الكثير من العقبات: الأولى كانت ثقل جاثوم الاحتلال الأمريكى. لقد عشتُ عشرين عامًا فى وطنى أسفل نيّر الديكتاتورية، ولم أكن أريد أن أظل بقية حياتى تحت سلطان آخر وهو الاحتلال، وهذا ضد الطبيعة لأن الاحتلال طاعون. أتذكر ذهابى لرؤية نهر الفرات لأستمتع بجمال بساتين النخيل، الضوء المتسلل من بين جريد النخيل، قوارب صيادى الأسماك التى تنزلق متكاسلة، فوق أمواج النهر. كم كنتُ أود أن أشترى قطعة أرض صغيرة على شاطىء النهر كى أبنى عليها بيتًا صغيرًا، لكن الأحداث شاءت غير ذلك. صديقى الذى عهدتُ إليه بمهمة مساعدتى فى تحقيق حلمى، اغتالته يد الإرهاب، بعد ذلك بأربعة أشهر، قرب المكان الذى كنت أود أن أعيش فيه. كان كاتبًا معروفًا ومناضلًا، وسقط الحلم تجرفه مياه النهر نحو المحيط. عدت لأعيش فى مكان لا يبعد عن المحيط الأطلسى، قرب مدينة لاروشيل. أحيانًا تجيئنى الرياح برائحة حلمى الذى أراه يتراقص أعلى الأمواج. لقد قررتُ أن أكمل حياتى كغريب أبدى تسير قدماه على أرض أوروبا، فيما تجرى أحلامه على إيقاع ماء نهر الفرات.

عشرون عامًا بعد الحرب التى عانيت منها من عراق اليوم؟ ما هو مستقبل العراق سياسيًّا، اجتماعيًّا، وثقافيًّا؟

علينا أن نتمسك بالأمل، خاصة فى المواقف المُفجعة، أنا دائمًا ما أكرر أن العراق بلد عريق جدًّا، لديه ماض عتيد، ومن لديه ماض، سيكون لديه مستقبل. حين نعرف تاريخ هذا البلد، الذى هو عبارة عن سلسلة متعاقبة من الفواجع ومن العصور الذهبية، يمكننا أن نتمسك بالأمل. مؤكد هى فترة زمنية مظلمة، لكن ستنتج عنها فترة مشرقة، ثمة ميراث متين تم إرساؤه فى أوردة الكثير من العراقيين. يكفى أن نشاهد ثورة الفنون فى هذا البلد، أيًّا كان انتماؤه وأفكاره السياسية، العراقى يتمسك بفخر كوْنه عراقيًّا. رأيت مواطنين صدمتهم عمليات نهب متحف بغداد، المبنى الإدارى الذى خرّبه الأمريكان، لأن المتحف يمثل محور وذاكرة كل الحضارات التى تعاقبت على العراق.السؤال الذى أطرحه كثيرًا على العراقيين هو: ماذا سنفعل بالمتحف إن تم تقسيم العراق إلى دويلات إثنية وطائفية؟ متحف بغداد يمثل، على سبيل المجاز، وحدة العراق ومشروعًا ضد تعرضه للتقسيم. أتمسك بالأمل فى عراق آخر، عراق سلام، عراق معطاء يمكنه أن يكون شعلة ضوء فى المنطقة، لأنه ليس هناك سوى البترول الذى يمثل موردًا أساسيًّا فى حياة العراقيين. ربما تكون هناك دول مجاورة ستختفى قريبًا حين يجف البترول، بينما سيظل العراق حاضرًا بآدابه وفنونه. ليست هذه مجرد نبوءة، إنما هو حلم إنسان يعرف تاريخ هذه الأرض جيدًا. الحلم العراقى سينتصر على الحلم الأمريكى.

ما هى أكبر خيبة أمل أصابتك؟ وما هو أملك الكبير؟

ضياع الزمن، عشرون عامًا منذ سقوط النظام، أشياء قليلة أُنجزت نسبة إلى عدد الضحايا الكبير، سواء أكانوا موتى أم منفيين، هذه هى خيبة أملى الكبرى. أما ما يخص الأمل، فهو مرتبط أيضًا بالزمن. الجيل الشاب، والجيل القادم بأيديهما أن يقللا زمن الانتظار، كى نعيد من جديد بناء وطن جدير بسكانه وبتضحياتهم.أنا دائمًا ما أتمسك بالأمل ما دام وميض شمعة يستطيع أن يضيء ظلمة العالم كما قال ديستوفيسكى.

كيف ترى عالَم اليوم بحروبه، وبتهديده الذرى المُرعب؟

نحن نمر بوعكة حضارية، لقد وصلنا إلى مفترق طرق. علينا أن نختار: إما صمود الإنسانية من أجل الجميع، وإما أن تتوقف لإرضاء أنانية الأقلية. هناك الكثير من الظلم هذه الأيام، الكثير من الضغينة، الكثير من المكاسب اللا مشروعة، والكثير من الشقاء.لابد وأن يتغير العالم. لا يجب أن يُدار ويُساس بأيدى أقلية تمتلك ثمانين بالمائة من ثروات كوكب الأرض. لا أعنى القوى الكبرى فقط كأوروبا، الولايات المتحدة، الصين، أو روسيا، على سبيل المثال، بل الإنسانية كلها. لابد من إعادة تنظيم العالم مجددًا عبر الاشتراكية. لا أقصد اشتراكية السوفييت، أو اشتراكية ماوتسى تونغ، بل اشتراكية الحكماء، وليست اشتراكية الساسة والشركات متعددة الجنسيات، وفرسان جحيم الاقتصاد الحر. أن تولد فى إفريقيا وتموت جوعًا، هذا ليس خطأ الطبيعة بل خطأ البشر. اليوم أصبح كوكب الأرض فاسدًا بسبب جشع البشر. لابد من إعادة اكتشاف الأمم المتحدة، منظمة التغذية والزراعة، حقوق الإنسان، الرجل والمرأة والطفل، حق الفقراء، حق الحيوانات، حق الأشجار والمياه...لابد من توزيع الحقوق بين جميع الأمم بالتساوى، لأن عالمَا يُساس على أيدى قطب واحد، هو منذور للطغيان بشكل مطلق.

متى ستعود إلى بغداد؟

لا أعرف.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق