رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

اوان التوت

طارق فهمى حسين

لم ألتفت يومًا إلى شجرة التوت التي أمر بجوارها يوميًا في ذهابي وإيابي، بل لم أدرك لها وجودًا من الأساس إلا حين هلّت بشائر الربيع ؛ فإذا بهذه « التوتة « تُفصح عن نفسها بدلال حين يهل الربيع مصطحبًا معه أوان التوت ... ففي صباح أحد تلك الأيام من كُل عام، ودون ادنى تمهيد ، اللهم إلا تقلبات الجو في الأيام القليلة السابقة، تصطدم خطواتي بحبات التوت التي تبدأ في التناثُر على بلاط الرصيف وبمُجرد ان يقع نظري على تلك الحبات العنقودية الساحرة أجدني وكأن يداً حانية رفعتني من تحت إبطي برفق كما يحمل الأب، في عنفوان شبابه، ابنه الصغير، ثُم تُلقي بي تلك اليد إلى الخلف عشرات السنين إلى أحضان ذكريات ما قبل فجر يوم شم النسيم من كُل عام من أعوام الطفولة فإذا بأُمي توقظني وشقيقتي الصغيرة في رفق وبشاشة لنتأهب لرحلة كُل عام إلى قرية أبي القاطنة في أحضان الشريط الأخضر المُتجه نحو الدلتا، كان أبي دائما يُفضل التحركُ من قلب القاهرة قبل الفجر» ليُمسك» ببداية الطريق مع أول شُعاع للضوء فيصل إلى قريتنا مع بواكير الصباح ليدخُلها مع رفقته المُفضلة من الفراشات والنحل وأسراب أبي قردان وفُرادى الهُدهُد، ولتكون وجوه أبي وزوجته الودود وطفليه الصغيرين هى أول ما تصطبح به جدتي الجميلة الحنون البشوش في ذلك اليوم الربيعي الجميل في كُل عام من ذلك الزمن البعيد الرائع ..

كُنتُ على عهد جدتي الراحلة أُكن حُباً جماً لتلك القرية لأسباب كثيرة على رأسها وجود تلك الجدة الأسطورية جميلة الطلعة والروح، فضلاً عما كانت تغمُرنا به من حُب وترحيب وابتسامة ساحرة لا تغيب أبداً طيلة وجودنا حولها، ولعلها كانت تخُصني بالكثير من ذلك الحُب والترحيب رغم كثرة أحفادها ورغم حُبها الجارف لهم جميعاً لكني كُنت ابن» الصبي» كما كانت تُلقبه، أصغر أبنائها الذي غادر أبوه الدنيا وتركه في التاسعة من العُمر.

أسباب أُخرى كثيرة كانت تُفسر حُبي، في ذلك الزمان، لتلك القرية الصغيرة، فضلًا عن المانجو، ففيها التقي عددا كبيراً من الصبية والفتيات الصغار الذين يُقاربونني في السن ويتشاركون معي في ذات الملامح على نحو طريف ومُحبب إلى النفس! إنهم أبناء وبنات عمومتي، كانوا وكُنت– بعد – في زمن البراءة واللا غرض فكان بيننا الكثير من الحُب، حسب ظني، واللهو والمرح وكُنت وأحدهم وهو الأقرب لي سناً قد تبوأنا موقع الزعامة عن استحقاق فرضه الزمن حيثُ كانت المجموعة الأكبر سناً من أبناء الأعمام قد تجاوزوا سن الطفولة ودخلوا في مرحلة جديدة غامضة بالنسبة لي في ذلك الوقت، مما نجم عنه أن خلت السـاحة لي وله، لأن نفرض سيطرتنا المُطلقة على تحديد مجالات وأوقات اللعب.

كان النشاط الأكثر استحواذا على اهتمامنا في ذلك الوقت وفي ذلك اليوم بالذات، يوم شم النسيم، هو جمع التوت ، فكُنا نتشكل فيما يُشبه» السريّة « بقيادة كلينا وأنا بالطبع ونتسلح بحصيرة وحلة كبيرة نأخُذها من زوجة أحد أعمامي بعد طول تفاوض وندور على أشجار التوت في أربعة أركان القرية على سبيل الحصر، فيصعد في كُل مرة واحد أو اثنان منا، غالباً الأصغر سناً والأخف وزناً إلى الشجرة و تبدأ التوجيهات الصادرة من كلينا ومعنا ابن العمدة، ثالثنا في الترتيب العمري، لمن بأعلى الشجرة بأن يقطف من هنا ومن هناك، وأن هناك حبة أو اثنتين في ذاك» العُرف» البعيد لم ينتبه- أو تنتبه- إليها، أو أن يقوم من بأعلى بالاكتفاء بهز أحد الفروع دون الصعود عليه نظراً لرقة العُرف وسقوطه المؤكد بمن عليه في حال مُحاولة» ركوبه « وما ينتج عن الهزّ من تساقط حبات التوت تتلقفه الحصيرة التي نكون قد فرشناها تحت الشجـــــرة في بداية «حملتنا»، ثُم يتكفل باقي» الشغيلة « بجمعه ووضعه في الحلة ، ولا مانع بالطبع من تذوق حبة أو أكثر أثناء جمع التوت..

كانت أشجار التوت في قريتنا معدودة وكُنا نحفظ أماكنها عن ظهر قلب، وكان منها الأكثر تفضيلاً لدينا من سواها ، تحديداً الشجرة المُجاورة للجراج لسهولة قطف ثمارها بالصعود إلى سطح الجراج فتُصبح الثمار في مُتناول اليد في سهولة ويُسر، وشجرتان مُتجاورتان تقفان في نهاية الساحة المواجهة لبيت أكبر الأعمام، ذلك لأن إحداهُما كانت تطرح توتاً أبيض، والثانية تطرح توتاً أحمر، وهو الأعذب مذاقاً، فكان في تجاورهما وتنوعهما ميزة كبيرة حيث تكون الحصيلة كبيرة دون الحاجة إلى الترحال في» عز الشمس» لمسافات من تلك الشجرة إلى الأُخرى، كما أنه من المُمكن لمن نُكلفه بالصعود أن يقطف ثمار الشجرتين دون الحاجة إلى النزول من إحداهما للصعود إلى الأُخرى.

مع احتضار النهار وقبيل هبوط المغرب تكون الحصيلة بطونا لا يزيد حجمها على حـــواصل الطيور إلا قليلاً وقد امتلأت بالتوت، وحلة كبيرة من النحاس مملوءة عن آخرها بالتوت الأبيض والأحمر وسريّة من الأطفال لفحتهم شمس نهار بكامله وأرهقت أقدامهم الصغيرة كثرة التجوال وتسلق الأشجار فلم تعد لأي منهم طاقة على حمل تلك الغنيمة الثقيلة إلى البيت الكبير أو حتى إلى أعتاب السلاملك فيكون القرار بأن نقتسم حيث نحن ويحمل كُلٌ نصيبه بمعرفته، فنجلس على الحصيرة المنقوشة ببُقع التوت، في دائرة ونبدأ نحن» الزُعماء» في توزيع الحصص فتكون بالطبع « قسمة ضيزى « على حساب الأصغر والأضعف كما هي سُنة البشر في كُل زمان ومكان وينتهي الأمر بأن يغضب عامتنا وينصرفوا باكين فنتعاون ثــلاثتنا على رفع الحلة وقد خف حملها نوعاً ما وننصرف بها ضاحكين، أشراراً مُنتصرين! ...

تقافزت بنا الأعوام، ومرت بضعة عقود وباعدت بيني وبين أشجار توت طفولتي الكثير من الأحداث صنعها بعضٌ من البشر ، منهُم رفاقٌ في» سرية جمع التوت» ، ومنهُم من لم يكُن يوماً فرداً فيها ، لكن على أي حال هأنذا أستأنس في طريقي اليومي بشجرة توت لم تربطني بها يوماً ذكرى ما لكنها، بما تطرحه أمامي يومياً في مثل هذا الوقت من كُل عام من حبّاتها العنقودية الساحرة، تُحرك الكثير من الذكريات وتستحضر الكثير من الوجوه التي غابت... وتُذكرني، عاماً بعد عام، أن الإنسان، مهما خمد فيه من خلايا وأحلام، يظل حياً ما دام يرتقب ، عاماً بعد عام... أوان التوت.


طارق فهمى حسين

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق