نقص فى الموارد الغذائية، والمصادر الطبيعية، والمواد الخام. وبالتالى لا عجب أن يبدأ العام الجديد وكلمة «إعادة التدوير» هى الكلمة الأكثر تكرارا على المستوى الفردى وعلى مستوى المؤسسات والدول.
فكل شيء له قيمة، ويجب أن يعاد استخدامه وإعادة تدويره مرارا وتكرارا إذا أمكن.
ويبدو أن عام 2023 سيكون العام الذى ستتجه فيه قطاعات اقتصادية عديدة لإعادة تعريف طريقة عملها مستلهمة شعار «لا تلق أى شىء فى القمامة»، ومن ضمن تلك القطاعات قطاع صناعة الأزياء. فالكثير من بيوت الأزياء العالمية بدأت فى إنشاء ورش ضخمة لإصلاح منتجاتها البالية وإعادة طرحها للبيع فى الأسواق من أجل صناعة أزياء «صديقة للبيئة».
إطلاق تلك الورش الجديدة التى ستكون أحد معالم 2023 فيما يتعلق بصناعة الأزياء هو جزء من تحول أكبر فى العملية الإنتاجية، لا يقوم فقط على إنتاج ملابس جديدة، بل إعادة الحياة لأى قطعة قديمة.
ما عليك كمستهلك إلا أن تتواصل مع دور الأزياء لإرسال قطعة الملابس التى تريد إصلاحها وإعادة استخدامها أو إعادة بيعها للدار كى تقوم هى بإصلاحها وبيعها لمستهلك جديد.
هذا النموذج الاقتصادى الأخلاقى يقوم على فكرة أن المعطف الذى أنتجته أحد دور الأزياء العالمية والذى تمت خياطته قبل 20 أو 30 عاما، لا ينبغى أن يلقى فى سلة المهملات فقط لأنه أصبح قديما.
ففى الكثير من الحالات يمكن إعادة خياطة المعطف بحيث يعود أشبه بمعطف جديد باستخدام القماش الأصلي. كما يمكن إدخال تعديلات تتناسب مع صيحات الموضة الجديدة، أو حتى تغيير مقاسه. أيضا فى المعطف العديد من المكونات التى يمكن إعادة استخدامها ومن ذلك الأزرار أو القماش كمادة خام.
نهج عدم إلقاء أى شيء فى القمامة وإعادة تدويره وإعادة إنتاجه وإعطائه فرصة للعودة للحياة مجددا كمنتج قابل للاستخدام لا تحركه فقط دوافع حماية البيئة والحفاظ على مواردها المحدودة وجعل نموذج إنتاج الملابس أكثر أخلاقية، بل تحركه أيضا دوافع اقتصادية.
أبحاث بعض دور الأزياء العالمية تُظهر أن عمليات إصلاح الملابس وإعادة تدويرها وبيعها مجددا من الممكن أن تشكل نحو 23٪ من صناعة الأزياء العالمية بحلول عام 2030 وهو ما يمثل فرصة سوقية تبلغ 700 مليار دولار أمريكي.
ففى بريطانيا مثلاً، يُلقى كل شخص أكثر من 3 كيلوجرامات من الملابس وهو ما يعادل حوالى 20 «تيشيرت» كل عام. واليوم هناك الكثير من متاجر الأزياء فى بريطانيا التى باتت تتلقى الملابس القديمة المنهكة من المستهلكين الذين لم يعودوا راغبين فيها. وكل ما عليك فعله هو أن تنقب فى دولاب ملابسك كل فترة وإذا وجدت قطعة أصبحت بالية للغاية ولا يمكن استخدامها مجددا، تقوم بإعطائها لمحلات الملابس التى تضع صناديق كبيرة أمام المدخل لاستقبال القطع التى لم تعد مرغوبة أو صالحة للاستخدام من أجل إعادة تدويرها وذلك من أجل تقليل التأثير البيئى لإنتاج الملابس.
كل قطعة ملابس جديدة نشتريها تأتى بسعر باهظ من حيث الموارد التى تستخدمها من ضمنها المياه، والكهرباء، والموارد الطبيعية مثل الأقطان أو الحرير أو البلاستيك، إضافة إلى التلوث الهائل المرتبط بعملية تلوين الملابس باستخدام الصبغات الكيماوية. كل هذا إلى جانب البصمة الكربونية الضارة لكل قطعة ملابس جديدة، ما يفاقم مشكلة الاحتباس الحرارى والتغيرات المناخية. ففى المملكة المتحدة وحدها، تؤدى صناعة الأزياء إلى إضافة نحو 27 مليون طن من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، أى ما يعادل البصمة الكربونية السنوية لأكثر من مليونى شخص. وعالميا بحلول عام 2050، من المتوقع أن تسهم صناعة الأزياء بنحو 25% من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، ما يجعلها ثانى أكثر الصناعات تلويثا للبيئة بعد الوقود الأحفوري.
وبالتالى فإن إطالة عمر نحو 50% من الملابس فى بريطانيا لمدة عام واحد فقط تترتب عليه نتائج بيئية إيجابية جدا، لأنه يعنى توفير نحو 10% من المياه المستخدمة فى صناعة الملابس، وتوفير ما لا يقل عن 4 أطنان من الملابس المستخدمة التى تلقى فى النفايات، والحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحرارى بنحو 8%.
طبعا شراء الملابس المستعملة ليس شيئا جديدا فى أوروبا أو بريطانيا. فهناك المئات من الجمعيات الخيرية والمتاجر «أونلاين» المتخصصة فى بيع أو تأجير الملابس المستخدمة. الجديد هو أن هذا التوجه للإصلاح وإعادة التدوير سيكون جزءا أساسيا من النموذج الإنتاجى لكبريات شركات الملابس حول العالم.
فالعالم يُنتج ملابس جديدة بمعدلات غير مسبوقة، وساعد على ذلك نمو نموذج الإنتاج السريع والرخيص الذى بات هو النموذج الأكثر رواجا فى أوروبا وأمريكا وآسيا، خاصة وسط الشباب فى الفئات العمرية من 13 عاما إلى 20 عاما. فهناك لإحدى الشركات الصينية، والتى تعد الأكبر فى العالم لخطوط الإنتاج السريع للملابس، أصبحت تضيف يوميا المئات من المنتجات الجديدة التى تحاكى فى تصميمها الشركات الكبرى، لكن بأسعار زهيدة للغاية بسبب رخص المواد المستخدمة. هذه الملابس، التى تتراوح أسعارها بين 5 و10 جنيهات استرلينى فى غالبية الحالات قد لا يتجاوز استخدامها شهرين أو ثلاثة ولاحقا يتم إلقاء مئات الأطنان منها فى النفايات.
هذا النموذج له تكلفة بيئة فادحة. ففى كل ثانية، يتم حرق أو دفن منسوجات وملابس فى «مكب» النفايات بما يعادل حجم شاحنة قمامة. واستعادة تلك الملابس والمنسوجات من «مكب» النفايات عملية مكلفة ومنهكة وبالتالى الأفضل ألا تتم أصلاً، وأن تتجه الملابس والمنسوجات لإعادة التدوير والإصلاح والاستخدام قبل إلقائها فى النفايات أصلا.
إذن عندما تنظر إلى الملابس القديمة البالية لا تنظر إليها كنفايات بلا قيمة مصيرها سلة القمامة، بل كمادة خام ثمينة، قابلة لإعادة التدوير والاستخدام مرارا وتكرارا للأجيال القادمة.
رابط دائم: