هل يمكن هزيمة المافيا؟ فقد أثارت صور القبض على ماتيو ميسينا دينارو زعيم مافيا «كوزا نوسترا» الإيطالية فى أحد المستشفيات بمدينة باليرمو فى جزيرة صقلية آمال كثيرين. وقف السكان المحليون يصفقون ويحيون الشرطة الإيطالية، بينما كانت تقتاد دينارو مقيدا إلى مكان سرى. فلا تزال مشاهد صقلية فى مطلع التسعينيات إبان «إعلان حالة الحرب» بين الدولة و»كوزا نوسترا» ماثلة فى الأذهان. ويتذكر البعض كيف كانت عناوين كبرى الصحف حينذاك تشبه باليرمو ـ عاصمة إقليم صقلية ـ ببيروت. .

زعيم المافيا الإيطالية لحظة إلقاء القبض عليه
فقد نشرت السلطات الإيطالية 5 آلاف عسكرى فى أعقاب اغتيال القاضيين جيوفانى فالكونى وباولو بورسيلينو عام 1992 على يد المافيا، وذلك فى أكبر استعراض لقوة الدولة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كانت صقلية تجثو على ركبتيها، لكن تلك الأحداث فى الحقيقة دشنت بداية نهاية أقوى تنظيم إجرامى فى العالم حينذاك. ويشير تقرير لصحيفة «ذا جارديان» البريطانية إلى أن المحال فى المركز التاريخى لمدينة باليرمو أصبحت تعلق لافتات كتب عليها «وداعا للابتزاز» حيث تعهد أصحاب المحال التجارية والمطاعم بعدم دفع أموال نظير الحماية لزعماء المافيا، فى مؤشر على تهاوى نفوذ «كوزا نوسترا». وبحسب خبراء كثيرون فإن المنظمة التى صنعت أسطورتها وألهمت الكتاب وصناع الأفلام لم تكن قط فى موقف أضعف من الآن. لقد هلكت «كوزا نوسترا» بسبب ملاحقة السلطات والأزمة الاقتصادية ونقص الأموال والرجال حتى أصبحت «نمرا من ورق» حسب تشبيه «ذا جارديان».
لعبت التطورات التكنولوجية دورا حاسما فى مكافحة مافيا كوزا نوسترا التى تعود جذورها التاريخية للقرن الـ19. أولا وقبل كل شىء، كان استخدام التنصت على المكالمات الهاتفية والكاميرات الخفية التى وضعتها السلطات فى منازل زعماء المافيا وصاحبت تحركاتهم، لتكشف أنشطة العصابات الجديدة. وأدى إلى تذرع القضاء بالأدلة الدامغة حتى صدرت أحكام طويلة فى كثير من الأحيان فى سجون شديدة الحراسة ضد رجال المافيا.
فبعد اغتيال فالكونى وبورسيلينو، تم تشديد نظام السجون المعروف بقسوته، والذى تم تقديمه لأول مرة فى عام 1975، بهدف عزل نزلاء المافيا تمامًا عن شركائهم المجرمين السابقين. حظر النظام الجديد استخدام الهواتف أو أى ارتباط أو مراسلة مع سجناء آخرين أو اللقاءات مع أطراف ثالثة. ومن أجل تجنب عيش حياة منعزلة تمامًا، قرر العديد من رجال المافيا أن يتحولوا إلى شهود ويتعاونوا مع السلطات مما زاد من ضعف المافيا.
وتشير التسجيلات التى نجحت السلطات فى تحريرها إلى شكوى رجال المافيا من الأزمة الاقتصادية واعترافهم بضعفهم. ففى تسجيل لألفريدو جيوردانو، وهو رجل مافيا سابق تساءل «أى نوع من المافيا الدموية نحن؟» وأضاف نحن «مافيا الأسباب الضائعة.» فلم يكن قادرًا حتى على استعادة الأشياء التى سُرقت من ابنته!
وفى تسجيل آخر، اشتكت زوجة سالفاتور سبيكا، أحد زعماء المافيا، فى مكالمة هاتفية لزوجها: «لقد أنفقت 100 يورو لشراء بقالة والدتي، و200 يورو لطبيب الأسنان. ماذا تبقى؟»
ويؤكد سيرجيو لارى، أحد المدعين العامين السابقين فى قضايا المافيا أنه «إذا كان علينا إجراء رسم بيانى للقوة العسكرية والاقتصادية لـ»كوزا نوسترا» فى المائة عام الماضية، فإن أعلى نقطة على المنحنى ستكون منتصف الثمانينيات. أما من التسعينيات فصاعدا، كان الاتجاه العام هو الانخفاض». لكن إيطاليا تعانى من نحو عشرة تنظيمات على غرار «كوزا نوسترا» أبرزها «ندرانجيتا» المتمركزة فى إقليم كالابريا والتى تعد حاليا أقوى تنظيم إجرامى فى العالم. وتشير عدة تقديرات إلى أن هذه التنظيمات الإجرامية تحقق أرباحا تصل إلى 9% من الناتج المحلى الإجمالى لإيطاليا، وتحقق «ندرانجيتا» وحدها أرباحا تقدر بنحو 3% من الناتج المحلى الإجمالى للبلاد.
وفى خطاب ألقاه رئيس الوزراء الإيطالى السابق ماريو دراجى فى مايو الماضى، وهو أحد خطاباته الأخيرة قبل انهيار حكومته، حذر من أن الجريمة المنظمة «اتخذت أشكالًا جديدة ولكن مخيفة بنفس القدر». وبعيدًا عن العنف ـ والتهديد بالعنف ـ « وصلت التنظيمات الإجرامية إلى مجالس إدارة الشركات»، على حد قوله. وأضاف «إنهم يلوثون النسيج الاقتصادى من قطاع العقارات إلى سلاسل التوريد بالجملة». فالمعركة لم تنته بعد كما تؤكد ماريا فالكونى أخت القاضى المغتال.
رابط دائم: