رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

عايشة اللقية

إبراهيم عطية

ولما اشتدت أيام المحنة مع انتشار الوباء الذى حصد أرواح العباد، رفعت أكف الدعاء والتقرب إلى الله فى رفع البلاء انتظارا للمنحة الإلهية فى رفع الغمة وإنقاذ الناس الغلابة من شر «الكوليرا» التى جعلت نساء البلدة تتشح بالسواد فى جلابيبهن، فاضت العيون بالدموع من منابع مآقيها الساخنة فوق كانون الحزن، وأمطرت السماء بالصراخ والنواح، وعصفت نيران الخوف بالبيوت الطين، وأكوام الحطب انزوت فى قش الأرز، وتسترت على الخبر فى ماجور العجين المكفى أمام فرن الخبيز المغبر بسواد الدخان، مما جعل الدار فى قلق وارتباك، وهمس نسوة يفوح من الغرف البائسة والمجاز الواسع المتسخ وأسراب الناموس تلدغ جلدهن، الجميع مأخوذ بدوامة الدهشة، وحفنة من التراب «سكن الفرن» تبعثرها الرياح العاصفة، أمسك جدى «عاشور» جمرة الخلاص فى مواجهة الموت، وفتح تذكرة داود والطب النبوى بحثاً عن الدواء وإيجاد وصفة سحرية لشفاء ما أصاب «عايشة اللقية» بالوباء، انزويت بنفسى فى ركن الدار وشربت من «زير» القلق، ماء الورد من دفء قبلات عمتى وفيض أمومتها بدعواتها التى تنعش روحى المتعلقة بها.

وما وراء باب «الزريبة» إبريق ماء أسود مملوء للوضوء حتى ينشرح صدر جدتى، «عايشة اللقية» للصلاة، والتسليم بالقدر واستقبال مرضاة الله على البلاء بالدعاء، وزيارات النسوة، المتعبات من عصيان أبنائهن، وخيانة أزواجهن، أو حسد السلفات والجارات، أو فك عقدة العوانس قليلات الحظ والمربوط والمجنون والمعتوه وتأليف القلوب، ينشدن حجاباً، أو رقية أو تعويذة ترد عنهن شر الحسد وعين المرأة المغروزة بها مسلة أو الشرشرة من غدر الرجال أصحاب العيون الزائغة.

وعُرِّفت جدتى «عايشة» بتسلطها وجبروتها، تأمر فيطيع أوامرها كل من فى الدار دون تعقيب، ويا ويل من تسول له نفسه العصيان أو مجرد «البرطمة» بالكلام من نسوان الدار اللواتى ينادونها «يا أمه الحاجة»، ذات مرة نسيت خالتى «نفوسة» حلب الجاموسة بعد عودتها من الغيط سهواً منها لانشغالها فى أعمال أخرى، ولما نعرت الجاموسة، وشق زعيقها سواد الليل، أيقظت أهل الدار جميعا من عز النوم، دخلت إلى الزريبة ووجدت «الضرة» منتفخة يخر منها الحليب، فشاط غضبها وقذفتها بوابل من الشتائم والسباب واللى ما يشترى يتفرج.. :

- قومى فزى يا مره أنت واللى قانيكى.. !.

وانهالت على رأسها بـ «الشبشب البلاستيك»، وركلتها فى بطنها وبركت فوقها حتى أسقطت حملها، وصرخت خالتى «نفوسة» تستجديها وتتوسل إليها أن ترحمها.. :

- حرمت يا أمه.. خصيمك النبى توبة من دى النوبة، حقك عليه.

- نسيتى تطفحى على صدرك الزاد يا بنت

.. يا مره يا رمه.. داهيه تاخدك وتاخد اللى خلفوكى فى يوم واحد.. !

ولما أدركت بوهن صوتها، وفقدها الوعى، أرعبها نزيف الدم الذى أغرق ملابسها، فأدركت حجم الفاجعة، لكن لقسوة قلبها ظنتها تفتعل الإغماء، وهزتها بعنف.. :

- قومى يا مره.. مش بتخيل عليه حركات السهوكه ديه وكهن النسوان.. !.

لجمتها الدهشة ولم تحرك ساكناً، بعدما أحست بالمأساة التى وقعت على الدار، وقفنا جميعاً نشاهد المعركة التى وقعت، منذ بدايتها لا نستطيع التدخل، حتى لا تبعزق كرامتنا.

الرجال والنساء فى العائلة سواسية فى نظر عايشة اللقية، بعدما كتب الله لها عمراً مديداً ونجاها من وباء الكوليرا التى أصابتها فى صباها وعزلوها فى الزريبة أربعين يوما حتى لا تعدى أحدا، واكتفوا بإطعامها فصوصاً من الثوم ولقيمات من الخبز المحمص حتى تعافت، ودبت فيها الروح من جديد، ومنذ هذه اللحظة سماها أهل الأسدية «عايشة اللقية»، وأطلقوا علينا «أولاد اللقية»، تبدلت من امرأة وديعة هادئة، تأكل عشاءها القطة إلى امرأة قادرة، قوية، ريح عاتية لا يقدر عليها سوى رب القدرة.

ولم تكن «عايشة اللقية» إنسية كما يظن البعض من البشر، رأيتها تكلم الطير.. «تُلقلق» بلسانها للبط والأوز والدجاج، تنادى عليهم فيأتونها طوعاً، بل تشير إلى الحمام فى الجرار المدلاة من السقف، فيلتف حولها واقفاً فوق كتفيها وذراعيها، «تزغطه» بحبات الذرة وتسقيه من فمها، وعلاقتها مع «البسه» السوداء فى الزريبة أثناء فترة عزلها أثناء إصابتها بالوباء، تألفت روحياهما، كنت أسمعها تحدثها فى الليل، لتخبرها بما خفى عليها من بعض الأمور التى وقعت من وراء ظهرها، والبسة «تموء» بصوت خافت، تصغى لها، علمتها منطق الطير، وتقفز إلى حجرها متمسحة فى ملابسها، فتهدهدها مطبطبة عليها فى حنان إلى أن تنام فى وداعة وسكينة.

وكان جدى يبرر وقفته أمامها مذعوراً، ويؤكد قائلاً:

-أنا بخاف على زعلها يا ناس، صحتها عندى بالدنيا.. !.

هفت رائحة المسك الطيبة مع نسمة الهواء القادمة من ناحية الغيطان، فقامت مسرعة وفتحت باب الدار تنادى.. يا سيدى الخضر اسق زرعنا الأخضر.. فتعجبت لأمرها وسألتها.

< أنت بتكلمى مين يا ست.. ؟

فقالت:

< هذا سيدنا الخضر يمر بالمكان.

«بسم الله الرحمن الرحيم»، «الأولة بسم الله، والتانية بسم الله، والتالتة بسم الله، والرابعة بسم الله، والخامسة خمست فى عيون خلق الله».

ظلت رقية جدتى «عايشة اللقية» الدواء الشافى لكل ممسوس وملبوس بالجان، أو محسود ومعلول بالحمى ومصاب بضربة الشمس، إلى جانب ما تقوم به من تجبير المكسور والمجذوع، ودحرجت الأطفال الملوحين والمفروشين، صارت الدار فى العلواية مقصد القريب والغريب، وفاقت شهرتها «أبوهبل» المجبراتى يأتيها القاصى والدانى من بلاد خلق الله الواسعة، وتهل الركائب محملة بالمرضى ومن احتار فيهم الأطباء يجد عندها الشفاء، وتقوم بفك المربوطين من الأزواج، وشفاء المبتلين بالهوى، ووصف الدواء لكل داء، وقدرتها على تحضير «القرينة» ومصالحة الزوج مع زوجته، وأصبحت سيرتها على كل لسان فى الأسدية وذاعت شهرتها فى جميع البلدان.


إبراهيم عطية

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق